2-7 الحجيّ راضي ومستشفى الحميّات !

 

2-7 الحجيّ راضي ومستشفى الحميّات !

 أ.د.  سامي سلمان

             في نفس ذلك الوقت الذي كنت أستمتع بالتدرب في مستشفى الحميات, كانت هناك حملة وطنية لمحو الامّية, تلك الحملة الواسعة التي شملت العراق من اقصى جنوبه لأبعد نقطة في شماله.. وطبعاً شملت تلك الحملة بعض عمال ومنتسبي مستشفى الحميّات.  

     كانت احدى الغرف المتروكة من المستشفى والتي كانت تستعمل كمخزن للأثاث المستعمل,  قد تم تجهيزها بال(رحلات المدرسية) والسبورة السوداء والطباشير و حوّلت الى صف دراسي. ومن ثم  تم تكليف إحدى المعلمات الشابات للمجئ  يومياً للتدريس ساعة أو ساعتين  يومياً.

  وكنت أراقب عمّال المستشفى من معينات ومعينين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وهم متوجهون نحو الصف متأبطين  كتبهم و دفاترهم.. كان منظرهم يبعث البهجة والسرور في نفسي فهم يذكروني بطلاب الصف الأشقياء في مسلسل (تحت موس الحلاق).. حجي راضي..عبوسي.. أبو ضوية.. ابو فارس ابو الكبة!. والرسالة  التي وصلت من الهند الى أم ضوية من إبنها والذي تبرع مشكوراً بقراءتها على طريقته وترجمها من العربية الى الهندية بأسلوب فكه ممتع..

     الرجل الخمسيني (ابو حسين) كان اصلاَ يعمل كحارس في مستشفانا وكان ابنه المتزوج (حسين-ابو علي) يعمل ك(سائق اسعاف) في نفس المستشفى. كان (ابوحسين) يدخل الصف بشاربه الكثيف جداً, واضعاً القلم فوق اذنه اليمنى, ومتأبطاً كتابه ودفتره, ثم يقضي الدرس وهو يرسم رسوماً ذات مضامين جنسية واباحية, لا أدري كيف يمكن لشخص أمّي أن يرسم تلك الرسوم بتلك التفاصيل!  وما إن تستدير المعلمة على اللوح حتى يقوم بعرضها خلسة على المعينات اللاتي كن ينتظرنها بشقاوة المراهقات!, يتمعن بالنظر إليها ثم يغطين وجوههن بـ (الشيلات) وهن يضحكن بشكل خبيث على تلك الرسومات!. (ابو حسين) الذي ما إن جلس على (رحلة) الصف حتى تحوّل الى طفل صغير أو مراهق عابث, وما إن  جلست المعينات اللواتي كانت اعمارهن تزيد عن الخمسين على (الرحلات) حتى تحولن الى تلميذات مدرسة شقيّات يتفرجن على ما يرسم (ابوحسين) أثناء حصة الدرس من رسوم ماجنة!.

     وفي هواية جديدة ممتعة لهؤلاء (التلاميذ والتلميذات) المسنين, ابتدأوا بإطلاق مختلف الشائعات عن المعلمّة الشابة والتي تتمتع بمسحة من الجمال, التي تقوم بتدريسهم!,  فتارة إن (عينها على الطبيب) الفلاني, وتارة إنها مخطوبة لفلان.. او متزوجة سرّاً..  او انها مطلّقة!.

    كانت حملة (محو الامية) تطبق بشدة وصرامة في كل انحاء العراق من اقصى جنوب العراق حتى آخر قرية صغيرة في شمال العراق!.  وحدثني احد زملائي من (اكراد أربيل), ماحصل في مدينة اربيل.  إذ ولكون كتاب محو الامية  يبدأ بأول درس بعبارة (راشد يزرع), محتوياً رسماً لفلّاح في مزرعة, فإن الأكراد في أربيل خرجوا في مظاهرة في مركز أربيل للاحتجاج على دروس محو الامية التي عطلّت مصالحهم وابعدتهم عن أعمالهم ومصادر رزقهم, وبسبب كون معظمهم يجهل اللغة العربية, فقد كانوا ينادون بأعلى اصواتهم بهتاف واحد (راشد لايزرع - راشد لايزرع)!.

    انتهت الشهور الثلاثة من (مستشفى الحميات) وأنا إنسان آخر!. الآن عندي ثقة كبيرة جداً بنفسي وبعلمي وبمهاراتي كطبيب, اكتشفت إنني أعشق هذه المهنة,  وإن بإمكاني أن أبدع فيها. واستلمت كتاب نقلي الى المرحلة الأخرى القادمة, وذلك بالتدريب على (الجراحة العامّة) في (مستشفى الطوارئ في الرصافة) والذي تم تغيير اسمه بعد أكثر من عشرة سنوات إلى (مستشفى الواسطي).

    افترقنا أنا و(م), فهو قد إستلم كتابه للتدرب على (الباطنية) في مستشفى (الشعب), ولكننا بقينا نتزاور بين فترة وأخرى,  فلم أكن أعرفه عندما التقيت به في هذا المستشفى, إلا إن الحب والصداقة التي جمعتنا صارت اقوى بكثير, كيف لا وقد قضينا ثلاثة شهوربدأت بمرارة شديدة, نتعلم فيها لحظة بلحظة كيف نكون أطباء, وانتهت ونحن نحّس بثقة أكبر وقدرة أكبر على اجتياز مرحلة جديدة من تدريبنا لنكون فعلاً (أطبّاء).


تعليقات

  1. نتابع بشغف دكتور ماتتحفنا به من معلومات ووقائع تاريخ عاصرناه باسلوبك الشيق

    ردحذف
  2. اخي العزيز د سامي المحترم ارجو منك الاستمرارفي كتابة هذه المذكرات الجميله باسلوبك الشيق فانت بسردك هذا ترجع ذكرياتنا جميعا وتمس ارواحنا وقلوبنا وليس الذكريات وحدها د رمزي هادي

    ردحذف
  3. سرد ممتع ومشوق ، شكرا استاذنا العزيز

    ردحذف
  4. جميل جدا قصه مشوقه

    ردحذف
  5. استاذنا الرائع الله يحفظك ويخليك على السرد الروائي الرائع

    ردحذف
  6. احسنت النشر والاختيار والسرد الجميل

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب