في بيتنا سويدي

 صفحة من كتابي (فيض الذكريات) ارجو ان تروق لكم

في بيتنا... سويدي:
أقدمت على حاولتي البائسة الأولى لخوض تجربة (الأوتوستوب) عندما كنت طالباً وقد أكملت السنة الأولى من كلية الطب وكان عمري ثمانية عشر عاماً.
في شهر حزيران عام 1968 في نهاية العام الدراسي وبعد صدور النتائج وقد نجحت الى المرحلة الثانية من كلية الطب جامعة بغداد. حيث قد عقدتُ النيّة على السفر إلى (تركيا) بواسطة القطار والذي كان ينطلق من المحطة العالمية قرب (علاوي الحلة) حصلت على جواز السفر و(الفيزا التركية) ثم ركبت القطار, وبعد يومين من الرحلة وصلت الى مدينة (انقرة) في زيارة لصديق عمري (عماد الحيدري) ولصديقي الآخر (نزار السامرائي), وعندما عرف (عماد) إنّ في نيتي متابعة السفر إلى (أوروبا) مجّاناً عن طريق رفع اليد وإيقاف احدى السيارات المتجهة الى اوروبا (اوتوستوب), فإنه أغرق بالضحك وعد مغامرتي مزحة الموسم وكانت ردة فعله على فكرتي هذه انهم سوف يغتصبونك! هذه الفكرة (السخيفة) التي تلجم العراقيين وتدفعهم إلى الجلوس في أماكنهم خوفاً من أي مغامرة. كنت واثقاً تماماً من نفسي وأنني قادر على مواجهة كل المخاطر وكل الصعوبات والتحديات وأنني أملك من القوة مايمكنني من الدفاع عن نفسي ومقاومة جميع المخاطر. وبعد أن قضيت في زيارة صديقي اسبوعا أو أكثر ركبت الحافلة وسافرت إلى تلك المدينة الرائعة التي أعشقها (اسطنبول).
خرجت ذات صباح من دار الطلاب الذي سكنت فيه في حي (حيدر باشا) على الجانب الشرقي من (اسطنبول) وقد عقدت العزم على بدء مغامرتي بـ (الأوتوستوب), وحملت حقيبتي وركبت (البابور), وهي العبّارة التي تأخذ الركاب –والسيارات- الى الجانب الأوروبي الغربي من المدينة. (لم يكن جسر البوسفور قد بني في ذلك الوقت وكان العبور فقط بواسطة العبارات التي تتحرك كل بضع دقائق الى الضفتين ليلاً ونهاراً), ثم بعدها خرجت إلى الشارع الرئيس الدولي المؤدي إلى مدينة (أدرنة) على الحدود مع (بلغاريا).
وقفت على الشارع أؤشر للسيارات بإصبعي الإبهام مرفوعاً إلى الأعلى على أمل أن أحصل على سيارة تقلني إلى الحدود ومن الصباح وحتى الغروب لم أكن قد تحركت أكثر من عشرة كيلومترات فقط خارج (اسطنبول)!. واضطررت على مضض الى العودة إلى (اسطنبول) ثانية وأنا أجرّ أذيال الخيبة, وقد وصلت بي الكآبة إلى اقصى حدودها فقد تبددت أحلامي بالسفر (بالاوتوستوب)!.
عدت إلى سكن الطلاب نفسه الذي غادرته لأقضي ليلة أخرى. وشاءت الأقدار ان أتعرف في هذه الليلة على شاب عمره يقارب عمري, سويدي الجنسية, اسمه (كرستيان) كان يدرس في قسم (الاقتصاد والعلوم السياسية) في إحدى جامعات السويد. وقد جاء بطريقة (الأوتوستوب) من السويد مروراً بألمانيا حتى وصل إلى تركيا. أخذ (كرستيان) يحدثني بالتفصيل, عن كيفية وأصول القيام برحلة بـ (الأوتوستوب). وكان أول درس أعطاه لي:
"لاتجرب الأوتوستوب في تركيا!, فهم شعب غير متحضر!, ولا يملكون الثقافة الكافية وليس لديهم روح المساعدة!.وأمّا في الدول الأخرى ولا سيما الأوربية فالصعوبة في السفر عن طريق الأوتوستوب تبدأ بالتلاشي تدريجياً كلما أقتربت من ألمانيا, ألمانيا هي البلد الأروع –على حد قوله- لمن يرغب بالسفر بطريقة الاوتوستوب"
رفع من معنوياتي كثيراً وشجّعني على الاستمرار في مخططي بالسفر بعد أن كنت قد أصبت بالإحباط واليأس. فقبل ساعة كنت قد صرفت النظر نهائياً عن فكرة السفر بطريقة (الاوتوستوب). وعلى اثرها خرجنا سوية لتناول وجبة العشاء وتناول الشاي على ضفاف البوسفور, النسيم في اسطنبول لا يشابهه نسيم في أي مكان في العالم فهو يهب من ثلاثة بحار تحيط (اسطنبول) من الجهات كلها. تحدثنا أنا و(كرستيان) في مواضيع شتى وفي بضع ساعات صرنا صديقين حميمين و تبادلنا العناوين البريدية.
في الصباح التالي وبناءً على نصيحته, اشتريت بطاقة حافلة إلى مدينة (إدرنة) الحدودية, ثم من (إدرنة) ركبت سيارة أجرة إلى نقطة الحدود. ويا لفرحتي! دخلت حدود (بلغاريا). و (بلغاريا) ضمن المعسكر الشرقي الشيوعي, نظرت إلى العلم الأحمر و (المنجل والمطرقة) عليه وتمثال ضخم للقائد الروسي (لينين). عند أول دخولك الحدود تشعر وكأن عالماً جديداً قد فتح أبوابه أمامك. ومن (بلغاريا) بدأت أجرب حظي بـ (الأوتوستوب) لأجد نفسي بعد عشرة أيام فقط قد وصلت إلى مدينة (البندقية) في (إيطاليا) وبدون صعوبات تذكر!.
وفي أحد أيام الربيع من العام الذي تلاه كنت جالساً في بيتي أدرس, الإمتحانات كانت على الأبواب. دقّ جرس الباب ثم سمعت أنّ هناك شخصاً على الباب يطلبني وعندما خرجت كانت المفاجأة الكبرى لي!. كان (كرستيان)! الشاب السويدي واقفاً أمام باب بيتنا في (حي دراغ) في المنصور! (كرستيان) بشحمه ولحمه وعلى ظهره حقيبة السفر؟! ذهلت لرؤيته ودعوته للدخول, وفي غرفة الضيوف بدأ يحكي لي أنه يقوم برحلة ومغامرة وأنه متجه في طريقه إلى الهند مروراً بالعراق وإيران وبقية الدول. حكى لي أنه يدعم مصاريف سفرته بكتابة مقالات لإحدى الصحف المحلية في السويد عن مشاهداته أثناء رحلته. دهشت كثيراً من الرجل! كان قد وصل إلى (اسطنبول) بالأوتوستوب مثلما وصلها في الصيف الماضي, ثم جاء إلى بغداد بقطار(طوروس) وهو القطار الذي يستغرق ثلاثة أيام لقطع المسافة من (اسطنبول) مباشرة إلى (بغداد) (وقد كنت قد علمتّه و أخبرته أنا كيفية الوصول الى بغداد, عندما التقينا في وقتها, وكيف أن سعر تذكرة القطار زهيدة جداً بشكل لايصدق لاسيما لمن يحمل (هوية طالب)!.
وكانت المفاجأة الكبيرة لي والتي أعجبتني كثيراً في صاحبي, هي كيف تمكن من الوصول إلى بيتنا راكباً للحافلة (مصلحة نقل الركاب, الباب الشرقي-المنصور, رقم 30)!. بعد أن إستحّم, وبعد أن قمنا بواجب الضيافة له فرشنا له في غرفة الضيوف ونام في بيتنا ليلته الأولى في بغداد.
في اليوم التالي كان أصدقائي (مازن خضير المراني) و(هشام المراني) و(فكرت جميل رومايا) وبقية الشّلة, قد سمعوا بالشاب الأجنبي (كرستيان), وجاؤا للتعرف عليه ثم خرجنا سوية إلى شارع (أبو نؤاس) إذ كانت المقاهي والكازينوهات على طول ضفاف نهر دجلة. كان يطيب لنا أن نختار الطاولة التي تكون فعلاً داخل الماء, إذ كانت أمواج ماء دجلة الباردة تلامس أقدامنا, تناولنا وجبة العشاء هناك و أردنا أن نرى (كريستيان) الضيافة الحقيقية للعراقيين, وبعد العشاء شربنا مشروبنا الغازي المفضل (السينالكو). كنا لا نترك أي شاردة وواردة عن ثقافتنا كعراقيين وكبغداديين دون أن نتسابق لتوضيحها لـ(كرستيان). ولكن عندما بدأت مكبرات الصوت الكبيرة المعلقة على جوانب الكازينو تبث الأغنية التي كان العراق كله يحبها و يغنيّها (نخل السماوة يكول ـ طرتني سمرة ) رائعة الفنان (حسين نعمة) كنا نغني كلنا معها طرباً وشعرنا أن واجب الضيافة يحتم علينا أن نشرك معنا (كرستيان) بالطرب ولكن المشكلة كانت أن :
علينا أن نترجم الأغنية ومعانيها له!.. وهنا اجهدنا قريحتنا لترجمة الأغنية :
نخل السماوة يكول طرتني سمرة
سعف وكرب ضليت مابيه تمرة
The Date palm of Samawa say ------- I was hit by a brunette!
Leaves and bark I’m left ------- not even one date!
المشكلة العويصة الآن, هي كيف نترجم له هذا البيت:
وش جابه للغرّاف طير المجّرة
سابيها كلها الناس حيرني بأمره
What brought him to Gharraf, The bird of Majarra?
He tortured all people, and put me in a dilemma!
ويمكن تصور مدى فهم (كرستيان) للمعاني العميقة والدفينة لهذه الأغنية فهو لا يعرف (الغراف ولا المجّرة ولا ما هي علاقة الطير بالنخل وسعفه وكربه والسماوة) أما نحن فكنا قد استلقينا على ظهورنا من الضحك العميق الذي ضحكناه! ونحن نحاول أن نوصل معاني الأغنية التي كنا– والعراقيين كلهم- نعشقها أنذاك... إلى صديقنا السويدي المسكين(كرستيان) الذي كان كـ (الأطرش بالزفةّ)!.
عدنا بعد سهرة طويلة وممتعة ودخلت دارنا مع صاحبي السويدي لأجد أخي الكبير قد عاد من إجازته. شقيقي كان ضابطاً يشغل منصباً حساساً في الجيش وكانت الورطة إن العراق في ذلك العام 1969 كان قد اتخذ إجراءات أمنية مشددة, وأن معرفة السلطات الامنية العراقية بإيواء شخص أجنبي في بيتنا قد يعرض أخي للمسائلة وهو في موقعه الحساس في الجيش إلى مشكلة كبيرة!. عادةً كان أخي (يأمرني), إلا أنّه ولأول مرة صار (يرجوني) وليس يأمرني, أن آخذ صديقي في صباح الغد إلى أحد الفنادق مبدياً استعداده لدفع نفقات إقامته في الفندق طيلة مدة بقائه في بغداد!.
في الصباح التالي أخذت صديقي بسيارة اجرة وذهبنا إلى منطقة (حافظ القاضي) في شارع (الرشيد) إذ كان هناك العديد من الفنادق وحصلت له على غرفة معقولة في فندق لابأس به, وبعد مغادرة (كرستيان) العراق وصلتني منه رسالة واحدة يشكرني فيها ويخبرني عن دراسته وعن مقالاته.
اما نحن فلم ننس ابداً جلستنا الجميلة على ضفة نهر(دجلة) وعشاءنا تلك الليلة ولم أنس أبداً أبيات الأغنية التي ترجمناها وبصعوبة بالغة الى الانجليزية, قمنا بترجمتها... ونحن غارقون في الضحك!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب