داء الكلب

 من دفتر مذكراتي عن بداية حياتي الطبية خلال الأيام الاولى من تخرجي وتعييني (كطبيب دوري) في (مستشفى الحميات) صيف عام 1973 ..

(هي احدى صفحات كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثًا) الذي في النية نشره في ألاشهر القادمة...

29/ 8/ 1973

داء الكلب!!


        كنت قبل يومين على موعد مع مأساة جديدة من المآسي الكثيرة التي ينفرد بها مستشفى (الحميّات) دوناً عن باقي المستشفيات في بغداد.
    زميلي (م) جاءني وهو يحمل ورقة اعطيت له تواً تتضمن دخول مريض مصاب بـ(داء الكَلَب), وهكذا على الفور ذهبنا سوية لرؤية أول حالة لهذا المرض نراها في حياتنا..        
    وقفت جنب المريض وكان طفلاً يرتدي الزي الخاص بالكرد, برفقة أبيه الذي يرتدي الملابس الكردية ايضاً, ويتكلم ببضع كلمات عربية بصعوبة..
اخبرنا ان ابنه قد تعرض لعضة كلب منذ شهر تقريباً وقد تم إعطاؤه المصل المضاد مرتين, تم زرق المصل في عضلة بطنه.( المفروض ان تكون أربع عشرة ابرة تزرق في داخل عضلة البطن على مدى اربعة عشر يوماً).. طلبت من زميلي (م) ان يخبر الدكتور (محمد الجميلي) أو غيره من الأطباء الاختصاصيين في مستشفانا لينصحنا مالعمل؟؟!!
عاد زميلي (م) ومعه جحفل من موظفي المستشفى فضلاً عن الدكتور الجميلي!.. الذي ما ان وصل ورآني حتى صرخ في وجهي حال رؤيتي صرخة محفوفة بخوف وهلع شديدين:
    "مالذي تفعله بوقوفك جنب المريض؟ ابتعد عنه فوراً لأنه قد يعضّك!!"
    أما الطفل فقد كان شكله يبعث على الرثاء, كانت ملامح وجهه تنذر بخوف ورعب, حدقتاه واسعتان كلتاهما وهو يهذي بكلمات كردية لم يترجمها أحد لي!.. حمل أحد الموظفين كفاً من الماء اقترب به من الطفل.. وما أن رأى الطفل الماء في يد الموظف حتى صرخ برعب ووضع يداه على وجهه ونظرة خوف رهيبة بادية عليه, وهو يتوسل بالكردية طالباً ابعاد الماء عنه!.. لا يمكن ان انسى ابداً تلك النظرة الوحشية التي كانت بادية على محيّاه لمجرد رؤيته الماء..كان كمن قد رأى أفعى سامة تقترب منه بسرعة.. ولأول مرة فهمت ما درسونا اياه عن (داء الكَلَب), وعن الخوف من الماء الذي هو أحد أهم أعراض هذا المرض.. فالمريض المصاب ب(داء الكلب) يعاني من تقلصات شديدة في البلعوم كلما شرب السوائل ثم تتطور التقلصات بسرعة وتصبح شديدة جداً الى الدرجة التي تكاد تخنقه وتوقف عنه الأوكسجين لمجرد رؤية الماء, ثم -لاحقاً- بمجرد سماع كلمة (ماء) او حتى تذكّر الماء!..
    حملنا الطفل الى غرفة معزولة واغلقنا الباب عليه وعلى ابيه ... اخبرني د (محمد) ان هذا الطفل المسكين سيموت بعد ثلاثة أيام في أقصى الأحوال!.. وهكذا عرفت حقيقة جديدة عن هذا المرض: إنّه مميت بنسبة مئة بالمئة, وهو من الأمراض المعدودة والنادرة جداً التي يكون الطبيب فيها عاجزاً تماماً عن تقديم أي شيء ومتأكداً تماماً أنّ المريض سيموت بعد مدة قصيرة جداً…
    حكى لي موظفو المستشفى عن حالات الإصابة بداء الكَلَب التي رأوها في هذه المستشفى .. شباب وشابات من عوائل راقية وثرية... كلهم ماتوا بعد أيام قلائل ميتة معذبة بعد إصابتهم بهذا المرض…
    بعد بضع ساعات ذهبت لتفقد الطفل ثانية.. بدأ لايخاف من الماء فحسب بل وحتى من تيار هواء المروحة السقفية, إذ أوقف موظفونا في ذلك اليوم الحار تلك المراوح.. ثم بدأ يخاف من الضوء ومن أيّ صوت يسمعه.. يصرخ صرخات رعب مدمّرة..
عندها أجهشت الممرضات بالبكاء.. واغرورقت عيون الكثيرين بالدموع.. هذا الطفل الجميل.. المسكين سيموت غداً أو بعد الغد حتماً.. بدأ الطفل بالهلوسة وهو يقول لأبيه:
"أبي .. سوف اصعد إلى فوق.. فوق في الأعالي".. بدأت عيون أبيه تدمع الا انه كان أقوى كثيراً من المصيبة التي يمرّ بها.. بل ربما اقوى منا نحن ايضاً..
    عندها توسل الأب الينا ان ان نسمح له بأخذ ابنه وإخراجه من المستشفى, مادام لاينفع معه العلاج, كي نتركه يموت في بيته وامام امّه.. إلا أننا رفضنا وأخبرناه أن المرض خطير وإن ابنه قد يكون معدياً للآخرين, وأن الواجب يحتم عليه وعلينا أن نبقيه تحت اشرافنا, واننا سنعطيه الأدوية التي بمقدورنا إعطائها فعلاً حقنّاه بـ(امبولة) كاملة (لومينال –فينوباربيتون) كي ينام, ثم (امبوله) (بارالديهايد), واعطيناه مغذي بالوريد كي نعوض له مافقده من السوائل وعن الماء الذي لا يستطيع أن يشربه .. وتركناه..
    في اليوم التالي رآني المدير.. الدكتور فؤاد.. كان حزيناً وغاضباً...صاح "إنها مأساة, نكبة. ان ترى مثل هذا الطفل اللطيف الجميل يموت امام عينيك وليس بإمكانك أن تفعل له أي شيء لإنقاذه..لقد تكلمت مع والد الطفل (الدكتور فؤاد يتكلم الكردية لأنه كردي الأصل), اخبرت والده اننا سنحاول جهدنا لكن أمل ابنه بالنجاة ضعيف جداً وسمعني الطفل وشرع بالبكاء.. وكدت أبكي أنا أيضاً.. الا الف لعنة على مهنتنا.. الطب.. أن أي مهنة خير منها الف مرة.. ما الذي يجعلنا نتحمل مثل هذه المآسي؟ نراها امام اعيننا؟ لانستطيع ان نفعل لها شيئاً.. هذه المآسي سببت لي الإصابة بمرض القرحة في المعدة.. وهذا مصير كل الأطباء.. ان نرى المآسي يومياً"
قلت "لماذا لا نرسله الى مدينة الطب كي يجرى له فتحة القصبة و يتنفس بواسطة الرئة الحديدية؟"
قال بإصرار" لن يأخذه احد!.. بمجرد دخوله مدينة الطب, سيهرب الجميع إلى مسافة نصف ميل! لقد سبق لزوجة مدير شرطة كبير, سيدة شابة مثقفة أن أصيبت بداء الكَلَب, ورغم اعطائها اللقاح والمصل المضاد كاملاً وارسلت الى احسن الاطباء في بغداد في اختصاص الأنف والحنجرة, وطب الأعصاب, وطب الأوبئة.. وماذا كانت النتيجة؟ ماتت بعد بضعة أيام!.. أن مثل هذه الأمراض تجعلنا نحن الأطباء نتصبب عرقاً من شدة الخجل, ان نقف عاجزين تماماً امام مرض يختطف الأطفال والشباب دون علاج"..
وفي اليوم التالي كان العويل في المستشفى.. فقد مات الطفل.. والمأساة لم تنتهي بعد...
تعقيب من الأخ الدكتور (عبدالرضا العباسي)..
لقد شحذت عزيمتنا ابو السوم بهذه المقالة الممتعة؛ ويبدو كلانا انا وانت نقفو خطى بعض في خدمتنا الطبية المتشابهة من إقامة وعسكرية وحميّات، ومعاناة أخرى؛ ربما انا -العبد لله -الاستاذ الوحيد المتمرس في الحميات، وقد اخترتها وسط ذهول لجنة التوزيع وقتها، اذ اني من الربع الاول لخريجي عام ١٩٧٢، واستطيع اختيار اغلب الفروع التي ارغبها، ولأن اللجنة لم تمنحني الاقامة القدمى في فرع الأطفال بمستشفى الكرامة التي اعشقها لعدم وجود شاغر، وصدرت امري الى مستشفى اليرموك، رفضت الامر لاني احب الكرامة وليس اليرموك، وهكذا كان فاخترت الحميات لأكون المقيم الاقدم ربما الوحيد الذي يختارها بارادته، وكانت المستشفى قد انتقلت الى جسر ديالى؛ لقد تعلمت الكثير جداً من امراض الخمج بكل انواعه، واما (داء الكلب) فربما عالجت منه العشرات؛ وكان السبب هو عض كلب مسعور أو (غريري) أو ذئب؛ ولقد شفيت حالة طفل بدأ به المرض وكان معضوضاً من كلب مصاب في الصويرة، ومات ثلاثة ممن عضهم هذا الكلب، وكان الوقت اثناء حرب الكويت والوضع الصحي المتردي؛ شخصت الحالة وعالجتها بطريقة الحقن المتتالي بمصل داء الكلب صعودا مع العصب الفخذي نحو الحبل الشوكي (الطريقة كما قرأتها في كتاب قديم للخمج) شفيت الحالة، وكانت الحالة الرابعة المنشورة عالميا والتي تشفى من داء الكلب، وقد عرضتها في مؤتمر بانكوك ١٩٩٢، ونشرتها في مجلة كلية الطب وعرضتها في لقاء الباطنية في كلية الطب؛ اذ ان داء الكلب قاتل بنسبة ١٠٠٪ تقريبا؛
في (الحمى النزفية) و(نقص المناعة المكتسب) صرنا خبراء بهما، ونشرنا الكثير عن داء الخناق والسحايا والكبد والحصبة وفي مجلات عالمية كبيرة... الخ؛ وقد تدربت على فتح القصبة الهوائية في حالات (الخناق) في قسم الأنف والأذن والحنجرة في مدينة الطب، وأجريت الفتح لحالات (الخنّاق –الدفتيريا) الشديدة وبسرعة لاتستغرق اكثر من خمس دقائق؛ وعندما كنت في القاهرة استشاريا لمستشفى حميات العباسية بعد ترك العراق عام ٢٠٠٦، لم يكن أحد من أساتذة الحميات في مصر- ولا فخر- يمتلك خبرتنا او قدرتنا على التشخيص؛ وهنا اذكر الاخوين العزيزين (طارق الطويل) و(حامد الجنابي) حيث تدربا عندنا اعتقد في عام ١٩٧٧، كما تدرب الكثير من الزملاء الآخرين من مختلف الاختصاصات على الحميات في تلك الحقبة، والذي يؤسفني الآن أن الكثير من زملائنا في الوقت الحاضر يجهلون الكثير عن أمراض الحميّات؛ وقد نشرت وزارة الصحة في احدى منشوراتها الحديثة محذرة من مرض (الحمى النزفية) الذي وصفته بانه قنبلة ذرية في الديوانية على حد قولها- مؤكدة أن المرض جاء للعراق من اللحم الهندي المجمد!، وان الوقاية من المرض هي بتجنب أكل الفلافل والبيض!، (أي والله هكذا نشروه!)، وتستطيعون تتبع هذا المنشور على صفحة مديرية الوقاية؛ مما اضطرني للرد عليهم بقسوة على هذا الجهل والتخبط؛ إذ لم يطرق سمع أحد من هؤلاء السادة المسؤلين ان الفيروس ينتقل بالقراد او من خلال ذبح الحيوان أثناء فترة اصابته، وان الفيروس يختفي من اللحم بعد عدة ساعات فقط؛ وقد أحجمت الناس وقت هذا الإعلان عن أكل اللحم والتكة، وحتى البيض والفلافل!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب