2-3 فوندو-سكوب

 2-3 فوندو- سكوب

في الأيام الأولى في شعبة العيون (آذار 1976 ), نشأت صداقة ومودة بيني وبين الطبيب الاختصاصي (نجيب هنودي).. كان طويلأُ .. نحيلأُ.. هادئ الطباع.. حلو المعشر.. كان ذا إهتمام كبير بالأمراض التي تصيب العين ربما أكثر من إهتمامه بالجراحة.. وكان يقضي وقته في قاعة جانبية حيث وضع جهازاً كبير الحجم يشبه المدفع!... سألته عنه فأخبرني إنه (فوندو-سكوب كاميرا Fundus Camera) وهو جهاز متطور لفحص الأوعية  الدموية لشبكية العين بتلوينها بمادة مضيئة (فلورسين) حيث تتوهج المناطق التي ينضح منها الدم عند وجود ضرر في أوعية الشبكية خصوصاً عند مرضى داء السكري و نشوء أوعية دموية ناضحة قد تنزف  في العين مسببة العمى,  وبذا يمكن تحديد مكان وانتشار الأمراض متعددة في شبكية العين... أعجبني هذا الشخص ومثابرته على دراسة شبكية العين, وإهتمامه بمتابع مرضى السكري, واستعمال جهاز يستعمل الصبغات المشعة, يمكن اعتباره الأول في العراق وربما في كل الشرق الأوسط آنذاك!.. لكنه  حدثني بأسى أن الجهاز مرفق به كاميرا تقوم بالتقاط الصور المتتابعة اثناء تلوين اوعية الشبكية وبسرعة كبيرة قد تصل الى عدة صور بالثانية الواحدة.. لكنه يقف حائراً مكتوف اليدين  كونه لا  يعرف طريقة  لطبع الصور الملتقطة بتلك الكاميرا,  فيضطر إلى الإعتماد في تقريره على ما يمر أمام عينيه  بسرعة قد تكون كبيرة جداً.. وليس لديه أي مستمسك مادي بما رأته عيناه  في ذلك الجهاز...

نظرت الى الكاميرا (35ملم) المرتبطة بالجهاز وقلت له: ولكن طبع تلك الصور سهل جداً.. بإمكاني أن أقوم أولا بإلتقاط ال(فلم)  ثم بتقطيع الفيلم الى أشرطة من ست صور ,وبعدها اقوم بترتيب  تلك الأشرطة على ورقة تصوير فوتوغرافي حجم كبير (فولسكاب ) وطبعها!  لا يوجد أسهل من ذلك!, وبذا يكون لدينا توثيق كامل لما يحصل في الشبكية,  يمكن الرجوع إليه فيما بعد أو حتى تتبع تطور المرض بالتلوين مرة أخرى بعد معالجة المريض..

كان (نجيب هنودي) يستمع لي وهو غير مصدق!!.. ثم  حدثته عن خبرتي ولسنوات طويلة في التصوير الفوتوغرافي وتحميض الأفلام الفوتوغرافية وطبعها على الورق الخاص بها!!

وعندها عدت  بذاكرتي الى الماضي.. في عام 1962.. كان عمري اثني عشر  عاماً وفي الصف السادس ابتدائي عندما قرأت في إحدى المجلات عن (فن التصوير) وتملكتني رغبة جارفة لتعلم  هذا الفن الجميل.. ذهبت الى اشهر (ستوديو) تصوير في  جانب الكرخ.. (محي عارف) المصور كان محله قرب جسر الشهداء من جانب الكرخ.. أشهر مصور ويحبه ويحترمه أهالي الكرخ..

استمع المصور الفنان (محي عارف) للطفل (الذي هو أنا) بصبر.. ثم قام من مكانه وجلب عدة حافظات لمواد كيمياوية, أخذ عدة أكياس صغيرة وقام بالتأشير على كل واحد منها بعد ان قام بتعبئته بمساحيق: (هيدروكينون),   (سلفات), (كربونيت),  (برومايد).. هذه تخلط ثم تذاب  في لتر ماء دافئ وتوضع في صينية لغرض ال(تحميض),  بعد تعريض الصور  للضوء في داخل غرفة مظلمة, ثم توضع جنبها صينية بها ماء لغسل الصور وتخليصها من مادة التحميض, وبعدها  ثلاث ملاعق طعام من ال(هايبوكلورايت) تذاب في لتر ماء توضع في الصينية الثالثة  لتثبيت تلك الصور وبالتالي لن تتأثر بالضوء بعد تجفيفها وتكون ثابته وللأبد!, ثم أخذ ورقة وكتب عليها تعليمات ومقادير الخلطة التي علمنياها كي لا أنساها..!.. كل ذلك بصبر وتعاطف من إنسان في منتهى الطيبة لا يتوانى عن تعليمي  أسرار مهنته!..  ووضع قدمي في أول خطوة الى هواية وشغف إستمر عندي الى بعد التخرج من كلية الطب..


في ذلك العام  ذهبت مدرستنا (الأشتر النخعي) بسفرتها اليتيمة الى (سدة الهندية).. وقمت بأخذ ال(كاميرا) المكعبة (البوكس) التي تعود لشقيقي الأكبر, والتقطت صوراً للسفرة.. الكاميرا ال(بوكس) تأخذ أفلام بحجم كبير.. فبالإمكان بسهولة من طبع الصور على طريقة التماس (كونتاكت) بوضع الورقة الحساسة مباشرة مع الفيلم وتعريضها للضوء من الصندوق  الخشبي الخاص الذي وضعت بداخله مصباحاً وغطيت فتحته الوحيدة  بزجاجة نصف معتمة.. (نفس الصندوق الذي كنت أنوي مع شقيقي الأصغر جعله عارضة أفلام سينمائية)!! وبذا صار صندوق (طبع افلام)!.. وتمت العملية بنجاح وأخذت الصور في اليوم التالي  وأنا على أشد ما يكون من سعادة الى زملائي والمعلمين و أهديتهم الصور!..

بعدها بسنين استمرت عندي تلك الهواية، حيث صرت أمتلك  غرفة خاصة مظلمة نظامية في بيتنا في (حي دراغ) لممارسة هوايتي في التصوير.. وبعد  تخرجنا من كلية الطب وسوقنا للخدمة العسكرية فإنني قد قمت بتهريب كاميرا الى مدرسة الطبابة العسكرية (حيث ممنوع التصوير وعقوبة مشددة لمن يجلب كاميرا) .. حيث ان جميع صور أبناء دورتي في تلك الفترة من التدريب العسكري التقطتها خلسة بكاميرتي وقمت بغسل  الفيلم وطبع جميع الصور بنفسي.. ووزعتها على زملائي مقابل سعر الكلفة!!

بعد حديثي مع (نجيب هنودي) حول جهازه ال(رتنو-سكوب), نزلت الى بيتنا في استراحتي الأسبوعية والتي هي (نصف يوم ) فقط وفي عودتي جلبت معي (حوض خاص لاينفذ له الضوء) لتحميض الأفلام (developing tank),  وجميع المواد التي  أحتاجها... وبعد ساعة من الدوام كان هناك مريض يحتاج الى تلوين الشبكية  (بالفلورسين), حيث وضعت فيلم في الكاميرا, وبعد خروج المريض بدأت وامام انظار ودهشة (نجيب هنودي) بتعبئة ( الفيلم) على (اللولب) الخاص به ثم وضعته داخل (حوض التحميض) وخلال دقائق  صار الفيلم جاهزاً وقد تم تحميضه وتقطيعه.. وبعد تجفيفه بدأت بتقطيعه وطبع تلك القطع جميعها.. كل 36 صورة على ورقة فوتوغرافية واحدة.. وكانت النتيجة باهرة..

  ووجدت الدكتور(نجيب هنودي) يتمسك بي ويرغب بالإبقاء علي مصاحباً له ومرافقاً  طوال الوقت!! وخلال المدة المتبقية لي في (مستشفى الكرامة) حاول (نجيب  هنودي) إقناعي على البقاء للعمل تحت إشرافه وإن بإمكانه الإتصال بالجهات العليا في وزارة الصحة لإستثنائي من الخدمة في الأرياف.. ولكن هيهات.. فنفسي التواقة  للمغامرات أبت إلا أن أرفض عرضه الكريم وأنا متشوق للخدمة في تلك الأرياف..

كان الوقت الذي قضيته في (طب  وجراحة العيون) وقتاً ممتعاً تعلمت فيه الكثير من المهارات. ثم حان الوقت الآخر الذي كنا ننتظره: الذهاب الى (مديرية الخدمات الطبية) ومقابلة (خلدون لطفي) كي يتم توزيعي مع زملاء دورتي لل (خدمة في القرى والأرياف). قام (خلدون) أولاً بإعطاء الخيار لمن يرغب في التطوع للعمل في اقضية ونواحي في محافظات بعيدة وهي التي قد تنفع من كان أهله اصلاً من سكنة تلك المناطق, ثم جاء وقت القرعة وسحب قصاصة ورق مطوية بعناية من علبة كارتون من مجموع العشرات من القصاصات.. العملية مثيرة وتشبه سحبة (اليانصيب الوطني).. أخرجت ورقة وقرأت فيها (المركز الطبي في الثرثار).. لم أكن أعرف أين يقع هذا المركز.. وبين  لي الموظفون فيما بعد,  إنه يقع في (ناحية)  تابعة لقضاء ( سامراء) وقريبة منه.. وفي نفس اليوم كانت حصة زميلي (عمر اليعقوبي) في سحبة الحظ هذه, ان يذهب الى (المركز الصحي في أم القرى) وبما إننا نحن الأثنان كانت مراكزنا الصحية تابعة ل(دائرة صحة محافظة صلاح الدين) والتي كانت قد أنشأت حديثاً, فقد إتفقنا  أن نذهب سويةً في سيارته الخاصة صباح الغد..

في اليوم التالي بعد إستلام كتبنا الرسمية إنطلقنا سوية.. ذهبنا أولاً الى (المركز الصحي  في أم القرى) حيث إنتظرت لحين باشر زميلي (عمر اليعقوبي)  وقد تعرف عليه بعض أعيان المنطقة, وفي نفس اليوم إنفك منها المرحوم (مازن).. إبن الفريق المرحوم (عبد الجبار شنشل) القائد العسكري المعروف.. وفي طريق عودتنا أنا و(عمر اليعقوبي) نزلت في المركز الصحي في الثرثار.. ولم اجد هناك  طبيباً يفترض إنفكاكه لأحل محله!  لكني لم التق به لأنه كان مجازاً، ثم إنفك من المركز الصحي دون أن أراه أو  التق به أبداً.

وبذا بدأت بمرحلة جديدة من (طبيب تحت التدريب): بخدمة القرى والأرياف..


تعليقات

  1. جميل جدا..لكن عندي سؤال جانبي..هو كيف يمكن لكاميرا قديمة نوعا ما وذات فلم ذو حساسية واطئة ان يأخذ صور سريعة متلاحقة..ونحن نعلم ان الموضوع يحتاج افلام ذات حساسية عالية او تعريض طويل وهو امر لاينفع في هذه الحالة..فهل هناك ضبط معين لهذا الامر ..ارجو الافادة لاني كنت من هواة التصوير ولكني قارئ فضولي فقط وليس بمقدار خبرتك استاذ..تحياتي وتقديري..

    ردحذف
    الردود
    1. الفيلم المستعمل 400 ISO و الذي كان يفي بالغرض

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة