سكن الليل

 كتابي (فيض الذكريات) وصفحة بعنوان (سكن الليل).

سكن الليل...

صحبة (انورعبدالسلام) كانت متعة ما بعدها متعة, فهو مرح للغاية وصاحب نكته مثقفٌ وشاعرٌ عبقري, وكنت أجد في صحبته المتعة والثقافة. عشقنا الفتيات سوية, وتشاجرنا مع آخرين سوية, واكلنا الكباب والرقّي سوية, وقضينا أياما طويلة سوية ثم اثناء ليالي الخفارة ونحن في مرحلة (الستاجير) وهي السنة السادسة من كلية الطب-جامعة بغداد, ونحن نقوم بتوليد النساء سوية (عام 1973)!.

ولما كان (انور) شاعراً وضليعاً باللغة العربية فقد كان يعدّ احياناً ويقدّم برنامجين في (إذاعة بغداد) وقام بذلك لعدة سنوات. البرنامج الاول كان (البرنامج الصحي) أما الثاني فهو برنامج (شِعر عاطفي) يعده (انور) وتقدّمه إحدى المذيعات بعد منتصف الليل بصوت رخيم مليء بالرقة والعذوبة.. وإلإغراء.. إسمه "سـَكَـَن الليل"!.
في احدى المرات جلبت لنا احدى طالبات دورتنا (انتصار) ساندويتشات للغداء, ولم أقل أنا ولا (انور) لا لسندويشات تأتينا مجاناً! نعمة من الله!.كانت تحتوي على الدجاج والتوابل اللذيذة..وفي نفس ذلك اليوم وبعد منتصف الليل, وفي برنامج (سكن الليل) كانت المذيعة تقول بصوتها المليء بالدلع والإغراء: "كما ويشكر برنامجنا المستمعة (انتصار الجوراني) على المادة الدسمة التي زودت بها البرنامج! ويرجوها برنامجنا الاستمرار برفده بمثل تلك المواد الغنية والممتعة!" عند ذاك أدركت أن الكثير مما نسمعه في الاذاعة والتلفزيون من ردود على المستمعين وغيرها إن هي الاّ الغاز يعرفها مُعّد البرنامج ومستمعين معينين.. وقد يكون وراءها ما وراءها!.
أما البرنامج الآخر الذي كان (انور) يعده للإذاعة فهو (البرنامج الصحّي) وبما اني كنت مقرباً جداً من (انورعبدالسلام) فقد سألته يوماً عن طريقة حصوله على مواد كافية للتقديم في ذلك البرنامج؟ (في ذلك الوقت لم يكن هناك شبكة عنكبوتية (انترنت), وكان الحصول على مواد كافية من المعلومات للتقديم كل اسبوع في مثل هذا البرنامج, من الصعوبة بمكان)! أخبرني (أنور) بتلقائية وعبثية! أنه يقتبس (يخمط) معظم المعلومات والأخبار من المجلات الطبية المتوفرة في مكتبة الكلية, وعندما لا يكون هناك مادة كافية فإنه يقوم بتأليف (يفَبرِك) بعض الأخبار!
في احدى المرات أوشك (انور) أن يقع في شرّ أعماله! كان عائدا من الكلية الى السكن الذي كان يسكنه قرب (كورنيش الاعظمية) عندما وجد سيارات شرطة والعديد من أفراد الشرطة في انتظاره!. ووجد صاحب الدكان القريب يهرول نحوه بجزع وهو يقول:
"هاي وينك دكتور انور؟ هذوله كالبين الدنيا يدوّرون عليك من الصبح!"
شعر انور بالرهبة لأول وهلي عندما اخبره ضابط الشرطة, ان مدير عام الاذاعة والتلفزيون يريد حضوره فوراً (كان المدير العام في ذلك الوقت (محمد سعيد الصحاف), وهو نفسه الذي صار فيما بعد وزير الإعلام المشهور, وآخر مسؤول ظهر في تلفزيون بغداد في آخر يوم من حكم صدام والذي إشتهر بإطلاق صفة (العلوج) على الامريكان)!. حدثني (أنور) انه ذهب مع الشرطة إلى الإذاعة وهو يضرب اخماساً بأسداس ثم التقى به (محمد سعيد) وهو يقول له:
"هاي وينك؟ من الصبح قلبنا الدنيا عليك!"
اعتذر انور بأنّه كان في الدوام في كلية الطب..
قال له الصحاف بكل جديّة:
"دكتور (انور) انت أذعت في برنامجك الصحي إنّ أحد العلماء الباحثين في أمريكا قد تمكن من صنع (خوذة إلكترونية) يرتديها الأعمى فيتمكن من الرؤية كما لو كان مبصراً".
بلع أنور ريقه بصعوبة وهو يجيب.."نعم.. صحيح"
اكمل الصحاف كلامه:
"وإن السيّد رئيس الجمهورية (احمد حسن البكر) قد سمع الخبر ويسأل عن كيفية شراء هذه (الخوذة) كي يقوم بإهدائها لاحد اقربائه العزيزين المصابين بالعمى!.
حكى لي (انور) إنه وقع في ورطة! فقد كان قد (فَبَرك) الخبر تماماً من أوله إلى آخره, وهو عارٍ عن الصحة! لا وجود لذلك العالِم ولا للخوذة!.
التقط (انور) انفاسه وأجاب بثقة وهدوء على استفسار (الصحاف) إن مثل هذه البحوث تحاط بالسرية التامة ولايمكن تسويقها بصورتها الحالية, إذ يجب إجراء الكثير من التجارب والبحوث عليها والإطمئنان بأنها آمنة وغير ضارة بالدماغ أو الأعصاب! وربما يستغرق الأمر سنتين أو ثلاث لحين تسويقها تجارياً!
انطلت الكذبة على الجميع!.
صاحبته مرة إلى (دار الاذاعة) ودُهشت عندما رأيت الجميع ينادونه بلقب (دكتور انور) رغم أننا كنا غير متعودين على هذا اللقب إذ لازلنا طلبة في كلية الطب!.
في التسعينات من القرن الماضي, تمت استضافتي في أحد برامج التلفزيون العراقي.. وحسبما أذكر كان ذلك برفقة الزميل المرحوم (ابراهيم البصري) والذي أصطحبني الى (ستوديو) في جانب آخر من مبنى الإذاعة والتلفزيون وهناك عرفنّي على شباب كانوا تقريبا في عمر المراهقة لاتزيد اعمارهم عن الثمانية عشر او العشرين, كانوا مُدراء أقسام! يصولون ويجولون في الإذاعة لأنّهم كانوا يديرون (قناة الشباب التليفزيونية) التابعة لـ (عدي صدام حسين)!
وبالرغم من اعمارهم الصغيرة الا ان الحق يقال انهم قد قد نجحوا نجاحاً باهراً في ادارة تلك القناة وبكفاءة بالغة, وتمكنت تلك القناة من استقطاب جمهور واسع من المشاهدين, وهو أمر يجعلنا نقدّر امكانيات الشباب وقدرتهم على الإبداع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب