6-18 المعجزات تسير في الليل

 6-18 المعجزات تسير في الليل

     في يوم الإمتحان, استلمت (الحالة الطويلة) اولاً.. حيث يجب أن أقضي حوالي نصف ساعة لوحدي مع المريض, منها عشرين دقيقة في استجواب المريض ثم عشرة دقائق للفحص وبعدها معرفة التشخيص المحتمل والتشخيصات المشابهة الاخرى ووضع خطة تشخيص وعلاج!..     كانت مريضتي شابّة جميلة في العشرينات من عمرها مصابة بمشاكل في قلبها, سببت لها إعياءً مستمراً ولهاثاً في التنفس, وعندما بدأت بفحصها كنت أينما اضع السماعة على المواضع المختلفة من قلبها اسمع جميع انواع ال (نفحاتmurmurs) التي تدل على تلف وقصور في جميع صمّامات قلبها, في بادئ الأمر حرت في شأنها, ودعوت الله أن يلهمني!..
كان قد حصل نوع من الود بيني وبينها أثناء استجوابها عن تأريخ مرضها, وربما (هداها الله) (بعد دعائي)!, إذ انها تطوعت بالقول:
"انا اعرف ان عندك امتحان ولقد اوصوني بأن لا أخبرك ابداً.. لكني سوف أخبرك!.. أنا غير متأكدة من اسم مرضي, فهو باللغة اللاتينية, ولكني سمعتهم يقولون ما يشبه كلمة: تعلاع..اتلعاع..التعاع!" (ترجمة قريبة لما قالته)
" التعاع؟ التعاع؟؟cardpathy, pathicardiلم أسمع ابداً بهذه الكلمة!.. بالتأكيد ان الفتاة قد اخطأت في لفظ اسم مرضها! فكرت قليلاً.. ثم قدح ذهني فوراً!. إعتلال! (إعتلال العضلة القلبيةCardiomyopathy). هذا هو مرض هذه الشابة بوجود كل هذه النفحات الآتيه من صمامات قلبها الاربعة"!..
لم تمض إلا دقائق بعدها حتى جائني إثنان من الممتحنين (سيدة وسيد) يتصنّعان الجدية والحزم, وسألوني عن تلك الحالة المرضية.. شرحت لهم بالتفصيل قصة مرض الفتاة والعلامات التي وجدتها بالإستماع الى قلبها, ثم سألوني عن التشخيص, اجبتهم:
"إعتلال العضلة القلبية Cardiomyopathy"
سألوني لماذا هذا التشخيص وليس غيره؟, أخبرتهم بأن الفتاة ليس لديها أي عوامل خطورة للأمراض القلبية الأخرى, وقمت بتعداد عوامل الخطورة للأمراض القلبية الأخرى, وجميعها غير موجودة عند فتاتي, وبوجود كل هذا الخلل في صمامات قلبها..فهذا هو التشخيص المحتمل الوحيد!.. كان من الواضح رضاهم عن تشخيصي وعن دفاعي!..
تركتهم للذهاب الى قاعة الانتظار حيث يجب ان انتظر لحين امتحان الحالات القصيرة.. كنت أتذكر مقولة بروفيسور رايت: "انت تحتاج الى الحظ في الإمتحان, ولكن لايمكن ان تنجح بالحظ وحده", فلولا دراستي المكثفة والمعمقة لما تمكنت من شرح هذا المرض واسبابه وانواعه بالتفصيل للممتحنين..
ابتدأ بعدها امتحان الحالات المرضية القصيرة.. جاء استاذان متجهمان تبدو عليهما الجدّية, حييتهم واصطحباني الى اول حالة.. كانت سيدة في الستين من عمرها مصابة بتشوهات شديدة في الرسغين وأصابع اليدين, عرفت فوراً انها مصابة ب(التهاب المفاصل الرثوي) المزمن, فهو المرض الذي اتعامل معه كل يوم طيلة السنين الماضية في (رويال باث هوسبتال), وفي جوابي أخذت (اغرّد).. وليس اتحدث!,
بينما كنت ادافع وأجيب على اسئلة الممتحنين, كانت المريضة تستمع لشرحي عن مرضها, و فاجأتنا بأن قطعت علينا نقاشنا وهي تمسك بيدي و تنظر في وجهي وتقول:
"دكتور.. انا اريدك ان تكون طبيبي! ارجوك.. إعطيني عنوانك, وسوف ابقى مستقبلاً تحت رعايتك!"..
كانت تلك جائزتي الكبرى! شعرت بنشوة النصر امام الممتحنين, حيث استمر الإمتحان بالحالات القصيرة الأخرى وهما ينظران لي باحترام وتقدير شديدين!..
كان ذلك اليوم الأخير من الامتحانات حيث يمكن الحصول على النتيجة النهائية, وبعد الظهر كانت هناك لوحة معلقة على الحائط وفيها اسماء الناجحين, وكان اسمي وأسم الزميل (قاسم سلطان) من بين الناجحين ولله الحمد!.. ذهبت فوراً الى اقرب جهاز هاتف حيث اتصلت بزوجتي ابشرها بالخبر السعيد.. خبر نجاحي في الحصول على (عضوية الكلية الملكية للطب الباطنيMRCP). ثم بعدها اتصلت بزميلي الدكتور (قاسم سلطان) حيث بشرّته هو الآخر بنجاحه.
في طريق عودتي للنزل مررت على محل بائع زهور واشتريت باقة من الورود الجميلة حملتها بعناية ثم قدمتها للسيدة البدينة صاحبة النزل, امتناناً مني لطيبة قلبها ورعايتها لي… تلقتها مني والدموع تنساب من عينيها وهي تقول:
"اقسم انني كنت متأكدة من أنك سوف تنجح!.. اشكرك على الورود الجميلة!"
في يوم وجدت بروفيسور رايت حزينًا… عندما سألته حكى لي كيف ان احدى المريضات المسنات كانت مصابة ب(التهاب المفاصل الرثوي), وكان البروفيسور قد وضعها في كل بحث لكل دواء جديد يكتشف لهذا المرض, وطوال عشرة سنوات كانت تحصل على العناية والإهتمام البالغ من جميع فريقه الطبي.. لم يكن البروفيسور يعلم أنها في الشهور الأخيرة كانت تزور البناية المجاورة لمركز بحوث المفاصل في (36 شارع كلارندن) حيث افتتح أحد القساوسة (عيادة) للإشفاء بالصلاة والإيمان (Faith Healer ).. وبعد وفاة المريضة وجدوا انها اوصت بكل اموالها لذلك القس!, وحرمت مركز البحوث من مبلغ كبير كان يمكن أن تنفع في دفع البحث العلمي للأمام!. مما سبب حزناً وغماً عند استاذي.
بعد عودتي من الإمتحان قامت زوجتي بتسليم النسخ العديدة من اطروحتها بعد اكتمالها إلى أستاذها المشرف, وهي الجزء الأخير من دراستها للحصول على شهادة (الماجستير في امراض اللثة), وقام استاذها بإرسال تلك النسخ إلى أعضاء اللجنة الذين سيقومون بالمناقشة العلنية للأطروحة في موعدها الذي تم تحديده في شهر آب 1984.
ولكن.. جاء اليوم الذي كنا ننتظره! ففي فجر اليوم الأخير من تموز 1984 اشتدت آلآم الولادة على زوجتي, فاسرعت بها الى مستشفى الولادة القريب من سكننا, وما إن اخبرتهم ان زوجتي حامل ( بتوأم) حتى دخل الجميع في الإنذار! إذ اتصلوا ب(طبيب اطفال) والذي جاء مسرعاً وتم تهيئة جهازين للإنعاش ولمراقبة نبض الطفلين (وهما في داخل الرحم), اختارت زوجتي ان يتم اعطائها مخدر نصفي (Epidural), حيث استغرقت فوراً في غفوة عميقة , فقد اصيبت بالإرهاق من آلام الطلق في الساعات الطويلة الماضية, ولما كنت انا ايضاً مرهقاً معها, فقد نمت أنا الآخر وانا جالس على حافة سريرها.. وكانت الممرضات يوقضنها بين الحين والآخر (كي تدفع) , وتمت الولادة على أحسن وجه دون أن تشعر زوجتي بأي ألم!.. وكانت ولادة بنتين.. ولما لم نكن نعرف جنس الجنين مسبقاً فقد قررنا على عجل ان نسميهما (إسراء و آلاء)..
انتبهنا -فيما بعد- وبعد فوات الاوان!, أن الإنجليز يتصورون أن اسم (إسراء) هو مشتق من (إسرائيل)! اما الطامة الكبرى فقد كانوا يتصورون ان (آلاء) هي نفس لفظ الجلالة (الله)!..
(Her name is God! Alla.. Allah)!
وبعد أن فشلت في إقناع الممرضات في مستشفاي بمعنى اسماء بناتي (التوأم), حاولت ان اقرّب الصورة إلى أذهانهن بأن أخبرتهن أن (إسراء) تعني (السفر في الليل) وليس إسرائيل!, أما (آلاء) فتعني (المعجزات الإلهية)!.. بعد ذلك نسيت الممرضات اسماء بناتي.. ولكنهن بقين يسألن عنهن:
"كيف حال المعجزات التي تسافر في الليل؟"
لايمكن ان انسى الموقف النبيل لجيراني عائلة الدكتور (محمد زهدي) حيث كنا قد اودعنا اطفالي (مروة ومصطفى) عندهم لرعايتهم طيلة فترة رقود زوجتي في المستشفى! وقاموا برعايتهم على اكمل وجه, جزاهم الله كل خير وجعلها في ميزان حسناتهم.
بعد الولادة بقيت زوجتي تحت المشاهدة في المستشفى لبضعة أيام, في اليوم الثاني جاء جميع منتسبي القسم الذي تعمل فيه في (كلية طب الأسنان) لتهنئتها وامتلأت غرفتها بباقات الزهور وبطاقات التهنئة فقد كانوا يحبونها حباً جماً لحسن اخلاقها وطيبتها. ثم جاء استاذها المشرف يهنئها وهو يحمل لها بشارة رائعة, جعلتنا نرقص من الفرح!.. فبعد أن درس أعضاء لجنة المناقشة اطروحتها والجهد الرائع المبذول فيها, وكونه يحث متميز بحق يرقى ليكون دكتوراه, قرروا منحها شهادة (ماجستير الفلسفة M Phil) (في أمراض اللثة) بدون اجراء المناقشة العلنية!..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب