من دفتر مذكراتي عن بداية حياتي الطبية خلال الأيام الاولى من تخرجي وتعييني (كطبيب دوري) في (مستشفى الحميات) صيف عام 1973 ..
(هي احدى صفحات كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثًا) الذي في النية نشره في ألاشهر القادمة..

ذرفت عيوني دمعاً



   12 /8 /1973

       الساعة الآن الثانية عشرة والربع ظهراً, وأنا في أول يوم خفارة استلمها بعد تخرجي من الكلية الطبية, مشت الامور على مايرام, أدخلت مرضى مصابين بالخناق و السحايا والتهاب الكبد, وقمت بمعالجة المرضى, ولأول مرة كتبت شهادة وفاة لمريض كان راقداً في هذا المستشفى قبل التحاقي فيه

تعرفت اليوم على معظم العاملين في المستشفى من أطباء وممرضات وممرضين, جميعهم لطيفين جداً وأحببت تعاملهم معي.. احياناً أشعر أنه لربما كان حسن الحظ هو ما جاء بي هنا, عندئذ تنطبق على قوله تعالى "وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم", فكل شيء هنا يسير بهدوء بدون التوتر و الضوضاء والصخب الموجود في بقية المستشفيات, والكل هنا متعاونين معي..

ودعت اليوم الزملاء (شليمون صليوه-خريج الموصل وعلي المشهداني وهشام أحمد خريجي بغداد والثلاثة هم من الدورة التي سبقتنا (1972) وكانوا مدعوين للالتحاق بالخدمة العسكرية فوراً. زملائي هؤلاء قاموا بتعليمي انا وزميلي (م ه  ) الكثير من القضايا التي تخص العناية بالمرضى في هذا المستشفى , وكانوا مثال للطيبة والتواضع..

 

15/ 8/ 1973

الساعة الآن الحادية عشرة والنصف ليلاً.. ادركت الآن أهمية عملي طبيباً في مستشفى مثل الذي أعمل فيه الآن..

في بقية المستشفيات تساعد العلاجات في شفاء نسبة كبيرة من المرضى, أما هنا في مستشفى الحمّيات, تتساوى نسبة شفاء المريض ونجاته مع نسبة مفارقة الحياة!.. هنا تلتقي التعاسة والشقاء بكل معانيها وجهاً لوجه..

"علي" المصاب ب(تدرن السحايا  الدماغية), والذي أرسل قبلاً إلى مستشفى (التويثة) وهو المستشفى المتخصص بعلاج مرض التدرن (السل) إلا أن علاجه قد توقف لمدّة كانت كافية لإصابة دماغه  بضرر مستديم.. ولذلك اعيد ارساله ثانيةً الى مستشفانا!.. كم هو لطيف وطيب وصبور هذا الشاب رغم كل معاناته.. بالرغم من الإختلاجات والرعشة التي ترعشها كل عضلة من جسمه وإلى الأبد.. بالرغم من مشيته المترنحة يميناً وشمالاً كالمخمور, الا انه لا يتوقف عن المزاح ومداعبة المرضى من حوله.. ناسياً آلامه ومعاناته.. وعندما أتوقف عند رأسه لإجراء الفحوصات وأسأله:

كيف حالك يا علي؟"

يجيب بكل جوارحه "كلش زين دكتور.. الله يرضى عليك دكتور.. ابوس ايدك دكتور الحمد لله" هذه هي اجابته الدائمة على الرغم من كل ما يعانيه.. وعلى الرغم  من أن حالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم, مازال علي على طيبته, دماثة خلقه وصبر جميل اكسبه اعجاب وحب جميع العاملين في المستشفى.. بدءاً من مدير المستشفى حتى المعين يحبون علي ويتمنون شفاؤه ويدعون له بعد عجز الأدوية التي نعطيها له لعلاجه.. كلنا يعلم أنّ مصيره قاتم ..قاتم.. أما الموت أو العاهة المستديمة في دماغه.. قد يكون على علمٍ بوضعه الصحي هو ايضاً.. لكنه صابر..

"بان احمد" الطفلة الجميلة ذات السنوات الأربع, التي لا تغمض عيناها قط ولم أرها مغمضة العينين منذ عرفتها قبل أسبوع.. مصابة بالتهاب المخ نتيجة مرض الحصبة.. مستلقية على ظهرها في فراشها لا  حراك فيها, واسعافاتنا اليومية لها كلما ارتفعت حرارتها إلى درجة خطرة, وكلما أصيبت بالاختلاجات والهزات.. ولكن.. إلى متى سنستمر بإسعافاتنا له.. كم يوماً تطيل عمرها؟ انا مصر على ان تعيش "بان" وان تخرج معافاة من مستشفانا.. فأنا أحبها كثيراً.. لكن الجميع يراهنون انها ... ستموت.

و  "محمد الغلام ذو السنوات العشر الذي جاءنا من ديالى, وحكوا لي أنه كان يتسلق نخل الجيران بسرعة القرد, ويسرق التمر!.. محمد الذي كانت المحلة تضج بشقاوته ومشاكساته.. لن يكون مشاكساً بعد الآن  .. فهو مصاب بتدرن السحايا الدماغية.. لن يضج الحي بتلك الشقاوة فهو طريح الفراش منذ أسابيع عدة, وسيبقى طريحاً.. الى متى ؟؟ الله وحده يعلم.. وسنبقى نركض نحوه كلما صرخ من شدة الألم في رأسه, وسنبقى نخلع عنه جميع ملابسه ونجري له الإسعافات, ونحقنه بالمضادات.. ونمسح جسمه الهزيل بالكمادات الباردة.. لكن مرضه اقوى منا جميعاً وتبقى حالته تسوء يوماً بعد يوم.. البارحة اكتشفت أنه مصاب بنزيف في أمعائه حيث يفقد الدم ببطء وباستمرار محولّاً لون برازه إلى لون القير الأسود اللزج.. ومحمد يشكو من الم في بطنه.. ماذا عسى ان نفعل؟ محمد الصبي الأشقر الجميل العذب... هل سيموت كالباقين؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب