6-20 دموع في مطار هيثرو!..

 6-20 دموع في مطار هيثرو!..



بسهولة ويسر, وبسبب تأريخ عمل مشرّف وتوصيات جيدة, حصلت على عمل مؤقت (Locum) لمدة شهر (مقيم اقدم SHO) في (ردهة اطفال)!.. كانت تلك الردهة خاصة بالأمراض التي تحتاج رعاية طبية معمقة مثل زرع نخاع العظم, والعلاج بالأدوية الكيميائية لسرطان الأطفال باستعمال الخط المركزي (Hickman - Central Line) , و المضادات الحيوية المتطورة لمرضى التليف الكيسي (Cystic Fibrosis), اكتسبت فيها خبرات جديدة بسبب عشقي وحنيني الماضي الى طب الأطفال, وتعلمت الكثير من المهارات التي لم اكن اعرفها سابقاً!.. لكنه بنفس الوقت سبب لي حزناً وألماً عندما كنت أعالج اطفال في عمر الورود مصابين بالسرطان وهم بأمس الحاجة الى رعاية خاصة للتغلب على آلامهم وتحمل المضار الجانبية للأدوية التي تعطى لهم.. لأول مرة دخلت صالات التمريض الحاجز ( Barrier Nursing) وساهمت في الرعاية الطبية فيها..
كان أهالي الأطفال يسمح لهم بالزيارة في الصباح فقط لغاية الظهر تقريباً, ثم بعدها نبقى لوحدنا في رعاية اولئك المرضى. احياناً كان هناك من الأطفال الرضع المصابين بداء (التليف الكيسي) يبكون بإلحاح, وهنا يتناوب الأطباء المقيمين مع الممرضات في حمل الطفل والمشي به و(هدهدته) والغناء له كي يهدأ وينام.. كنت الوحيد الذي يرفض حمل أولئك الأطفال وهدهدتهم!!.. حيث كنت اخبرهم ان عندي اربعة اطفال اصلاً في بيتي! وبذا استوفيت حصتي من حمل الأطفال وتحمل بكاءهم!.
أظهرت مهارة فائقة في التعرف على العلامات المرضية لبعض الحالات الحرجة عند اولئك الاطفال الصغار مما أدهش الأطباء الاختصاصيين وكان ذلك كله بفضل التدريب الذي حصلت عليه في مستشفى الكرامة على يد (محمود البحراني).
إحدى أمهات الأطفال كانت امرأة شريرة جداً! وكانت متعتها الفائقة أن تأتي في الصباح لتصرخ وتتشاجر معنا مبدية عدم رضاها عن كل ما نقدمه من خدمة.. مع اننا قد قضينا الليلة الماضية ونحن نحمل ابنتها ذات الشهور الستة ونحن نذرع بها الردهة و نهدهدها ونرعاها كما لو كانت ابنتنا.. تلك الطفلة كان اسمها (كارا Cara) وكان (جون) المقيم الأقدم الإنجليزي قد بدأ يفقد اعصابه من تعديات (ام كرا) وسوء اخلاقها.. قلت له في أحد الأيام: "جون هل تعرف ما معنى (كرا)؟"
أجابني وهو مستاء: "لا.. اللعنة على امها سليطة اللسان التي لا يعجبها العجب!"
قلت له: " هناك معنى اسمها باللغة التركية وهو (اسود).. أمّأ معناها بالعربي ف (كرا) يعني (البراز!)!.. قفز من مكانه فرحاً لتعلم تلك المعلومة المفيدة!..
في الصباح التالي وبعد تلقي سيل من الشكاوى والتذمر من (أم كرا). سألها (جون) وهو يخفي حنقه ويتظاهر بالتودد: " هل تعرفين معنى الإسم (كرا)"؟ .
أجابت "كلاا.. انا سمعت الإسم واعجبني دون معرفة معناه!"
هنا قال لها وهو يتظاهر بالجدية: "هناك معنى بالتركية وآخر بالعربية.. دعيني اشرحهما لك!"..
بعد ألاطفال قضيت شهراً في مستشفى (كلنبك Kilinbceck) ك(مقيم اقدم مؤقت SHO) في (الأمراض التنفسية) حيث كنت أساعد في فحص الرئة ب (الناظور الليفي المرن Fibro-optic Bronchoscope), هناك ايضاً تعلمت خبرات جديدة لم اعهدها سابقاً!..
ثم قضيت شهراً كمقيم اقدم في (جراحة الكسور).. لم يكن هناك نوم طوال الليل!.. حيث كنت استقبل النسوة (العجائز) اللواتي سقطن اثناء الليل وكسرن مفصل الورك!, كنت أهرع بعد الثانية أو الثالثة من منتصف الليل لتسجيل معلومات المريضة وفحصها ثم لإجراء فحوصات الدم المختلفة مثل نسبة الأوكسجين وثاني اوكسيد الكربون بنفسي, وإجراء فحص مطابقة مع الدم المخزون والمتوفر في المستشفى, كل ذلك قبل استدعاء الجراح الخافر...
كانت مصادفة سعيدة في ذلك المستشفى, عندما التقيت فجأة ب(جينJane) زوجة اول طبيب اختصاصي عملت معه (الدكتور سلطان), حيث كانت تعمل كرئيسة ممرضات هناك.. حكيت ل(جين) عن استقالتي من وظيفتي في (هاروكيت) بنية العودة الى العراق, وكيف تم تأجيل تلك العودة بسبب انتظار المولود الجديد!.. حاولت إقناعها إنني مستمتع جداً بتعلم مهارات وخبرات جديدة.. إلا أنها لم تقتنع بأنني استحق (هذه المعاناة)!.. رفعت سماعة الهاتف فوراً واتصلت بزوجها الدكتور (سلطان), ثم التفتت لي وأخبرتني أن هناك وظيفة (طبيب مسجّل مؤقت) ( Locum Registrar) شاغرة في (نيوتن كرين) ويمكنني المباشرة بالعمل فيها فوراً ومن الغد! ولمدة مفتوحة!.. لحين عودتي الى العراق!..
في تلك الفترة كانت المجلة الطبية البريطانية تعلن كل اسبوع على صفحة كاملة عن توفر وظائف لمن يحمل (MRCP) في (دولة الإمارات). حاولت ان اقنع زوجتي ان نذهب للعمل في (الإمارات) التي كانت تدفع رواتب مغرية وشروط عمل رائعة لمن عنده اختصاص من بريطانيا, الا انها رفضت بشكل قاطع, بالنسبة لنا في ذلك الوقت كنا ننظر للإمارات (باستصغار)! وكانت زوجتي مصرة على ان لا تبدل انجلترا بالإمارات!, وإن العراق وحده هو ما يليق بأن نترك بريطانيا من أجله!.
التحقت بالوظيفة في المكان الذي اشتغلت فيه لأول مرة قبل اكثر من اربعة سنوات!.. المستشفى الذي احببته كثيراً.. (جناح نيوتن كرين).. والذي مكنني من الحصول على الجزء الأول من عضوية الأطباء الملكية.. كانت وظيفتي هناك سهلة جداً ومريحة جداً فأنا اعرف الجميع إبتداءً من الممرضات الى عامل البدالة والمنظفين!.. وكنت بحاجة لمثل هذه الفرصة!.. لأنني وزوجتي كنا منهمكين في شراء حاجيات بيت كامل! حيث اشترينا (حاوية 400 قدم مكعب), وكذلك فعل جاري وصديقي (محمد زهدي).. واتفقنا مع احدى شركات الشحن الرسمية على إيصالها إلى بيتنا في بغداد وبيته في الموصل!!..
كان القانون الساري في العراق آنذاك أن العائد من الخارج بشهادة عليا (الماجستير والدكتوراه) يتم إعفاؤه عن أثاث بيته وسيارته من الرسوم الكمركية. (بعد رجوعي اخبروني في الجمارك, ان الأثاث يجب أن لا يزيد ثمنه الكلي على 1000 دينار عراقي, مما جعلني عرضة للمساومات والابتزاز من قبل موظفي الجمارك, وفرضوا علي ضريبة ظالمة, بحجة أن ما جلبته زاد ثمنه عن المبلغ المحدد).
في تلك الأثناء.. في شهر تموز اتصل بنا من (لندن), الأخ الدكتور (فائق الصافي) (رحمه الله) والذي كان رئيس قسم اللثة في كلية طب الأسنان وصديق العائلة, أخبرنا أن في نيته إجراء (زيارة عمل) إلى كلية (طب الأسنان) في (ليدز), لذا قررنا استضافته في بيتنا, حيث بات ليلته عندنا.. كان حديثه كله, ولساعات, ينصب في محاولة اقناعنا بتغيير فكرتنا التي اعتبرها (جنونية) بالعودة الى العراق!, في وقت لم تكن نتائج الحرب مع إيران واضحة.. والبلد يعاني من التجنيد القسري لكل الذكور من كل الأعمار, جيش وجيش شعبي.. وصف لنا الوضعية بأنها مأساوية تماماً.. ورغم محاولاته لإثنائنا عن عزمنا على العودة.. الا اننا كنا مصرين على قرارنا الذي كنا نرى انه الأفضل لتربية اطفالنا!..
في بداية شهر أيلول 1985 ولدت لنا (خامس) اطفالنا!… ابنتي (صفا)!.. وصار أطفالنا الآن (خمسة)!, منهم ثلاثة دون عمر السنة ونصف!.. وكنا قد استعنا في الأشهر الثلاثة الماضية بمساعدة خادمة باكستانية (الاخت طاهرة), التي كانت خير عون لزوجتي في جميع شؤون البيت واستمتعنا بالطبخ الهندي-الباكستاني من انواع (البرياني) وحلويات ال(كولاب جام).. ولولا خدمتها لنا لكانت حياتنا مستحيلة!.. وتقديراً لخدمتها فقد اهديناها جهاز التلفزيون الملون وبعض الحاجيات الأخرى كي تحتفظ بها بعد مغادرتنا (ليدز).
في 30 أيلول 1985 اتصلت بسكرتيرة (الكلية الملكية البريطانية ) الأنسة (كرستين برندركاست) وارسلت لها مبلغاً بسيطاً مقابل رسوم إصدار شهادة ( أمراض المفاصل DMR) قامت هي بوضع تأريخ يوم الإتصال عليها (مع أنني حصلت على تلك الشهادة قبل ذلك التأريخ بسنتين!). استلمت الشهادة بالبريد, ثم ذهبت إلى (لندن) حيث قمت بتصديق تلك الشهادة مع شهادة (عضوية الكلية الملكية البريطانية MRCP) عند (كاتب العدل) ثم (وزارة الخارجية البريطانية) وبعدها (الملحقية الثقافية في السفارة العراقية)!..
لم اكن اعرف احداً في الكويت كي اسافر اليها لشراء سيارة و بقية الكهربائيات.. عرفت ان نسيبي صديق للسفير العراقي في الكويت, اتصل به تليفونياً واخبره اني راغب بالقدوم للكويت وطلب منه أن يساعدني في الحصول على تأشيرة الدخول للكويت. أجابه السفير على طلبه وبأنني سوف انزل في (بيت الضيافة) المرفق بالسفارة, ضيفاً على السفارة العراقية في الكويت .
بعد ولادة ابنتي (صفا) بشهر ونصف فقط .. كانت واقفاً ابكي بدموع غزيرة, في مطار(هيثرو) وأنا أنظر الى زوجتي و(أطفالي الخمسة) وهم يرتقون سّلم طائرة (الخطوط الجوية العراقية) عائدين مباشرة الى بغداد, الى مستقبل مجهول.. حيث استقبلهم هناك حشد من أخوالهم وأعمامهم..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب