2-7 مستشفى طوارئ الرصافة

       2-7 مستشفى طوارئ الرصافة
 أ.د.  سامي سلمان

          حملت حاجياتي في حقيبتي الصغيرة في بداية شتاء 1973 وأخذت كتاب (الانفكاك) من (مستشفى الحميات) و ارفقته بكتاب (مديرية الامور الطبية) وركبت سيارة الأجرة إلى مستشفى (طوارئ الرصافة) الواقع في (منطقة العلوية) مقابل مستشفى (العلوية للولادة) الحالي,  للتدريب على (الجراحة العامة), (وقد تغير اسم المستشفى فيما بعد إلى مستشفى الواسطي). سجلت مباشرتي عند شعبة الافراد وتعرفت على (رئيس المقيمين), بحثت عن طبيب مقيم أقدم كنت قد صادفته سابقاً, أثناء وجودي في مستشفى (الحميات), وعرفت فيه انساناً رائعاً وهو المقيم الاقدم الدكتور (صباح حسن) (المرحوم صباح حسن كان في طريقه الى الدوام في المستشفى اثناء الغارات الامريكية على بغداد في 2003 وتم قتله من قبل القوات الامريكية رحمه الله واسكنه فسيح جناته).

   مستشفى (الطوارئ) كان حديث البناء  وضمن أفضل المواصفات الدولية, شتان مابينه وبين  (مستشفى الحميات), ذلك المستشفى البالي المتهالك الذي جئت منه!. (دار الاطباء) الجديد كان جميلاً ونظيفاً وكل طبيب له غرفته الخاصة, وضعت حاجياتي القليلة في غرفتي الجديدة في (الدار), وعند الغداء ظهراً تعرفت على بقية الأطباء المقيمين في المستشفى.

          كان من دورتي هناك الدكتور (باسل كبة) و (حسان عاكف) و(ح.ع) وهم من كلية الطب في بغداد, ومعنا (فاروق الكفيشي) من دورتنا ولكن خريج الموصل, وكان هناك المقيم الاقدم في الجراحة الانسان الرائع (صباح حسن) ورئيس المقيمين الدكتور(زهير) والدكتور (ناطق)وهما جراّحان والدكتور (ماجد) والدكتور (سعد) وهما مقيمان اقدمان في الكسور. وكانت تشاركنا في السكن في (الدار) طبيبتان, كلتاهما طبيبتا تخدير.

        إبتدأ تدريبي على الجراحة بشكل جيد واخذت احبّ المهنة, بل وصرت أبرع فيها. كان هناك ردهة ل(الحروق), وبما أن الموسم الآن قد صار شتاءً فإن الردهة كانت تعج بالمصابين بالحروق بمختلف درجاتها, البعض منهم قضاءً وقدراً بسبب انفجار مدفأة نفطية سيئة الصنع أو تسرب النفط منها, والبعض الآخر وهم أغلبية الشابات المحترقات اللاتي  كانت حروقهن شديدة وجميعها بسبب الطريقة العراقية (المحزنة) في الإنتحار!. تلك الطريقة المفضلة عند الشابات بصب النفط على ملابسهن ومن ثم إشعال النار فيها. ورغم أن ذوي المحترقة كانوا يصرحّون في كثير من الأحيان بأن الحادث قد وقع قضاءً وقدراً, إلا أن شّدة الحروق والتي كانت دوماً بدرجة واسعة وخطيرة وقتّالة عند فتاة في العشرين من عمرها,  تحكي لنا قصة اخرى مؤلمة ومحزنة. لست أدري إن كان هناك بلد آخر في العالم –عدا العراق- تتعمد فيه الفتيات على إحراق انفسهن عندما يصل حالهن الاجتماعي الى وضع ميؤوس منه!. لا ادري ان كان احد ما قد درس هذه الحالة؟ او خرج منها بنتيجة؟ ولماذا في العراق؟ هل هو بسبب الكآبة العامة والقهر الذي يحيط بشعبنا على مدى تأريخه ام سبب اخر؟. كنت اذهب راكضاً الى الردهة لكي أجري (قص وريد), حيث أشق الجلد على منطقة في أسفل الساق قرب الكاحل, حيث يوجد هناك أحد أكبر الأوردة, كي اتمكن من وضع أنبوب مغذّي كبير الحجم لاعطاء السوائل بكميات كبيرة وسريعة لتعويض الكميات الكبيرة التي تفقد من خلال الجلد المحترق. وفي كثير من الاحيان كانت جهودنا عقيمة وغير ذات جدوى, وتنتهي بموت الفتاة المسكينة خلال يومين او ثلاثه بسبب توقف الكليتين و التهابات جرثومية.

    قمت ولوحدي, بإجراء عملية (زائدة دودية) لاحدى المريضات بعد شهر واحد من وصولي الى مستشفى الطوارئ وذلك بفضل الجراح الطيب والانسان الرقيق المرحوم (سامي لورنس), والذي كان كل همّه تعليمنا الأصول الصحيحة في الجراحة, وتعلمنا منه المهارات الاساسية. امّا خياطة الجروح والختان والعمليات الصغرى, فقد تعلمناها جميعاً على أيدي المضمدين! وصرنا نجريها في العيادة الخارجية وبوقت قصير جداً. وفي الأسابيع الأولى من تدريبنا كنت ترانا جالسين في أوقات الفراغ في دار الأطباء ونحن نتمرن لساعات على كيفية القيام بعقد الخيط الجراحي باستعمال يد واحدة, او كيفية خياطة الجروح بطرق عديدة..

 

    وفي المستشفى كانت (ام جواد), احدى المعينات,  تأتي لإيقاظي من نومي عندما اكون (خفر ردهة), حيث يكون بإمكانك أن تنال قسطاُ من النوم  ليلاً ان لم يكن هناك دخول مرضى, بعكس (خفر العيادة الخارجية), والذي كان من الصعب عليه النوم بسبب إستمرار تدفق الحالات التي تراجعه طوال الليل,  كانت (ام جواد) تطرق باب غرفتي وهي تصيح: .

-         دكتور اكعد دخل عدنا مريض!

-         ام جواد شمبيّن عليه ؟ شنو بيه؟

-         والله دكتور يتلوى ولازم  بطنه يمكن (بَلِندَكس)!(زائدة دوديةappendix )!.

 

      لم تمر تلك الفترة دون منغصات!. فبعد أقل من شهر كنت شاهداً على معركة بين ممرضتين في ردهة الجراحة-نساء, بسبب نسيان تعقيم (سيتات) أدوات جراحية نحتاجها في الردهة. علا صياح الممرضتين وتطور الصياح الى الشتائم ثم الفاظ بذيئة لم اسمع بمثلها من قبل!. الفاظ بذيئة يكتشفها القاموس العراقي لأول مرة. وبما أنني كنت الطبيب ال(خفر ردهة) تلك الليلة فانني تدخلت لوقف المعركة, وصرت طرفاً فيها, ظناً مني ان عليهن ان يحترمنني  لكوني الان (مدير المستشفى بعد الدوام)!. وأنهما بعراكهما امامي تبديان أسوأ أنواع قلة الانضباط!.

       وفي الصباح التالي رفعت (مطالعة) الى مدير المستشفى اوصي فيها بمعاقبتهما على إساءة التصرف والسلوك أمام أنظار ومسامع المرضى!. بعد بضع ساعات كان هناك تحقيق ولكن التحقيق كان ضدي!. وجاءني رئيس المقيمين  معاتباً على انني وضعت نفسي في مأزق لأن الممرضتين -بعد ان عرفن أنني قدمت شكوى- قد كتبتا هن الاخريات شكوى ضدي فيها الكثير من الافتراء عليّ!. وهكذا بدلاً من ان تعاقبا, كان عليّ ان اكتب إفادتي أمام رئيس المقيمين محاولاً تبرئة نفسي... من تهم مُفتراة!.

       تمكن رئيس المقيمين من غلق التحقيق ومن إنهاء القضية, ولكنه نصحني بحكمة ثمينة عندما قال لي "إلى متى تبقى ساذجاً؟ هل تظن أن المعركة بين الممرضة فلانة وعلانّة كانت بخصوص تعقيم الأدوات؟ انت تبقى غشيم ؟"!.

    بعدها أخبرني سّر المعركة, حيث ان هناك ممرضة متدربة صغيرة وجميلة وكلتاهما تحاول أن تستميلها  للإيقاع بها في حبائلها!, فكلتا الممرضتين معروفتين بالسلوك المنحرف, وكل منهما تريد أن ترمي شباكها لأصطياد المتدربة الجديدة كي تدخل ضمن مجموعة (دعارة) تديرها كل منهما!.

    كان مستشفى (طوارئ- الرصافة) يقع في قلب منطقة البارات والملاهي والنوادي الليلية في بغداد وكان تعاملنا اليومي مع السكارى ومع جرحى الحوادث يعني اننا انفسنا لم نكن ابداً بمأمن من الاعتداءات من قبل السكارى اومن قبل ذوي المرضى الذين يجلبون بعد تعرضهم للحوادث. ورغم أن المستشفى نفسه كان تحت حماية الشرطة وهناك ضابط شرطة وأفراد يفترض أنهم لفرض القانون وحماية الاطباء, الا ان تدخلهم كان دوماً معدوماً او متأخراً جداً بعد ان يكون الطبيب قد أهين وضرب واعتدى عليه ومزقت ملابسه! وفكرنا بأن هذا الحال لايمكن ان يستمر لاننا وفي كل يوم كنا نتعرض للضرب  وقررنا أن نقوم بالتدخل السريع بانفسنا! فيكفي ان يأتي المعين الى دار الاطباء راكضاً مستغيثاً صائحاً (عركة بالعيادة الخارجية!) حتى يقفز الجميع,  البعض ب(بيجاماتهم) او بـ (الدشاديش) وب(النعال) أو حفاة! ثم يتم الدخول في المعركة فوراً, بوكسات و(كلاّت) و(جلاليق) قبل انتظار سماع التفاصيل!.

      وقد نجحت هذه الخطة في الحد من التعديات التي كنا نتعرض لها وصار المعتدون يحسبون ألف حساب قبل ان يتجرؤوا و يمدوا ايديهم على الطبيب لأنهم يجدون امامهم فوراً اربعة او خمسة من الشباب المقاتل المستعد للدخول بالمعركة لصالح زميلنا!


وصلني التعقيب التالي من الزميل رمزي برنوطي مشكوراً

         عندما بدأت اقامتي في مستشفى الطواريء في شارع الشيخ عمر، سنة 1965 ، كان د. جميل الجلبي ، رئيس المقيمين، قد غادرها حديثا، بينما كان زميلاه عادل عمر (ان لم تخنني الذاكرة) و طبيب آخر، كانا بانتظار امر نقلهما، وكان زملائي محمد الخفاجي وعبد الكريم كمن هما المقيمان الجدد الذين سبقاني. كانت قاعة استراحة الاطباء مملوءة باجهزة رياضية متنوعة ومن ضمنها اثقال تستخدم لتقوية العضلات وكان الاطباء المقيمين يتدربون عليها يوميا. حدثني زملائي ان من كان يتطاول على المستشفى او الاطباء ، ممن يراجعون المستشفى او ممن تصاحبهم الشرطة لتقدير درجة السكر (كمية الكحول في الدم) ، لا بل وحتى من منتسبي الشرطة ، كان الاطباء المقيمين يتعاون لتلقينهم درسا في احترام من يخدمهم . ولذلك بعض السكارى الذين كانت تجلبهم الشرطة الى المستشفى يتوسلون ضابط الخفر ان يرسلهم الى اي مستشفى اخرى ، كونهم كانوا قد تلقوا درسا. من ضمن من تلقى درسا قاسيا ضابط شرطة تطاول على الاطباء فاشبعوه ضربا مما اضطرهم الى ارقاده في المستشفى ثلاثة ايام. كانت الشكاوي تصل وزير الصحة شامل السامرائي ، الذي كان يكتفي ، حسبما قيل لي، يكتفي بالعتاب الشفهي وطلب عدم زج المؤسسة الصحية بمشاكلز


تعليقات

  1. لاادري ان كان واجب الطبيب الخافر هو لمعالجة هؤلاء المنحرفون والسكارى والشقاوات وتحمل فظاظتهم وقلة ادبهم..وماهو الجزاء ..حتى يعودوا للاستمرار في انحرافاتهم...سيقول الاغلبية ان ذلك من واجب الطبيب وان امرهم لايعود له فواجبه انساني بحت والباقي على المجتمع والقانون ..لكني لااتفق مع هذا التبرير..

    ردحذف
  2. عندما بدأت اقامتي في مستشفى الطواريء في شارع الشيخ عمر، سنة 1965 ، كان د. جميل الجلبي ، رئيس المقيمين، قد غادرها حديثا، بينما كان زميلاه عادل عمر (ان لم تخنني الذاكرة) و طبيب آخر، كانا بانتظار امر نقلهما، وكان زملائي محمد الخفاجي وعبد الكريم كمن هما المقيمان الجدد الذين سبقاني. كانت قاعة استراحة الاطباء مملوءة باجهزة رياضية متنوعة ومن ضمنها اثقال تستخدم لتقوية العضلات وكان الاطباء المقيمين يتدربون عليها يوميا. حدثني زملائي ان من كان يتطاول على المستشفى او الاطباء ، ممن يراجعون المستشفى او ممن تصاحبهم الشرطة لتقدير درجة السكر (كمية الكحول في الدم) ، لا بل وحتى من منتسبي الشرطة ، كان الاطباء المقيمين يتعاون لتلقينهم درسا في احترام من يخدمهم . ولذلك بعض السكارى الذين كانت تجلبهم الشرطة الى المستشفى يتوسلون ضابط الخفر ان يرسلهم الى اي مستشفى اخرى ، كونهم كانوا قد تلقوا درسا. من ضمن من تلقى درسا قاسيا ضابط شرطة تطاول على الاطباء فاشبعوه ضربا مما اضطرهم الى ارقاده في المستشفى ثلاثة ايام. كانت الشكاوي تصل وزير الصحة شامل السامرائي ، الذي كان يكتفي ، حسبما قيل لي، يكتفي بالعتاب الشفهي وطلب عدم زج المؤسسة الصحية بمشاكل. رمزي برنوطي

    ردحذف
  3. سامي الورد....لقد عملت في الألوية مثل الحلة وكربلاء ولم تمر عليه حالة إعتداء من هذا النوع على الأطباء ولكن فقط عند عودتي إلى بغداد بدأت اللغاوي : ضرب بالكراسي , سحب سجاجين, بوكسات...الخ لكن أروع شئ كما قلت هو تكاتف الأطباء والمعينين
    السؤال : هذيج بوكت "الخير" لعد هسه شكاعد يصير ؟؟
    لقد تأخرت كثيرا بالتعليق على البوستات وفاتني الكثير منها
    تحياتي
    جعفر

    ردحذف
    الردود
    1. حبيبي جعفر.. كم انا سعيد لتعليقك.. وكم اتمنى ان تكون قد قرأت البوستات السابقة خصوصاُ تلك التي أثارت اهتمام كبير من القراء والتي تخص الخدمة العسكرية اثناء حرب الشمال.. اتمنى أن تقرأها وان سمح وقتك ان تعلق عليها..
      هناك كروب على الوتسب لمحموعة طلاب دورتنا هل بودك الانضمام لها؟؟
      أخوك المحب سامي

      حذف
  4. هذه الاعتداءات على الأطباء الظاهر قديمه وليس حديثه ولكن بزمن اخو هدله ماكو واحد يجرأ ويعتدي على الأطباء فقط بعد ٢٠٠٣ صارت هذه الظاهره. تحياتي لك أستاذنا الفاضل سامي سلمان.
    د.خالد علي زاير أخصائي كسور

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب