6-17 الدكتور (كامبرس) وعشيقته

 


6-17 الدكتور (كامبرس) وعشيقته

في أول شهر من عام 1984 بدأت أعراض الحمل على زوجتي!, ثم بعد اجراء الفحوصات المعتادة تم تأكيد كونها حامل ب(توأم)!.. وكانت زوجتي كلما يجرى لها فحصاً بالأمواج فوق الصائتة يسألونها إن كانت تود أن تعرف (جنس التوأم)!, إلا أنها كانت ترفض بشدة, فنحن مؤمنين ان كل ما يأتي من الله هو خير, وعندنا بنت وولد, و لن تفرق معنا شيئاً... لذلك بقينا لا ندري بما تحمل زوجتي, حتى يوم الولادة!..
وفي نفس العام (1984), سألني بروفيسور رايت ان كنت ارغب بتقديم محاضرة كجزء من الفعاليات العلمية لجامعة ليدز. في البداية اقترحت عنواناً لموضوع علمي في (آخر مستجدات أمراض المفاصل).
بعد بضع أيام تذكرت رغبتي في أن أظهر اعتزازي ببلادي العراق, وفخرى بها بعد تلك المحاضرة التي ألقاها البروفيسور (فيرنا رايت) في قاعة جامعة (ليدز) عن زيارته (لبغداد), والتي أغضبت البعض من الزملاء. تقدمت لاستاذي (فيرنا رايت) بمقترح ثان بديل, وذلك بأن أقدّم محاضرة تحت عنوان "الطب في بلاد مابين النهرين القديمة Medicine in Ancient Mesopotamia" أحكي فيه عن الطب عند السومريين والبابليين والآشوريين.
ابدى البروفيسور فوراً رغبته بالموضوع الخاص ب (بلاد مابين النهرين) وقام بكتابة بإقتراحه الى الجامعة!. وافق المعنيين على الفور على الموضوع ومكان إعطاء المحاضرة و حددوا لها تأريخاً, وقاموا بإلغاء المحاضرة التي كنت قد اقترحت تقديمها سابقاًً عن (متلازمة الدهون المفسفرة Antiphospholipid Syndrome ), والتي اكتشفها (كراهام هيوز) وكانت قد بدأت جميع المجلات الطبية بالحديث عنها تواً.
بعدها ندمت كثيراً!! ماذا فعلت بنفسي يا إلهي؟ من أين لي بالمصادر؟ كيف سأبدأ من الصفر؟ إذ لم يكن عندي أيّة أوليّات على الإطلاق حول موضوع الطب عند العراقيين القدماء!.
لم يكن هناك (إنترنت) في ذلك الوقت. لم أنم لعدة ليالي من القلق, ثم توكلت على الله وفي أحد الأيام ذهبت الى (مكتبة كلية الطب) في جامعة (ليدز), وسألت مديرة المكتبة إن كان هناك مصادر عن الطب عند العراقيين القدماء (البابليين والآشوريين), قادتني السيدة إلى إحدى القاعات وأشارت الى رفوف ممتدة عدة أمتار وعلى عدة طبقات, وقالت: "فتش ما بدا لك.. فكل هذا هو قسم (تاريخ الطب)".
هناك عثرت على العشرات من المقالات والمصادر عن الموضوع! بل إن المادة التي عثرت عليها زادت كثيرا عن ما يمكن تقديمه ضمن الوقت المتاح لي لتقديم تلك المحاضرة!. باستعمال اجهزة الاستنساخ البدائية في ذلك الوقت استنسخت ما زاد عن مائتي صفحة, جميعها تتحدث عن الطب في بلاد (مابين النهرين)!.
زرت (المركز الثقافي العراقي) الذي يقع في قلب (لندن) على مبعدة قليلة من السفارة العراقية, وقام مدير المركز بتزويدي (مجاناً) بالعديد من مجموعات الشرائح الشفافة (السلايدات كوداكروم) الملونة عن آثار العراق, والتي يمكن عرضها على الشاشة باستعمال جهاز العرض (كوداك كاروسيل).
اكتملت جميع تحضيراتي للمحاضرة التي أعلن عنها في صحيفة (جامعة ليدز), وفي اليوم المعين غصت القاعة بالجمهور, و قدمت محاضرتي بنجاح في موعدها المقرر بكل فخر واعتزاز. من جملة ما تحدثت عنه كيف أن (بابل) كانت تحصل على ماءها من فرع من نهر الفرات شمال المدينة, وبها شبكة متكاملة للمجاري! تصب تلك المجاري في جنوب المدينة, وبذا تضمن نظافة مياه الشرب والطبخ, وصلاحيتها لإستهلاك المواطنين!. كما حصلت على صورة لكرسي مرافق صحية يشبه بالضبط كرسي المرافق الصحية (الغربية) مصنوع من الحجر, تم العثور عليه في أحد القصور الملكية.. كذلك تحدثت عن (مسلة حمورابي) والمواد القانونية الخاصة بتنظيم ممارسة الطب والعلاقة بين الطبيب والمريض!.
وبعرض ال(سلايدات) الملونة لآثار العراق, لقيت محاضرتي صدى واسعاً بين الجمهور واستحساناً خاصاً من جميع زملائي العاملين معي في (مستشفى رويال باث)..
كان أستاذي البروفيسور "فيرنا رايت" اخر من ذهب الى بغداد ممن أعرفهم ولكني التقيت في مؤتمر في (باريس) في ربيع عام 1984 بالعديد من اساتذة أمراض المفاصل, وفي إحدى حفلات العشاء كنت جالساً مع (كريستوفر ونباري) و بروفيسور (ددلي هارت ) وهما من مشاهير المفاصل في (بريطانيا) وبروفيسور اخر فرنسي لااذكر اسمه, وعندما عرفوا أنني قادم من العراق أخذ كل منهم يحكي لنا عن تجربته في زيارته للعراق لفحص رئيسها (صدام حسين)!, بعد إصابته بانزلاق غضروف الفقرات و(عرق النسا). كان الكثير من حديثهم يحوي على تهكم وسخرية لم اكن احتملها, إذ كنت معتزاً كثيراً بعراقيتي, رغم موقفي المبدأي من رئيسها.
ويبدو أن علاج اولئك لم ينجح!, و بقي (صدام حسين) يعاني من آلآم الظهر حتى التقى, عند زيارته ل(كوبا) في تشرين الثاني 1978 بالثائر الشهير والرئيس الكوبي (فيدل كاسترو), الذي عرفّه على (طبيبه الخاص) و(سكرتير الحزب الشيوعي) الدكتور (كامبرس).
د. (كامبرس) نجح في علاج (صدام) وإزالة آلامه عنه!, وبعدها انفتحت له أبواب السماء, فصار يزور العراق بانتظام. والتقيت به في إحداها بعد عودتي من بريطانيا, كانت تصحبه فتاة شابة, تصغره بثلاثين سنة, قام بتعريفنا بها على أنها سكرتيرته (عرفنا فيما بعد أنها خليلته), وبعد كل زيارة كان أحد ضباط الحرس الخاص يأخذهما إلى (شارع النهر) حيث يوجد سوق صاغة الذهب, هناك تختار تلك ال(سكرتيرة) ماشاء لها من المصوغات الذهبية تحملها معها في طريق عودتها هدية (من السيد الرئيس)!.
التمريض في بريطانيا في ذلك الوقت كان من اروع ما يمكن… في كثير من الأحيان كنت في خفارتي في المستشفى عندما تتصل بي الممرضة من الردهة وهي تخبرني ان هناك مريضاً قد تم إدخاله الردهة.. عندما اقول لها حسناً خلال خمس دقائق اكون معك.. ترجوني قائلة: "لا دكتور.. ارجوك اعطني مهلة عشرين دقيقة قبل المجئ للردهة, فالمريض غير متهيئ للفحص". عندما انزل بعد مضي الدقائق العشرين, اجد الممرضات قد خلعن عن المريض جميع ملابسه ثم اخذنه الى المغطس (البانيو) حيث حممّنه بالماء الساخن والشامبو, -فكثير من مرضى المفاصل الذين يدخلون مستشفانا كانوا من فئة المسنين الذين يعيشون في عزلة لوحدهم-.. بعد الحمام كن يقمن بحلاقة لحيته ويصففّن شعر رأسه, ويشذبن أظافره ثم يرش عليه العطر وال(بوطرة).. وبذا صار المريض مهيأ للفحص!. كن اولئك ملائكة الرحمة الحقيقيات اللواتي يعتنين بالمريض بشكل يحفظ كرامته و مظهره أمام الناس!!..
في 10 حزيران 1984 والذي صادف ايضاً العاشر من (رمضان), كنت صائماً كعادتي كل عام, توكلت على الله وذهبت لأداء امتحان (الجزء الثاني) من الإختصاص في الطب الباطني ( MRCP Part2), صادفت في قاعة الأمتحان احد الأخوان العراقيين الدكتور(قاسم سلطان), والذي كنت قد التقيت به سابقاً صدفة في (ليدز) أثناء زيارة له لصديقنا المشترك وجاري الدكتور(هيثم البغدادي), والذي كان يحضر لدراسة الدكتوراه في (التشريح).
بعد الانتهاء من الإمتحان النظري التحريري و(السلايدات), ذهبت انا و (قاسم) للغداء بينما كنا ننتظر أن يعلن عن نتائج الإمتحان في اليوم التالي.. تعرفت على (قاسم سلطان) عن كثب, فوجدت فيه انساناً في منتهى الطيبة والبساطة والتواضع وحسن الخلق. بقينا بعد الغداء وللمساء نتذاكر و نراجع جميع المواضيع المحتملة التي يمكن أن نسأل فيها في الإمتحان السريري.
في اليوم التالي اعلنت النتائج للإمتحان (التحريري) وكنت انا و(قاسم) قد نجحنا فيه, كما كان جدول الإمتحان السريري قد تم اعلانه, حيث كان (قاسم) سيتم امتحانه في اليوم الأول, بينما سيكون امتحاني في اليوم الثالث والأخير. قررت البقاء في نفس النزل الذي أجرته, وهو (بنسيون) تسكنه امرأة (ايرلندية) مع زوجها تقوم بتأجير أربعة غرف من بيتها الكبير, والتي كانت جميعاً مؤجرة.
أنجز (قاسم) إمتحانه السريري, وسافر إلى المدينة التي يعمل فيها في شمال شرق انكلترا, بعد ان ترك لي رقم هاتفه للتواصل معه. أما انا فقد عدت الى الدراسة لساعات عديدة يومياً.. اشفقت تلك السيدة الطيبة صاحبة (النزل) علي, بعد أن رأت انني لا اتناول وجبة الفطور مع بقية النزلاء, وعرفت بكوني صائماً, وإن هذا الشهر هو (رمضان), كما عرفت بأنني أعّد العدّة لإمتحان مهم في الطب, فهيأت لي كل الأجواء الهادئة المناسبة للدراسة, ودلتني على الموضع الذي تترك فيه (مفتاح المطبخ), كي يتسنى لي استعمال الثلاجة والطباخ وإعداد وجبتي الفطور و السحور.. بينما كان دخول المطبخ محضوراً على بقية النزلاء!.. وكانت كلما رأتني اخرج اتمشى تدعو لي من قلبها.. بالنجاح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب