رعب في بغداد.. وجلسات سمر

 من دفتر مذكراتي عن بداية حياتي الطبية خلال المدة الأولى من تخرجي وتعييني (طبيب دوري) في (مستشفى الحميّات) صيف عام 1973. وهي احدى صفحات كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثاً) الذي في النية نشره في الأشهر القادمة ان شاء الله...

رعب .. وجلسات سمر


مر العراق في صيف عام 1973 بأحداث خطيرة. فبعد مدة من مباشرتنا مهام عملنا في (مستشفى الحميات) دخَلتَ بغداد كلها في حالة من الفزع و الرعب الجماعي والهستريا العامة بسبب ذلك السفّاح الطليق (أبو طبر), وتممكنه بسرعة من تنفيذ جرائمه البشعة في أحياء عدة من بغداد, التي ارعبت العوائل العراقية وقضت مضاجعهم, ومما زاد الأمر سوءاً ان وسائل الاعلام العراقية (عمداً أو غباءً), صورت السفاح وكأنه يمتلك قدرات خارقة على اقتحام البيوت و تسلق أسوارها وقتل أصحابها بطرق وحشّية لم يسبق لها مثيل, وأسموه (ابو طبر) فهو يقتل باستعمال (الطبر- البلطة).
وأصيبت بغداد بحالة من الرعب والهلع قضّت مضاجع أهلها وصار الأهالي في جميع محلات بغداد يتناوبون على الخفارات دون أن يناموا طوال الليل, خوفاً من تسلل ذلك السفّاح!. وأعلنت الحكومة إيقاف الطيران من وإلى بغداد و(حظر التجوال) لمدة يومين لتفتيش البيوت بحثاً عن أدلّة تمكنهم من القبض عليه. كما قامت الحكومة بطلب العون من بعض الدول الأوربية للنصح وإيجاد الطرق للبحث وإلقاء القبض على السفاح (أبو طبر).
أهلي كباقي الناس في بغداد مرّوا بحالة الرعب التي اجتاحت العاصمة, وامتلأت شعب الطوارئ في المستشفيات بمختلف حالات الهستيريا وبعض الحالات المؤسفة التي حصلت للناس بسبب الخوف والرعب والذعر وتصور إن (السفاح) مختبئ في حديقة كل بيت او كل زاوية من بيت!.
ألقت تلك الأحداث المفزعة بظلالها على مستشفانا والكادر الصحي العامل فيها!. ممرضاتنا الخافرات كن يخشين النوم من شدة الرعب الذي اصابهن,, ولذلك كنا نجلس الساعات الطوال ليلاً ونحن نسهر, والكل يخشى ان يخلد للنوم خوفاً من مجئ السفّاح (ابو طبر). وصدق من قال: (رب ضارة نافعة) فقد صرنا نستمتع بأحلى جلسات السمر في ليالي الصيف الحارة , وبعد نهار من التعب وعند حلول المساء نكون قد أتممنا فيه علاج مرضانا وانتهينا من الدورة المسائية وتوزيع الأدوية, كان يحلو لنا انا وزميلي (م) الجلوس مع خفراء المستشفى من ممرضات وعاملات (معينات) وسائق سيارة الإسعاف ووالده حارس المستشفى, حيث الجو البارد في حديقة المستشفى, وأقداح الشاي (المهيّل) تدور علينا.
إحدى الممرضات كانت تتمتع بصوت رائع وأداء أروع, كانت مطربة حقيقية! .. وكان اختصاصها هو أغاني (أنوار عبدالوهاب).. ورائعتها التي تغنيها يومياً نزولا عند رغبتنا بتكرارها, والتي صرت احفظها عن ظهر قلب.. (داده حسن) و... با إلهي... ما أجمل صوتها..
(كل الوجوه ثكال من يكبل هواي..
لا ام تحن لبجاي.. لا خالة وياي)..
طبعاً تغنيّها مع بعض ال(هزّات) الخفيفة للكتفين!..وهي ضرورية لضبط الإيقاع و الدخول في حالة الإنسجام مع اللحن!..
ومن الطرائف ان إحدى المعينات كانت شديدة السواد.. لكنها لثقتها المطلقة بنفسها كانت تتغزل بسوادها..وكانت ترى أن المرأة السوداء مطلوبة بشدّة في مجتمعنا! وإن (سوقها رائج)! لأنها (سوداء.. دواء للظهر)!!.. تقولها بقناعة وثقة مع الكثير من الغمز واللمز!!. ربما تكون قد تأثرت بالبيت الشعري لذلك الشاعر الكذاب المنافق القائل:
الناس تعشق خالاً في وجه حسناءِ
فكيف لا أهوى حبيباً كلّهُ خالُ
(وبعد مرور سنين طويلة على مأساة (ابو طبر) وعندما صرت طبيباً مختصّاً بالمفاصل. كنت احياناً أمزح مع مرضاي المصابين بآلام مزمنة في الظهر وقد أعيتني الحيل في علاجهم ولا أجد أي وسيلة للتخفيف من معاناتهم.. سوى نصح المريض بأن عليه الزواج.. من إمرأة سوداء البشرة (دوا الظهر))!..
وكان التسامر والحديث احياناً يتعدى حدود الممنوع!. حيث تبدأ كل مُعينة بالتباري مع الأخرى لتحكي لنا عن تجربتها (المريرة)!! في (ليلة زواجها) (ليلة الدخلة)! إحداهن قصّت لنا وبالتفصيل كيف هربت مرعوبة من (الرجل الغريب) الذي (دخل غرفتها), وكيف أنها اختبأت تحت السرير,, و إن عريسها اضطر لسحبها من قدميها حيث كانت متشبثة بأرجل السرير وهي تصرخ مستغيثة من شدة الخوف!.
الأخرى تحكي كيف ان زوجها كان ينام على سطح البيت في ليالي الصيف الحارة بينما تنام هي والاطفال في باحة البيت, وعندما يرغب زوجها فيها, فإنه يبدأ بإلقاء نوى التمر أو حصى صغيرة عليها لإيقاظها, وكيف إن الحصى كانت أحياناً تخطيء هدفها و تسقط على رأس أحد أطفالها النائمين, فيستيقظ الطفل مالئاً الدنيا عويلاً و صراخاً والدم ينزف من رأسه, وينهي احلامهما بالحصول على (ليلة رومانسية) ممتعة..قد أفسدها عويل طفلهما!.
كانت العاملات (المعينات) واكثرهن قد تجاوزن الخمسين من عمرهن أكثر الناس جرأة في طرح تلك المواضيع, ولا يتحرجن من الدخول ب(التفاصيل), كنا نستمتع بتلك القصص وقد إحمرت وجوهنا خجلاً من تلك الجرأة و (الشفافية) الزائدتين التي تتمتع بها العجائز الخمسينيات وهن يتحدثن عن ليلة الزفاف..!! و نبدأ بالضحك ملء أشداقنا, فنحن نحصل على (ثقافة جنسية) حقيقية مجانية ولاسيما صاحبي (م) والذي فيما يبدو كان يكتشف مرحلة المراهقة.. لأول مرّة في حياته!.
إستمّر رعب البغداديين من (ابو طبر) لعدة أسابيع وعندما كنت ازور اهلي مرة في الأسبوع (لمدة نصف يوم!) , وابيت ليلتي هناك, وجدت انهم قد غيّروا المكان المعتاد لسريري فوق سطح البيت. كنا ككل العراقيين ننام صيفاً فوق السطح, ولأول وهلة لم اشك بسبب تغيير مكان سريري الى مكان جديد, ولكني فهمت في الصباح التالي ان المكان الجديد يسّد الباب على مدخل السطح, وأنهم قد وضعوني مع سريري في مكان لحماية باب السطح دون ان يعلموني! أي إنني كنت (درع بشري) وكبش فداء دون أن أدري!. كان أبي من الناس الذين جهزوا انفسهم لملاقاة (ابو طبر) وكان يقضي الليل مستيقضاً, وهو يضع المسدس الكبير القديم من نوع ال (ويبلي-أبو البكرة) تحت مخدتّه جاهزاً للإطلاق!.
انتهت محنة (ابو طبر) بنشوب حرب (تحرير قناة السويس) او ما يسميه إخواننا المصريون ب(حرب اكتوبر) أو (العبور), وهي في السادس من الشهر العاشر من عام 1973 حيث قامت الدنيا وقعدت والاذاعات تبث الأناشيد الحماسية (ام كلثوم) و(عبدالحليم حافظ) و(محمدعبدالوهاب) (يا أهلاً بالمعارك يابخت من يشارك), (والله زمان ياسلاحي), (اضرب لأجل الولاد اضرب لأجل البلاد), (أخي جاوز الظالمون المدى), فضلاً عن انشودة (مرحباً يا معارك المصير.. مرحباً يا عوادي الزمن). تلك الأناشيد الحماسية التي ألهبت مشاعرنا الوطنية وأثارت النخوة في نفوسنا. معارك على جبهة (القناة) والكل متحمس والكل يتحدث عن المعارك.
الكل كان متحمساً يتابع أخبار الحرب, سواي أنا!, إذ لم أكن– ولست أدري لماذا- مقتنعاً أن هناك حرب حقيقية!. كنت اراها كأنها مسرحّية تمّثل على رؤوس الناس البسطاء. وحتى عندما اُعلن النصر وتحرير قناة السويس ومعها جزء كبير من صحراء سيناء, فإنني بقيت اشكك في جدية ما يقولون وانظر الى الامر كله على انه دعاية اعلامية ليس الا!. ولكن احدى نتائج تلك الحرب الخطيرة والمهمة لحرب أكتوبر وعبور(خط بارليف) انها شغلت العراقيين تماماً عن قصة (ابوطبر) الذي نسوه أهل بغداد وأصبح على هامش الأحداث ,ولا يذكره أحد أو يتحدث به.واختفت أخباره تماماً ولم يعد أحد يهتم بها (حتى إن بعض الظرفاء من العراقيين أطلقوا نكتة بأن (أبو طبر) قد تطوع في القتال على الجبهة)!...
إنتهت تلك الأيام المخيفة.. وانتهى ذلك الرعب بإلقاء القبض على (ابو طبر)! وظهر على تلفاز العراق وهو يحكي بالتفصيل كيف كان ينفذ جرائمه البشعة في قتل الناس وإغتصاب السناء بعد قتلهن فقد كان مصاب بمرض نفسي نيكروفيلياnecrophilia) )وهو مضاجعة المرأة بعد موتها(, وسرقة محتويات منازلهم بمساعدة أخويه وشقيق زوجته, بينما تقوم أمه و زوجته ببيع المسروقات من الذهب الى صائغ تعرفانه. حوكم بمحاكمة سريعة ونفذ به حكم الإعدام, و بالسجن على شركائه, وبذا انطوت صفحة رعب رهيب هزّت جميع أهالي (بغداد).. وكذلك (الخفراء) في م الحميّات.. ولكنه منحنا فرصة الاستمتاع بأمسيات جميلة جداً جعلتني أعشق أغاني انوار عبد الوهاب.. و لاسيما..
(داده حسن)!!.
كل الوجوه ثكال من يكبل هواي..
لا أم تحن لبجاي... لا خالة ويّاي..

0
People reached
0
Engagements
Distribution score
Like
Comment
Share

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب