كتابي (فيض الذكريات.. يوميات طالب طب) وصفحة بعنوان (المسرح.. ابو الفنون)..
المسرح.. ابو الفنون:



مع بداية العام الدراسي واعلان نتائج القبول في الجامعات والمعاهد العراقية, وبعد شهر او شهرين من بدء الدوام, كان هناك تقليد سنوي معمول به في كلية الطب في جامعة بغداد وبعض الكليات الأخرى يتمثل في الإعداد لحفل استقبال الطلبة المقبولين الجدد, يقدم خلاله طلبة المراحل الاخرى مواهبهم الفنية سواء فن التمثيل أو موهبة الغناء او العزف على الالات الموسيقية. وكان الحفل يقام في الساحة الرئيسية في الكلية أمام البناية الخاصة بالعلوم الأساسية, إذ كانت تنصب منصة كبيرة محاطة بستارة كبيرة, مع تخصيص مكان خاص للحضور والمشاركة في هذه المناسبة الجميلة, وصف عشرات الكراسي لهذا الغرض أمام منصة العرض.
ابتدأ الحفل بعد الغروب, وحضر الطلبة الجدد ومعهم من يرغبون من أهلهم وأقاربهم نظير مبالغ زهيدة ثمناً للتذاكر. أذكر احدى الحفلات لأنّ زميلنا ( فوزي الساعدي) الفنان الأصيل في الكلية الذي يسبقنا بعامين قرر أن يقدّم المسرحية التي قام بتأليفها هو, وقام بإخراجها وتمثيلها.
ولا أعرف كيف وقع اختياره عليّ كأحد الممثلين!, كان اسم المسرحية (شلتاغ) وكان دوري في المسرحية هو دور (طبيب) يسخر من (شلتاغ) الإنسان القروي الطيب البسيط, كان (فوزي) قد استقدم أحد العاملين بالتلفزيون وكان مختصاً بعمل المكياج (ماكيير) إذ قام بلصق (شارب) لي, حيث كنتُ آنذاك حليق الشارب واللحية! وألبسني نظارة وصدرّية كي أظهر بمظهر الطبيب!, كما لصق (الماكيير) لحية وشارب لـ(فوزي) كي يظهر بمظهر القروي البسيط. الحفل كان جميلاً, وتخلله الكثير من الفقرات الترفيهية. كانت المسرحية تراجيدية جادّة وهادفة, لكنها لم تلق استحساناً من قبل الحاضرين وتفاعلاً مع العرض!. وأُصيب (فوزي الساعدي) بإحباط وخيبة أمل كبيرة وعلى اثرها اصيب بكآبة لمدة من الزمن ليست بالقليلة!...
بعد تلك التجربة الفاشلة حضرنا العديد من حفلات الاستقبال في كليات أخرى أذكر منها حفلتي كليتي الهندسة والعلوم, تم فيهما تمثيل الكثير من المسرحيات القصيرة,وكانت تلك المسرحيات جميعها ناجحة وممتعة!.
وعند دراسة وتحليل أسباب نجاح تلك المسرحيات, وجدنا أن هناك قاسم مشترك بينها جميعاً. فهي (كوميدية), إذ إنّ الناس لا يحبون المسرحيات الجادة والهادفة!, لاسيّما في حفل استقبال الطلبة الجدد في كلية, جاء أهلهم وذويهم من بيوتهم وهم يريدون أن يستمتعوا بوقتهم و يضحكوا, والشيء الوحيد الذي يضحكهم هو بعض المواقف التي تحمل إيحاءات خفيفة وإيحاءات بالجنس والعلاقات الزوجية.. بعض المواقف القصيرة على خشبة المسرح عن حياتنا الاجتماعية والعلاقات الزوجية ولا سيما التلميح الى العلاقة بين الزوجين واشباع رغباتهم الخاصة.. شريطة طرحها بلغة موحية ومعبرة تلفها روح الدعابة والضحك والسخرية كي يتقبلها جمهور الحاضرين من دون حرج آخذين بنظر الاعتبار طبيعة المجتمع المحافظ آنذاك, إذ يّعد طرح هذه الامور الخاصة بصورة مباشرة من المحرمات.
وفي السنوات التي تلت ذلك, اشتركت في مسرحيتين وكلتاهما كانتا ناجحتين للأسباب المذكورة أعلاه فقد برع اصدقاؤنا وشلة (المشاغبين) بموهبة التمثيل! وقدمّنا أعمالاً ناجحة جداً, ولم يزعل أحد لأن كل ما فيها هو كلام مبطّن وليس صريحاً و(بس لا تسب الحكومة.. قل ما تريد)!
الممثلون الرئيسيون في آخر مسرحية قدمناها, وهم كثيرون, كان (زهير متّي) من الدورة التي تسبقنا, ومن دورتنا (نوفل نذير) و(حسام دابس) و(سعد الفحل) و(مازن خضير) وأخوه (خالد) وابنيّ عمّهما (سلام وصباح زهرون). كانوا في غاية الروعة والتلقائية وعندما مثلوا على خشبة المسرح, كنت ترى الناس يتمايلون يميناً ويساراً من شدة الضحك. كنّا نمثّل وأيدينا على قلوبنا, فقد كان العميد والكادر التدريسي جالسين يتفرجون, وكانت المسرحيات تعتمد على المواربة والكلام المبطن الذي يحمل تلميحات إلى مواضيع فاضحة جنسية, لكننا ولدهشتنا وسعادتنا وجدنا العميد وبقية الجالسين يشاركون الجميع بالضحك الشديد. وشعرنا بأن كل شيء يسير على ما يرام!
أقول: للأسف وجدتُ أنّ جزءاً من التردّي الذي أصاب جامعاتنا في سنوات الحرب والحصار وما بعدها, هو زوال ذلك النشاط المسرحي والترفيهي. فقد كانت حفلات التعارف تقوّي الأواصر بين طلبة المراحل المتقدمة مع الطلبة الجدد, وتزيل الخوف والحواجز بين طلبة المراحل المختلفة.. هذه الفعاليات الجميلة لم أشهد أي منها منذ عودتي للتدريس في (كلية طب بغداد) عام 1988 ولحد الآن, ما يزيد عن الثلاثين عاماً!..

فهل ياترى ستعود أيام الزمن الجميل؟ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب