4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

 4-2  بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة



  القصة الأولى:     في نيسان من عام 1977 عندما جئت كمقيم اقدم مفاصل الى مركز و(مستشفى التأهيل الطبي في العيواضية). وجدت ان هناك قاعة كبيرة على جانب ردهتي المفاصل تمتد فيها خزانات خشبية من الأرض وحتى السقف, هذه الخزانات ملئت استمارات مطبوعة واضابير ومواد خاصة بالتحليلات المرضية, كنت في هذه المرة طرفاً فيها وشاهداً على بحوث  طبية خاصة!. فقد شهدت وشاركت بآخر البحوث التي أجريت عن دوائين ضج الإعلام الطبي بهما كان المقيمين الاقدمين (حامد الشكرجي) و(نجيب مرجانه) ما يزالان يمليان استمارات البحث عندما باشرت في معهد العلاج الطبيعي وبعد ذلك بحوالي ثلاثة او أربعة شهور سافرا الى انكلترا للإختصاص.

       قصة الدوائين ابتدأت قبل ذلك بعام تقريباًعندما نشرت الجريدة الرسمية تحقيقاً وسبقاً صحفياً عن احد الباحثين العراقيين (وهو ليس طبيباً), وإنما اختصاصي في الكيمياء الحيوية, إدعّى بأنه اكتشف دوائين لهما القدرة على علاج أنواع السرطان!.  ولكي يكون الزميل المكتشف متأكداً تماماً من ان الدوائين سوف يحصلان على الاهتمام الكافي من المسؤولين, ولكي (يلعب  مع الكبار) الذين يحكمون العراق آنذاك,   فقد اسماهما (بَكرين وصدّامين) تيمناً باسم ( أحمد حسن البكر ونائبه صّدام حسين).

       قامت الدنيا ولم تقعد!, تلك الفترة كانت قمة الثراء بالنسبة للعراق, وارداته من النفط جعلته من اغنى دول المنطقة وكان العراق وبمعنى الكلمة, (يلعب بالفلوس لعب)!.وجاء أمر من (ديوان الرئاسة) بتبني هذين الدوائين وإجراء كل البحوث الممكنة عليهما لإثبات فعاليتهما وبميزانية غير محدودة! وتحرك وزير الصحة, وصار هناك خط ساخن بين ديوان الرئاسة وبين المعنيين بالبحث. بعد فترة (تراجع) الباحث عن ادعائه بفائدتهما للسرطان!! وادعى أن دوائيه ليسا للسرطان وإنما لتقليل أثر التليفّات التي تحدثها الأمراض, وهكذا بدأت البحوث في (مدينة الطب) على (أورام المثانة) في شعبة الجراحة البولية والجزء الآخر على (داء التهاب المفاصل الرثوي Rheumatoid Arthritis) في (مركز التأهيل الطبي والمفاصل) الذي انتقلت إليه فيما بعد كطبيب مقيم أقدم. 

       تم الاتفاق مع خيرة (مراكز دراسة الأدوية) في بريطانيا لدراسة مفعول (البكرين والصدامين) على الحيوانات اولاً وهي دراسات مكلفة جداً  وتم إجرائها على الفئران, ولكن من يهتم للكلفة آنذاك؟ ثم بدأت البحوث على المرضى. تم فتح ردهات, وإدخال العشرات من مرضى أورام المثانة في مدينة الطب شعبة الجراحة البولية, و مرضى التهاب المفاصل الرثوي في الردهات التي استحدثت حديثاً في معهد العلاج الطبيعي, وتم تجربة الدواء عليهم بطريقة علمية بطريقة (التعمية المزدوجة) وتحت إشراف خيرة الاختصاصين العراقيين!.  وكان بعض كبار الاختصاصين البريطانيين يأتي الى بغداد كطبيب استشاري لمستشفى (ابن سينا) ويقوم بنفس الوقت بتتبع سير البحوث على الدوائين, طبعاً مقابل مبالغ وأجور واكراميات! يقال ان الباحث-المكتشف الدوائين حصل على قطعة أرض في بغداد على ضفة نهر دجلة, هدية من الدولة, اضافة الى هبات اخرى. (تم تصحيح ذلك من قبل اد زياد الراوي بأنها لم تكن قطعة ارض وانما اشترت له الدولة بيتاً).

      وبعد بحوث مضنية طويلة, صرفت عليها ميزانية هائلة من ديوان الرئاسة, ومبالغ من المال كان يمكن أن يستفاد منها في الكثير من مجالات تطوير الخدمات الطبية في العراق! وانتهت البحوث بأن الدوائين هي مسكنات للألم فقط ( مشابهة للفنيل بيوتازون وهو أقوى بقليل من الباراسيتامول, ولكنه أكثر سمّية)! وكانت التقارير النهائية تشير الى استحالة تسويق هذين الدوائين لانهما لن يصمدا امام السوق العالمي للادوية!. اذكر الخزانات الهائلة من الوثائق الخاصة ب(البكرين والصدامين) ومن مواد البحوث ومن مواد الفحص والتي كلفت مبالغ هائلة,  كلها ذهبت هباءاً وبدون اي فائدة!. 

القصة الثانية:        عند بداية إقامتي الدورية في (مدينة الطب) في أوائل عام 1974 وفي تلك الفترة ظهر شخص امّي (ملّا) من اهالي (الزبير), جاء به مهندس من  شركة النفط الوطنية إلى بغداد حيث  ادعى بأنه اكتشف دواءً يشفي داء السكّر, وان هذا الدواء هو مستخلص من الاعشاب وأنه ليس فيه اية مضاعفات وانه العلاج السحري لهذا الداء اللعين, وسمع رئيس الجمهورية آنذاك (احمد حسن البكر) وهو عسكري محترف, معروف بطيبته وسذاجته, وإيمانه المطلق بالطب الشعبي عند البدو والمشعوذين!, لذا فإنه أمر أن توفر كل الظروف ووضع كل الامكانات تحت تصرف هذا الشخص الملّا (الزبيري) وأن يتم تقييم فعالية علاجه في احسن مستشفى في العراق وتحت يد افضل اخصائي الطب الباطني.. وهل هناك أفضل من أ د (فرحان باقر) و (مدينة الطب)؟

     حكى لي  د (عدنان عنوز) في وقتها عندما كان هو المقيم الاقدم في الوحدة الباطنية الثانية وعندما صرت مقيماً دورياً تحت إشرافه, حكى لي عن فترة سوداء عصيبة مرت بها (مدينة الطب).. فقد افرغوا (عشرة اسرّة رجال) و(عشرة أسرّة نساء) وأدخلوا فيها جميع مرضى السكّر من العيادة الإستشارية, وقطعوا عنهم الادوية مثل الانسولين وحبوب السكر, وصار (عدنان عنوز) الطبيب المقيم الاقدم الذي عليه مرافقة هذا الرجل.

       كان (الملّا) رجلاً في حوالي الخمسين من عمره, وكان هذا الشخص يأتي صباح كل يوم ويباشر في  الجولة الصباحية على المرضى, يرافقه طبيب مقيم أقدم, هو صاحبي (عدنان), يقول (عدنان):

 "تصور أن الشخص يأتي بملابسه الشعبية العقال واليشماغ والعباءة العربية, ويسأل: "هذا المريض كم مستوى السكّر في دمه؟" 

يقول (عدنان) كنت أنظر الى طبلة المريض فأجيب:

 "200"! 

"يخرج الرجل (ذو العقال)(قنينة قذرة) من جيب  سترته و(محقنة-سرنجة) (اقذر منها) ثم يفتح غطاء القنينة ثم يدخل المحقنة ويسحب ثلاثة سنتمتر مكعب من السائل, يزرق نصفه في فخذ المريض, ثم يقول للمريض: 

"افتح فمّك"!

 ويضخ السائل الباقي في فم المريض!. 

وينتقل الى المريض الذي يليه, "كم كمية السكر؟" 

الجواب "300" 

"يسحب خمسة سنتمترات مكعبة من نفس القنينة القذرة يزرق نصفها في فخذ المريض ويضخ الباقي في فم المريض, ثم يعطى كل مريض كبسول على شكل جرعات يومية,  قبل  أن ينتقل الى  المريض التالي!" ..

"كان المّلا يجلب الطعام معه ويوزّعه على مرضاه ويقول لهم:  

"كلوا ولا تسمعوا كلام الأطباء!" 

قالها (عدنان) بمرارة, وهو يحكي لي عن فترة سوداء في تاريخ الطب في العراق الحديث, عندما بدأت صحة المرضى تتدهور شيئاً فشيئاً ويدخلون في غيبوبة وحموضة الدم, وبدأت الغرغرينا تأكل من أقدامهم. وظهرت (خراجات) في أماكن زرق الإبر وفرّ عدد من المرضى من الردهة, وآخر مريضة (المرحومة) بصقت في وجه الملا قبل  أن تموت!" خلال تلك المأساة أخذ الأستاذ مسؤول الطابق والوحدة الطبية إجازة واختفى!" قال لي (عدنان).

       وبعدما تدهور حال جميع المرضى اتصل المعنيون والأطباء بوزير الصحة يستغيثون  ويستعطفونه أن تتوقف المهزلة وان توقف هذا (البحث الغبي), وتم لهم ما أرادوا وجاء امر (ايقاف البحث) و ابعاد (الملا-ابو عقال) من (مدينة الطب)!.

القصة الثالثة:        بعد ذلك وفي التسعينات (ظهر) أحدهم على شاشات التلفزيون, هذه المرّة كان (طبيباً) اسمه (مشعل الساري),  ظهر في مقابلة له مع (صدام حسين) وكان مما ادعاه أنه كان عنده (طير) مريض يوشك على الهلاك, وإنه أعطاه خلطة (سحرية سرية) وتماثل الطير للشفاء فوراً, وإنه وجد هذه الخلطة تشفي أنواع السرطان فبدأ بإعطائها للمرضى اليائسين الذين تهافتوا على عيادته!. ثم وبشكل درامي ناشد (صدام حسين) قائلاً:

"سيدي.. أريدك فقط أن تحميني…. من زملائي الأطباء!!"

وكان له ما أراد! فقد خُصصت له حماية من الحرس الخاص على مدار 24 ساعة يحرسونه وهو يمارس أحدث ما توصل له (فن الدجل والشعوذة).. ومثلما ظهر فجأة إختفى فجأة..

 القصة الرابعة:      وفي أواسط التسعينات جاءني تكليف من وزير الصحة د (أوميد مدحت) كعضو لجنة لفحص جهاز يدعي صاحبه أنه (جهاز كهربائي يشفي مرض السكر وأمراض المفاصل).. قمت بمقابلة ذلك الشخص بصفتي رئيس اللجنة الإستشارية للمفاصل وكان العضو الآخر هو المرحوم  الشهيد الدكتور (أحمد شاكر  الزيدي) أخصائي السكر والغدد الصم. 

كان الشخص يعمل سابقاً كمساعد مختبر في كلية الطب, سألناه عن جهازه الذي هو صندوق خشبي يبرز منه سلكان كهربائيان, أخبرنا أن المريض يمسك القطبان الكهربائيان وما أن يشغل الجهاز حتى تشفى المفاصل ويشفى السكر!. سأله زميلي ما نوع التيار وما تفاصيله هل هو مستمر أم متناوب؟ كم الفولتية والأمبيرية؟, هنا رفض وقال "إنه سر إختراع ولن اطلعكم عليه!" سألته كيف تعرف إنه فعال فعلأً؟ قال هذه هي القوائم وزودنا بقوائم العشرات من الناس بأسمائهم ونسبة السكر قبل وبعد الكهرباء. قلت له: 

"انت لست طبيباً فمن اعطاك الحق بمعالجة هؤلاء  الناس وهي تحتاج الى ترخيص؟".

هنا اخذته فورة من العصبية وقال: 

"أنا صالة بيتي تغص بالعشرات من البشر الذين أعالجهم وهذا ما أعطاني الحق!".. 

نظرت في وجهه و قلت له:

 "هل تعلم اننا لو كنا في دولة تحترم نفسها وشعبها  لكنت الآن مُلقى في السجن لممارسة الطب بدون بحث  أو دليل علمي وبدون ترخيص؟"! 

حصل تلاسن بيني وبينه وأخذ  جهازه وخرج.

       بعد اسبوع ظهر  تحقيق صحفي في مجلة (الف باء) من ثلاثة صفحات زارت فيه صحفية منزل هذا الشخص واشادت بالإنجاز العراقي العظيم و بالمعجزة الوطنية! وكتبت بالحرف الواحد عن لسانه أن  (الدكتور سامي سلمان) "قد هددني بالسجن وأراد أن يسرق اسرار اختراعي"!..

        ما يزال هذا الشخص -ولحد الآن- يمارس هوايته في تعريض الناس للكهرباء بحجة إشفاء مرض السكر وأمراض أخرى..  تحت أنظار ومسمع كل الجهات الحكومية, بما فيهم نقابة الأطباء ومفتشو وزارة الصحة!..

       وهكذا تستمر مهزلة الدجل في بلادنا. وبقي العراق في كل بضعة سنوات يخرج لنا شخص يملأ الصحف بادعاءات انه (قاهر السرطان) او انه (قاهر السكر),ومؤخراً ظهر لنا.. (قاهر الكورونا)!.

 في بلد  (كلّه قهر)! 

 التعقيب التالي وصلني بالايميل من احد الزملاء الصيادلة

الاخ كاتب المقال عن دواء(بكرين وصدامين) انف الذكر  لقد كلفت الشركة العامة لصناعة الادويه في سامراء بتحضير هذا المنتج لغرض تجربة العلاج في مدينة الطب  ومن سوء الطالع كلفت بتحضير الدواء  في قسم الحبوب  بعد ان تم  اخباري  بطريقة تصنيعه في الوجبة الاولى بحضور الشخص المكتشف له مع فرد اخر (اوربي) ( اعتقد بريطاني) لم يلبثوا في القسم اقل من ساعه بعد أن ذكروا لي كيفية التصنيع بموجب ورقة من قسم البحوث  كحال اي منتج من منتجات سامراء,  وبقيت اصنعه رغم انه جرت البحوث  الكيماوية عليه فوجدوه انه من مشتقات (فينيل بيوتازون)  الدواء  في طريقه للأفول لعلاج التهابات المفاصل   في ذلك الوقت كون له مضار جانبيه كثيره,  وهو في الأساس مسكن لآلام المفاصل وهناك العديد من المسكنات اقل بكثير من آثاره الجانبية.  كنت أعاني منه الأمّرين في تحضيره إذ كان يأتي ببرميل سعة 25 كيلو غرام وهو عبارة عن كتل صمغية يابسة  يستهلك وقتاً في تحويله الى حبيبات صغيرة لكي يخلط مع باقي المواد المساعدة لكي يتحول الى مزيج يمكن أن يأخذ شكل  حبة الدواء. 

اما من ناحيه تعبئته  كمادة أولية  لم يكن يشابه منتج دوائي  بل كان كمنتج  لاغراض البناء وضل هذا الامر مستمرًا رغم ان هناك جهات عديدة من ضمنها (سامراء) ابدت رايها الصريح به وأنه أحد مشتقات( الفنيل بيوتازون) وهناك الكثير من تقارير منظمة الصحة العالمية بعدم استعماله لمضاره الجانبية الكثيرة ولوجود بدائل أقل  سوءا منه في السوق حتى تم الإشارة للأسبرين انه افضل للمريض من هذا الدواء الذي لم تجر عليه بحوث مخبريه ولا سريرية للتأكد من سلامة استعماله للمرضى!.

 أمّا من ناحية التحضير الذي كلفت به فكان يأخذ وقت يوم كامل متفرغه  شعبه التحضير, مما يعرقل  سياسة إنتاج بقية المستحضرات ويسبب خساره للشركه يوم كامل لإنتاج مستحضر لاينفع وبه و مضار جانبيه كثيره  وله بدائل كثيرة  ولا توجد له دراسات  ولم تجر عليه فحوصات مخبرية وحيوانيه وكنا  متأكدين من اللحظة الأولى أن هذا المنتج ضار جدا وليس غير نافع فحسب, إلا ان التوجيهات  كانت شديده واقارنها بالحروب التي اكلت الاخضر واليابس ولم يكن في أيدينا شيء. 

الصيدلي سمير  الجبوري.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب