6-19 استقالة من العمل

 6-19 استقالة من العمل



في بداية عام 1985 اتفقت مع شركة (اوركانون Organon) للأدوية, على المشاركة ببحث علمي بطريقة التعمية المزدوجة على عقار جديد للزرق داخل المفصل, وضعوا له رمزاً ولم يكونوا قد وضعوا له اسماً بعد, وقابلت لجنة (اخلاقيات البحث) في (هاروكيت), وقد وافقوا على أسلوب البحث وفعلاً ابتدأت بجمع المرضى وثم تدوين نتائج زرق المادة والتي كانت تحمل ارقاماً مشفّرة لا يمكن من خلالها معرفة أي من المرضى يحصل على المادة الفعّالة المفترضة او الاخرى البديلة.. وللأسف تغيرت ظروفي واضطررت الى الإنسحاب من البحث بعد أن اجريته على عشرة مرضى, انجزت مريضاً واحداً فقط بشكل كامل, بينما لم اكمل تتبع المرضى الآخرين!.

اعتذرت للشركة عن اكمال البحث لأسباب قاهرة تمنعني من الاستمرار, واحسست بالذنب لأن تلك الشركة قد اجرت لي الكثير من التدريب على  الأسلوب الصحيح لملء الاستمارات الخاصة بالبحث, وكيفية تدوين النتائج وما يمكن عمله في حالة حصول مضاعفات للمريض أو أعراض جانبية, وكيفية فك شفرة الدواء المعطى للمريض والتعامل مع الحالة.  

بعد عودتي الى العراق ببضع سنوات  وتعييني في كلية طب بغداد, سافر الأستاذ د (زياد الراوي) الى اليابان لحضور (مؤتمر المفاصل الأسيوي). هناك التقى ب(هاورد بيرد), أحد الاختصاصيين الذين اشتغلت معهم,  والذي قام بتسليمه صكاً بمبلغ (مئتي باوند) عن المريض الوحيد الذي أتممت البحث معه!.. جلب لي د (زياد الراوي) الصك.. وأمسكت به كمن يمسك بقنبلة يدوية قد تنفجر في أي لحظة! في ذلك الوقت لم يكن من المسموح للعراقي ان يحتفظ بحساب مصرفي أجنبي بعد عودته من خارج العراق!, والحكومة العراقية ومخابراتها كانت شديدة البطش, ويمكن لهذا الصك أن يسبب لي المتاعب! إستجواب من نوع من ارسله لك؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ …. وإذا لم يقتنعوا بإجابتي فربما ادى بي الى السجن!.. أبقيت الصك مطموراً في مكان أمين, ولم اودعه في حساب مصرفي إلا في عام 1995 في اول سفرة لي الى خارج العراق... بعد عودتي من بريطانيا بعشر سنوات!..

في شهر شباط 1985 حصل أمر قلب حياتنا رأساً على عقب! كانت زوجتي تنهر ابنتي عن عمل ما, وإذا بابنتي الصغيرة ذات الثماني سنوات,  تشهر إصبعها السبابة بين عيني أمها, ثم تقول لها بالانجليزية وبلهجة التحديّ:

"أنت لا تملكين الحّق في منعي يا امي!"

جفلت زوجتي من كلام ابنتي, فهذه اول مرة تسمع فيها مثل  هذه (الوقاحة)!.. وقالت لها: 

"ماذا؟ مالذي سمعتك تقولين؟"

أجابت وهي لا تزال تشهر إصبعها بين عيني امها: 

"انا قلت.. ليس لك الحق أن تمنعيني!"

تمالكت  امها اعصابها وسألتها بهدوء وهي تحاول ضبط نفسها:

"من أين تعلمت هذا الكلام؟"

أجابتها: "من مديرة المدرسة, (مسز سوين), قالت لنا إذا كلمكم اهلكم, فضعوا أصابعكم في عيونهم وقولوا لهم ليس لكم الحق في منعي!"

سألتها زوجتي: "ثم ماذا قالت لك (المسز سوين)؟"

أجابت بعفوية: "واعطتنا رقم هاتف وقالت إن تجاوز أهلكم عليكم حتى لو بالكلام.. اتصلوا بهذا الرقم وسوف تأتي الشرطة الخاصة بحمايتكم!"

ثم ذهبت ابنتي -ببراءة- راكضة الى غرفتها وجلبت دفترها حيث كتبت المديرة فيه وبالخط الواضح رقم  هاتف الشرطة الخاصة (بحماية الأطفال)!

انتظرت زوجتي الى ان عدت من الدوام, ثم حدثتني بهدوء وإصرار معلنة قرارها النهائي: 

"يجب ان نرجع الى العراق!, فلا عيشة لنا في بلد يحرض اطفالنا علينا!, وغداً اذا خرجت ابنتي عن طاعتنا, لن يلوم الناس اباها, بل سوف يلومون امّها على عدم تربيتها"!..

حاولت أن اثني زوجتي عن قرارها بالعودة الى العراق, مذكراً اياها بأن هناك حرباً ضروساً تدور هناك, وانني لست (حزبّياً), الا انها كانت قد اتخذت قراراً لا رجوع عنه!: 

"اما ان نرجع جميعاً.. أو آخذ انا الاطفال وأعود بهم لوحدي!.. فهذا البلد لن يصلح لتربية أطفالنا على طريقتنا"!

بعد ذلك (الإنذار)!.. ببضعة أيام قدمّت استقالتي من الوظيفة, واعطيتهم مهلة بالمدة القانونية (شهرين) لحين تعيين طبيب بديل عني!..

كان قراراً صعباً, اتخذته زوجتي، وإقتنعت به -على مضض-!!  فأنا قد قضيت (خمس سنوات) كاملة اعمل في المستشفيات البريطانية براتب كامل وبدون إنقطاع حتى ولو يوم واحد, وهذا منحني حق الاقامة الدائمة في بريطانيا, كما انه  سيعطيني لاحقاً الحق في التقديم للحصول على الجنسية البريطانية, وبما انني كنت (استحرم) الربا في البنوك, فقد كنت اشتري اسهماً وسندات في كبريات الشركات البريطانية والتي تدر علي ببعض الإيراد, كما أن حياتي كانت منظمة بشكل جيد, واستاذي بروفيسور (رايت) كان يخطط  لي مستقبلاً مهنياً أفضل, ولكننا بدأنا نخشى على اولادنا من مجتمع قد يجرفهم الى قيم وعادات وسلوك تختلف كثيرا عن عاداتنا وقيمنا!.  

وهكذا استقر رأينا على العودة, رغم ان مطحنة (الحرب العراقية الايرانية) كانت مستمرة,  وانني لم اكن (حزبياً), وإن الاحتمال الأكبر -بل المؤكد- إنهم سوف يسوّقّونني الى الجيش فور وصولي الى العراق! هذا إذا لم يتم سوقي الى السجن بتهم كيدية!.. ومع ذلك آثرنا العودة بأولادنا, (وفعلا تم تسويقي الى الجيش فور وصولي إلى أرض الوطن العزيز, وأصبت بكآبة شديدة بعد أن وطأت قدمي ارضه! واستمرت الكآبة لشهور عديدة! كنت فيها اضرب الكف بالكف واعلن الندم على عودتي!.. 

(يذكّرني ذلك بنكتة  (المغترب) العراقي ألذي كان قد نَذَر أن (يقبّل تراب العراق) حالما تطأه قدماه, وفعلاً فور وصوله مطار بغداد ونزوله من سلم الطائرة, سَجَد إلى الأرض وقبّل تراب العراق, وما أن اعتدل حتى اكتشف أن حقيبته التي تركها بجانبه, قد سرقت أثناء سجوده.. فصاح نادماً "رِجَعنا لـ (إكلان الخَ...)"!)


  بعد انتهاء الشهرين وتعيين طبيب بديل,  وفي يوم مغادرتي المستشفى, ذهبت الى بروفيسور "رايت" كي أودعه.  كان "رايت " يعرف انني لم اكن من المحابين للحكومة في العراق, أبتسم في وجهي وقال لي في توديعي:

"مادمتَ مُصّراً على العودة, فنصيحتي لكَ أن تُبقي رأسك دائماً منخفضاً الى الأسفل! لا ترفع رأسك ياسامي.. فهناك رصاص كثير في الجو!"

  كان (رايت) معتاداً على الكلام المبطن وكنت متعوداً على ذلك, وهو يعرفني  حق المعرفة! وَعَدتَه اني سوف أبقي رأسي منخفضاً!.. 

منتسبو المستشفى من ممرضات وأطباء اقاموا لي حفلاً توديعياً.. قدموا لي فيه هدية, وألقت احدى الممرضات (كلمة التوديع) لم تتمكن من اكمالها بسبب بكائها بدموع غزيرة, الأمر الذي أدهشني! لأنني في انشغالي بعملي لم أكن اظن ان لي مثل هذه الشعبية بين الإنجليز الذين تتميز عواطفهم بالبرودة الشديدة!.. 

(بعد حفل التوديع ذلك بسنين طويلة, التقيت في عام (1998) في ألمانيا بأحد المحاضرين الإنجليز, كان اسمه (فيليب هلويل Philip Helliwell) أثناء دورة تدريبية في أمراض المفاصل تقيمها (الرابطة الأوروبية لطب المفاصل), كنت واقفاً قريباً من ذلك (الأستاذ المحاضر) عندما رأيته يمعن النظر في  بطاقة التعريف المعلقة على صدري.. تفحص وجهي.. ثم سألني..:

 "انت سامي.. سلمان الذي اشتغل في (رويال باث هوسبيتال في  هاروغيت) في الثمانينات؟" 

أجبته مستغرباً "نعم.. انا هو!"

قال ضاحكاً: "الا تذكرني؟ أنا الطبيب الذي تم تعيينه بديلاً عنك!.. لو تعلم كم عانيت بسببك من العذاب!.. فكلما كنت افعل شيئاً أو اجري اي تداخل لمريض, كانت الممرضات  لا يرضين عن عملي, بقولهم (الدكتور سلمان كان يفعله بشكل أفضل)!".. 

"عانيت كثيراً، ولمدة طويلة بسببك!" قالها وهو يضحك!..

سبحان الله!.. وأنا الآن (طالب) في هذه الدورة التدريبية جالس بين بقية (المتدربين), وهذا الشخص الذي (عُذب) بسببي.. يقف امامي (محاضراً).. فسبحان مقسم الأرزاق!..

    بعد انفكاكي من العمل في (رويال باث) ببضعة أسابيع فقط, اكتشفنا ان زوجتي (حامل) بطفلنا (الخامس)!! ولما كان لزوجتي ذكرى اليمة عن ولادتها الأولى في بغداد, اوشكت فيها على الموت, فقد قررنا تأجيل عودتنا التي كنا قد خططنا لها سابقاً أن تكون خلال شهر واحد.. الى حين ولادتها المتوقعة في أيلول من عام (1985)!! 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب