إخدم نفسك.. بنفسك

 من دفتر مذكراتي عن بداية حياتي الطبية خلال الأيام الاولى من تخرجي وتعييني (كطبيب دوري) في (مستشفى الحميات) صيف عام 1973 ..

(هي احدى صفحات كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثًا) الذي في النية نشره في ألاشهر القادمة..

إخدم نفسك.. بنفسك


حين أضع نفسي في مقارنة مع زميلي المقيم الدوري الآخر (م) اجدني أختلف كثيراً عنه, منها ما يتعلق بحبي وإخلاصي لمهنتي..أحسها تجري في عروقي مجرى الدم... وامارسها بإخلاص وشغف لا حدود لهما, فأنا أهتم بمرضاي كأنهم أهلي وخاصتي.. ربما كنت أختلف عن الكثيرين من زملاء المهنة في شدة تعلقي ورغبتي في الإبداع وتعلم كل ماله علاقة بتلك المهنة..
على سبيل المثال أنا لا أقوم بالتوقيع على (شهادة وفاة) مريض, (وكان يتوفى واحداً أو إثنان كل يوم!), إلاّ بعد أن أذهب و أعاينه بنفسي, وأقوم بكل الإجراءات الرسمية للتأكد من وفاته, حتى إن اقتضى ذلك مغادرة دفء ومتعة فراشي في الثانية بعد منتصف الليل أو الثالثة صباحاً و أنا غارق في عز نومي بعد نهار متعب. أما زميلي فكان يضع توقيعه على استمارة (شهادة الوفاة) (التي تكون الممرضة الخفر قد ملأت جميع خاناتها), وهو مستلقٍ في فراشه دون أن يكلّف نفسه النهوض من فراشه والتضحية بنومته الهانئة, ودون شعور بالمسؤولية وهو يوقع وثيقة وشهادة وفاة انسان!, وفي إحدى المرّات كان المريض والذي قد وقّع زميلي له (شهادة الوفاة) في حالة غيبوبة ولم يكن ميتاً! وعندما إكتشفت أن الميت قد عاد الى الحياة بعد أن تم إخبار ذويه بوفاته, أخبرته بذلك وأنا أرتعد من شدة الغضب والانزعاج, تلقىّ صاحبي الخبر بالضحك والمزاح دون أدنى شعور بالذنب.. واعتبره (نكتة الموسم).. ثم أعقب قائلاً (هوه راح يموت يموت.. إذا مو اليوم باجر)!.
ومع ذلك كان زميلي (م) ممتعاً جداً!. كنت استمتع برؤيته وهو يمر لأول مرة في حياته بعلاقة عاطفية مع امرأة تكبره سناً بكثير!, تعرف عليها صدفةً!. أظنها كانت مرافقة لأحد المرضى أو زائرة له. وكان يقضي الساعات يحكي لي عن تجربته الاولى في العلاقات الحميمة مع الجنس الآخر وأنا أستمع لإنبهاره ب(إكتشاف) تلك العلاقة!.
وعندما أقبل شهر رمضان المبارك, كان صاحبي صائماً مثلي, ولكنه كان لا يتورّع من الخروج مع صاحبته في موعد غرامي بعد الإفطار, يجلسان على إحدى الأرجوحات الوثيرة في حدائق (نادي القوة الجوية) القريب من مستشفانا, يتسامران ويقضيان وقتاً ممتعاً! سارقاً منها... قبلات خاطفة!
كنت اقول له:
"ولكننا في شهر رمضان"؟
"ولكنك... كنت صائماً النهار كله؟"
كان يجيب بضحكة بريئة تخرج من قلبه:
"بعد الفطور كل شيء حلال! كل شيء يصير حلال... وره الفطور"!
الممرضات في مستشفى الحميات كن جميعاً من (القواعد من النساء)! الكبيرات السن! أصغرهن عمرها أربعين أو خمسين عاماً, ربما إستسهلن العمل في هذا المستشفى, أو تم (نفيهن) فيه كعقوبة. ولم يكن يشكلن خطراً علينا!. ثم تم تعيين ممرضتين متخرجتين تواً من مدرسة التمريض, كانتا الشابتين الوحيدتين –بين مجموعة العجائز- من الممرضات, ربما لا يتجاوز عمر الواحدة منهن التسع عشرة أو العشرين عاماً وأغلب ظني أنهما قد تم تعيينهما في مستشفانا أيضاً كعقوبة لهما!.. وتقاسمت الشابتان اهتمامهما بنا... كانت القصيرة الجميلة (جميلة نوعاً ما وبالمقارنة, فعندما تكون هناك اثنتان فقط, لا يكون لديك مجال كبير للاختيار)! كانـت هـذه قد حصرت اهتمامها بزميلي (م), ولاحظت إن الطويلة النحيفة الأقل جمالاً قد حصرت اهتمامها بي! وصارت القصيرة دوماً هي التي تأتي الى زميلي (م) عندما يكون هناك (توقيع طلبية) او ملء (إستمارة تجهيزات) او (إخباره عن حالة مريض). بينما صارت الطويلة النحيفة تأتيني للأسباب نفسها, محاولة كل جهدها جلب انتباهي لها!. الفارق انني كنت لا اسمح لها ان تدخل غرفتي أبداً.. فما ان تطرق باب غرفتي وأسمع ندائها من خلف الباب حتى أنهض وارتدي صدريتي البيضاء ثم أخرج لها لأحدثها خارج غرفتي,.
كانت الأيام تمضي مملة أحياناً في مستشفى الحميات, إذ لدينا مرضى في أشد حالات المرض (واكتشفنا لاحقاً وجود خطأ في تشخيص البعض منهم, و انهم لم يكونوا بحاجة للدخول الى المستشفى اصلاً)!.
(أحد الأطباء المخضرمين العاملين صاحب عيادة خاصة في (علاوي الحلة), كان يرسل لنا مريضاً كل يوم تم تشخيص إصابته بـ(حمى التيفوئيد), وعندما صارت عندي خبرة بهذا المرض وأعراضه وعلاماته فقد أفدت من قراءتي للكتب الطبية, رفعت السماعة واتصلت به وناقشت معه حالة المريض.. عندها أخبرني بحقيقة الأمر بأنّه مقتنع أنه غير مصاب بالتيفوئيد, لكن المريض لا يملك مالاً ومن سكنة المحافظات وليس له مكان يبيت فيه, لذا أرسله الى مستشفانا!!.. هكذا ببساطة تحولت مستشفانا الى فندق.. وليس مستشفى)!..
تعلمت في مدّة وجيزة جداً كيفية سحب سائل (النخاع الشوكي) من العمود الفقري للمريض بواسطة الإبرة الخاصة, وأن أجري التحليل الأولي له فوراً, ثم تحديد نوع العلاج! بل وصرت أفضل من أي (طبيب اعصاب) في سرعة سحب سائل النخاع الشوكي!, أتمكن من إدخال الإبرة وإخراجها في ما بين فقرات الظهر خلال بضع دقائق.. بإمكاني ان أفعلها وأنا معصوب العينين!. فقد كانت الردهتان الخاصتان بالتهاب السحايا بأنواعه الثلاثة: (الجرثومي) و(الفيروسي) و(التدرني) مليئتين بالمرضى!, وفي حالة الإصابة بالإلتهاب التدرني يجب إجراء سحب السائل الشوكي بين فترة وأخرى لتحديد مدى استجابة المريض للأدوية العلاجية! (كانت عندنا معينة نرسلها ومعها أمر شفاهي بأن ترسل لنا (الصيدلية الداخلية) حبوب (آي.أن. أجINH ) وهي حبوب خاصة (بالتدرن) ولكنها في طريقها الى الصيدلية كانت تنسى-أو تتناسى بخبث- إسم الحبوب وتدخل على الصيدلي وهي تتصنع الخجل وتغطي وجهها بفوطتها وتقوم بتحوير اصوات الحروف الأنجليزية ) بأن تقول له: الأطباء يريدون حبوب ن.. (جماع!).
تعلمت كيفية عمل (قص الوريدvenesection) بسرعة وبسهولة ويسر.
ولكن أهم شيء تعلمته هو كيفية طلب المساعدة من الزملاء العاملين في المستشفيات الأخرى. كنا نحتاج إلى جراحين من مستشفيات أخرى لتدريبنا على إجراء العمليات الصغرى مثل (قص الوريد) لإعطاء السوائل بكميات كبيرة وبسرعة او لعمل (فتحة القصبة الهوائيهtracheostomy) عند المصابين ب(الخناقDiphtheria) إذ كان أحد الأمراض الشائعة في العراق آنذاك وقد يقتل المريض المصاب به خلال ساعات.
رأيت كيف يمكن أن يموت الناس بسرعة وبسهولة وكيف يمكن أن يعيشوا! وهكذا تعلمت فن التعامل مع الأطباء زملائنا في مستشفى (طوارئ الرصافة-اطلق له لاحقاً إسم مستشفى الواسطي) وملاطفتهم وتقديم فروض الطاعة والولاء,لهم وتقديم الرشا لهم بـوجبة (عشاء) من المطعم المجاور لمستشفانا, لأننا بحاجة لأحد هؤلاء الأطباء للمجيء على وجه السرعة مع العدة الخاصة بإجراء (قص الوريد) لمريض مصاب ب(الكوليرا), أو شّق (القصبة الهوائية) ووضع أنبوب خارجي فيها.
كان الطبيب المقيم الأقدم المرحوم (صباح حسن) يأتي دوماً وبسرعة وعن طيب خاطر, بوجهه البشوش, وابتسامة دائمة على وجهه, ولاسيما عندما يعرف اننا سوف نستمتع, بعد إجراء تلك العملية البسيطة, بجلسة ممتعة و بوليمة عشاء جيدة كنت أدفع ثمنها من جيبي الخاص!.
وبعد مضي أسبوعين أو ثلاثة من بدء إقامتي بمستشفى الحميات تعلمت الكثير إعتماداً على نفسي برغبة صادقة.. وصرت أثق بقدراتي في مجال مهنتي التي أعشقها..
في تلك المستشفى (الحميّات), رأيت المصائب ولاسيما الأمراض الصعبة والمستعصية, رأيت التهاب الدماغ عند الأطفال, كأحد مضاعفات مرض (الحصبة).. وحتى بعد زواجي-بعد اربعة سنوات- بقيت مرعوباً من مرض (الحصبة), بحيث انني كنت اسرع الخطى في تلقيح اولادي ضد الحصبة بالسرعة الممكنة وذكرى مؤلمة لأطفال رأيتهم يعانون من موت بطيء جراء اصابتهم بذلك المرض الشائع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب