3-3 (حرب الفيروسات) في الـبوعبّاس!

 بمناسبة الأخبار المنتشرة عن وباء (جدري القرود) ارتأيت ان أعيد نشر صفحة المدونة التي كنت قد نشرتها قبل عام.. للمتعة والفائدة العلمية.. مع كل الود لقرائي الأعزاء.. وهي عن ذكريات الخدمة الإلزامية في (القرى والأرياف) والتي خدمت فيها لمدة عام بعد اتمام الإقامة الدورية والخدمة العسكرية.. وتم تعييني في (المركز الصحي في الثرثار) في ناحية (القلعة) القريبة من (سامراء).. وهي صفحات من كتابي (حكايات الزمان-سيرة طبيب متخرج حديثاً) والمزمع نشره خلال بضع اشهر ان شاء الله..

3-3 (حرب الفيروسات) في الـبوعبّاس!


في أحدى الأيام جاءني إلى المركز الصحي, رجل ضخم الجثة طويل القامة مكتنز شحماً ولحماً, وقد تلثم بـ (اليشماغ) لا يرى منه سوى عيناه فقط, وبعد أن عرفّني بإسمه ولقبه, قام بإماطة اللثام وكشف عن وجهه. كان النصف الأيمن من وجهه مغطى بعناقيد من الثآليل, العشرات بل المئات من الثآليل الكبيرة ,غطت كل وجهه من الخدين الى الحنك, كلها ثآليل لم أر أقبح منها!. كان الرجل مكتئباٌ جداٌ وقال لي:
"دكتور الخاطر الله, ابني راح يتزوج بعد اسبوعين وهذا شكل وجهي منو راح يجي يهنيّني و يبوسني وآني هذا شكل خدي؟"
اوشكت ان ابوح له ان وجهك قبيح الى درجة لا يطيب لنا ان ننظر اليه, ناهيك عن أن "نقبلّه"!!.
لا ادري ما الذي جعل محاضرة استاذي الكبير (خالد ناجي) تقفز الى ذهني في تلك اللحظة. كان أستاذنا الرائع (خالد ناجي) كثير التحدث عن (الكيلونزChalones), وهي مواد تطلقها الفيروسات, تقوم بقتل ومنع انتشار فيروس منافس من نوع آخر في نفس المكان (وكأن الفايروسات تخاطب الواحدة منها الاخرى بقولها لا يمكن لنا نحن الاثنتين أن نعيش في المكان نفسه, إما أن أتمكن من قتلك او تتمكني مني فتقتليني) !. كانت تلك إحدى القفزات الهائلة والاكتشافات الحديثة آنذاك في (علم المناعة), وكان يرتجى لها تطبيقات كبيرة في علاج السرطان, وبقيت تلك المعلومات في ذاكرتي منذ كنت طالباً احضر محاضرات (خالد ناجي). (ربما كانت الكيلونز هي التسمية القديمة للانترلوكينز Interleukins رغم كون الانترلوكين تفرز من قبل الخلايا اللمفية وليس الفيروسات).
فكرت وانا افحص المريض إن الثآليل تسببها نوع خاص من الفيروسات (فايروس الأورام الحليمية Papilloma Virus), وكل الذي أحتاجه هو زرع نوع آخر من الفيروسات في نفس المكان فربما سيتمكن من طرد الثآليل هي وفيروسها!.
قلت له بثقة حذرة:
" اجلس انا عندي الحل"!.
فتحت ثلاجتي التي كان فيها لقاح (الجدريSmall pox)! وقد وجدته مركوناً فيها منذ مباشرتي في المركز, وهو فيروس (جدري البقر), فايروس حيّ مجفّف موضوع في قنينة مبردة معقمة مفرغة من الهواء, و لغرض اعادة الفيروس الى الحياة, يجب خلطه مع (امبول) خاص يحتوي على مادة (الجلسرين) وعند خلطهما وتدفئتهما يعود الفيروس حيّاٌ وجاهزاٌ لتلقيح الناس ضد ذلك المرض اللعين الذي كان منتشراً في العراق لغاية بداية السبعينات, مرض (الجدري).
خلطت اللقاح واعددته ثم صبغت به كل المناطق الموبوءة بالثآليل في وجه الرجل المصاب, وبعدها و بواسطة إبرة معقمّة قمت وبصبر كبير بغرس اللقاح داخل الجلد بعناية وبهدوء وبطء, قمت بغرس كل المناطق المصابة من اذنه حتى الحنك. شكرني الرجل وخرج.
بعد يومين وأثناء دوامي دخل غرفتي ثلاثة شباب ضخام الجثة كأنهم عمالقة وهم يحملون شخصاُ نظرت إليه عرفت أنه الرجل المصاب بالثآليل في وجهه وهؤلاء (العماليق) هم ابناؤه!, أحدهم كان العريس المزمع زواجه بعد اسبوعين! كان الرجل فاقدا للوعي لشدة الحمّى التي أصابته, كان نصف وجهه المصاب بالثآليل واللقاح مغطى بدمامل (الجدري) المتقيحة. كمية هائلة من التقيحّات والتوّرم والاحمرار لم ار مثله في حياتي, وكان الرجل ينتفض من شدة الحمى ويهذي وعلى وشك أن يفقد وعيه. أحسست لوهلة أن هذا الرجل سيموت لامحالة!.
أعطيتهم عدداً من الإبر و(كبسول), كلها مضادات حيوية وحبوب خافضة للحرارة وبعد مغادرتهم نظرت الى أجسامهم الضخمة, ربما كانوا يحملون كل (جينات) جيش (المعتصم) وأخواله الأتراك المقاتلين الذين ضاقت (بغداد) بجبروتهم وفضاضتهم فاضطر الى نقلهم الى (سامراء) كما اضطر لجعلها عاصمة له!. ابناء هذا الرجل هؤلاء, لو مات ابوهم فسوف يقتلونني!. حملت حقيبتي وعدت الى بغداد راكباٌ أول سيارة أجرة توقفت لي على الشارع العام المؤدي إلى العاصمة.
لم ألتحق بعملي في اليوم التالي وتغيبت في اليوم الذي يليه ثم الذي يليه, وبعدها اتصلت بـالحاج (جاسم البازي) الموظف الصحي الذي يساعدني في تمشية امور المركز الصحي. حكيت له ان عندي ظروف عائلية تمنعني من الحضور للدوام ثم سألته:
"هل كل الأمور في (القلعة) ماشية تمام"؟
أجاب بأن كل شئ على مايرام!
"هل (مات) أحد من أهالي القلعة"؟
ربما وجد غرابة في سؤالي, كلا.. كانت إجابته!.
"هل هناك (فاتحة) في القلعة"؟
أجابني بالنفي!.
استجمعت شجاعتي وركبت سيارة الأجرة (المرسيدس) الى (سامراء), فأنا لا يمكن ان ابقى متغيباُ, ولابد من العودة إلى المركز الصحي, إذ إن دائرة الصحة ترسل بين الحين والآخر من يفتش ويتأكد من وجود المنتسبين في أماكن عملهم. وصلت (القلعة) وانا اقّدم رجلاً.. وأوّخر اُلاخرى!.
وصلت المركز الصحي وعيوني على منطقة (القلعة) و(البو عباس) لا توجد لافتات لأي (فاتحة)! لم يمت أحد!. بقي قلبي يدق خوفاُ من ال(عملاق) المصاب بالهذيان والحمى والتقيحات ومن أولاده (العماليق)!.
في اليوم الثاني جاءني الرجل, نفس الرجل صاحب الثآليل! كان وجهه نظيفاُ كالمرآة لا أثر فيه للثآليل! كلها قد إختفت عن وجهه! يا إلهي! اذاً نجحت ( نظرية الكيلونز)! ونجح (خالد ناجي)! ونجح لقاح (الجدري) في القضاء على غريمه فيروس الثآليل! ونجحت انا في علاج عملاق ال(بو عباس)!.
في عصر ذلك اليوم جاءني ابناء الرجل وهم يحملون سمكة كبيرة عرفاناً منهم بنجاحي في علاج والدهم و معهم أكبر (رقيّة) من فاكهة الصيف التي اشتهرت بها سامراء!. استلمت الهدايا واعطيتها للمضمد (الحاج علي البدري) فهو عائل وله أطفال كثيرون, وتحسست رقبتي التي أوشكت أن تطير لولا عناية الله ورحمته, ولم اطبّق نظرية (الكيلونز) و (حرب الفيروسات) بعدها ابداُ, رغم إني بقيت -ولا أزال- مؤمناً بها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب