عندما لعنت حظي

 من دفتر مذكراتي عن بداية حياتي الطبية خلال الأيام الاولى من تخرجي وتعييني (كطبيب دوري) في (مستشفى الحميات) صيف عام 1973 ..

(هي احدى صفحات كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثًا) الذي في النية نشره في ألاشهر القادمة..

عندما لعنت حظي!..
17 /8 / 1973



البارحة التقيت برجل من سكنه (ابوغريب) يرتدي العقال والعباءة.. ملابس عربية انيقة ويبدو عليه اليسر والغنى.. جلب ابنته المصابة ب(اشتباه الإصابة بمرض الخنّاق).. ومن الحشرجة الذي تصدرها من حنجرتها بصعوبة بالغة أدركت مدى صعوبة التنفس عند الطفلة وأدركت فوراً أن الطفلة يلزمها أجراء عملية جراحية وإجراء فتحة صغيرة في القصبة الهوائية كي تتنفس من خلالها...
وعلى الفور اتصلت بـ(المستشفى الجمهوري- شعبة الأنف والأذن والحنجرة-) واتفقت مع الجراح الخافر على إجراء العملية.. طلبت سائق الإسعاف الذي يعمل في مستشفانا.. والذي نبهّني بلطف الى ضرورة الحصول على موافقة الأب قبل ارسال الطفلة لإجراء العملية!.. أوجزت للأب حالة ابنته وأنها يشتبه بكونها مصابة بمرض (الخناق) ويلزم اجراء عملية فتح القصبة الهوائية لها فوراً.. وانها ان لم تجرى لها العملية فإنها حتماً وبالتأكيد سوف تموت!.
سألني الأب "هل انتم متأكدون تماماً أنها مصابة بمرض الخنّاق؟" اجبته انها يشتبه بإصابتها بذلك لكن نتيجة التحليل المختبري لن تظهر الا بعد اربع وعشرين ساعة وحينها ستكون الطفلة في عداد الأموات.. فحنجرتها مغلقة تقريباً تماماً بنسيج سميك سببه المرض وجعل من الصعب دخول الهواء الى الرئة..
همهم الأب "حسناً.. أنا موافق"
كتبت على عجالة, ورقة الى الطبيب الجراح وسلمتها له, لكن الأب جائني ثانية قائلاً بأنه قد غيّر رأيه ولن يسمح بإجراء العملية ما لم تفحص ابنته لجنة من الأطباء الاختصاصيين!.. حاولت افهامه ان وضع الطفلة حرج جداً ولا وقت لنا لنضيعه.. وانها قد تموت في أي لحظة..
قال لي "لا .. انها لن تموت!.. فإبن اختي قد جلبناه قبل اسبوع كان مصاباً بمرض الخنّاق.. ثم تعافى من مرضه بعد يومين متحسناً."
قلت له "انا لا اعلم شيئاً عن قريبك ولكني اعلم ان ابنتك ستموت في ساعات إن لم نجري لها عملية فتح القصبة ووضع أنبوب تتنفس منه!"
اجاب "سوف آخذ ابنتي لأحسن المتخصصين.. لكن لن اعمل لها عملية اعتماداً على اشتباه!"
أخيراً استسلمت للأمر الواقع واعلنت فشلي في كل محاولاتي معه.. حقنت الطفلة بالمصل المضاد لمرض الخنّاق.. وزرقتها بمضادات حيوية, ثم وضعتها في خيمة الاوكسجين..
وفي اليوم التالي ماتت الطفلة.. شعرت بالمرارة والألم ولعنت حظي الذي جلبني الى هذه المستشفى. التي ليس فيها سوى الموت والموت لاغير.. فضلاً عن التعاسة والحسرة.. والألم..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب