6-9 ابي.. سوف يموت!

 6-9  أبي سوف يموت!!


توثقت علاقتي مع د  (سلطان) كثيراً وصرنا نتبادل الزيارات وندعوه وعائلته على وجبات الطعام العراقي الفاخر الذي تعده (جدة) اولادي. فقد زارني مع زوجته الممرضة البريطانية (جين) في شقتي, كما قام هو وزوجته بدعوتنا في بيتهم, ثم بعدها زارني عدة مرات. 

وكان يردد في كل لقاء معه نفس السؤال: "هل انت مجنون يا سامي؟ انت تدفع ايجاراً عن سكنك هذا في الوقت الذي هناك من البنوك من يقبلّون يدك ويمنحونك قرضاً لشراء بيت يكون ملكاً لك!.. بشرائك بيت سوف يعاد لك بعض من الضريبة التي  تستقطع من راتبك.. وبالتالي بمبلغ الإيجار الذي تدفعه والمبلغ الذي يعاد لك من الضريبة سوف تمتلك بيتاً جميلاً في (ليدز)..

جوابي الأزلي له كان : 

"نحن العراقيون الذين اتوا للدراسة و ينوون العودة إلى بلدهم, ممنوع علينا تملك اي بيت في انكلترا!, إذا عرفت سلطات (صدام حسين) بشرائي عقاراً فقد اعاقب عقوبة شديدة  جداً تنتهي بي بالسجن!"!

يعود للتعليق في الزيارة التي تليها:

 "انت مجنون يا سامي.. كيف تسكن بالإيجار"! 

 في يوم (6 تشرين الاول-اكتوبر 1981) وأثناء إحدى دوراتنا على المرضى في الصباح الباكر, وإذا بنا نفاجأ بخبر مثير على تلفاز الردهة وهو (اغتيال) انور السادات, الرئيس المصري, بينما كان يحضر عرضاً عسكرياً بمناسبة الانتصار على إسرائيل, وعبور جنوده قناة السويس وخط (بارليف)!.. أبدى (سلطان) الكثير من الأسف على اغتيال (السادات) واعتبرها نسفاً لجهود السلام الدائم مع اسرائيل!, أما أنا فقد كان رأيي مغايرا لرأيه وأبديت امامه  الكثير من الفرح والتشفي بقتل الرجل! والذي انتقدت مصالحته مع اسرائيل, فأنا كنت (ثورياً) وممن اعتبروا اتفاقية السلام مع (اسرائيل) طعنة في ظهر (المقاومة العربية) وإن (التطبيع) مع اسرائيل هو (جريمة) في حق الشعب الفلسطيني المنكوب والمشرد, (وربما عندما أفكر الآن بعقلية اخرى ورؤية اخرى, أجد أنني (ربما) كنت على خطأ, و(سلطان) و(السادات) (ربمّا) كانا على حق)!.

ابتدأنا انا  وفريدي بالدراسة المكثفة من جديد كي نعيد المحاولة ونشارك في امتحان الجزء الأول (MRCP Part 1).. كنت أجلس الساعات الطوال أثناء خفارتي التي هي بين يوم وآخر, درست فيها كل كتب الطب الباطني وفرعياته, كانت سلوتي الراديو الصغير الذي وضعته على منضدتي وسماع الأغاني الهادئة, وكانت اغنية (ستيفي وندر ليتلي Lately) الأغنية المفضلة  والتي كانت تحرك كل  مشاعري!.

https://youtu.be/bEiO4J1xkyk

كنت ادرس العديد من الكتب الطبية للإستعداد للإمتحان, لا أضيع أي وقت فراغ أثناء خفاراتي في المستشفى, اضافة الى حوالي 18 ساعة يومياً في أثناء وجودي في بيتي!, ودفعاً للرتابة والضجر فقد كانت زوجتي الطيبة تجلب لي قدح  كبير من القهوة بين الحين والآخر, تعلمت أن أقرأ كتاباً كاملاً من 300 صفحة في يوم واحد! مستعملاً طريقة (القراءة السريعة) التي دربنا عليها الدكتور (محمود البحراني), طبيب الأطفال في مستشفى الكرامة. وفي بعض الأحيان, ودفعاً الملل فقد أخرجت علبة سجائر من الكمية المخزونة عندنا, ثم اخذت انفث دخانها اثناء دراستي  لتلك الكتب. 

بعد بضع ايام (ضبطتني) ابنتي (مروة) البالغة اربعة سنوات وانا ادخّن! فصارت تبكي وتلطم وتمرغ جسمها في الارض وهي تصيح باللغة الانجليزية:

 "ابي سوف يموت! أبي سوف يموت"

صاحت بها أمها مستنكرة "ماذا تقولين؟"

أجابت "أن (مسز جونز) معلمتّي,  أخبرتنا إن تدخين السجائر يسبب الموت, وأنا رأيت أبي يدخن السجائر!"

وكانت تلك بداية.. ونهاية التدخين لي.. حيث لم امسك بسيجارة مرة اخرى ابداً!!

 هذه  المرة حصلت على العديد من (الملازم) التي تحتوي على (نماذج) من اسئلة السنين السابقة, كما حصلت فيها على (نموذج) طبق الأصل للورقة التي يتوجب علي ان اقوم  بتظليلها بالإجابات الصحيحة, قمت باستنساخ تلك الورقة عدة نسخ, وصرت اختبر نفسي ومعلوماتي على نفس ورقة الإجابة المستعملة في الامتحان مما أعطتني نوعاً من الشعور بالألفة والتعود على قراءتها واستعمالها, وبالتالي عندما دخلت الإمتحان في المرة الثانية كنت أكثر ثقة بنفسي وكانت ورقة الإجابة نفسها التي مرنّت نفسي عليها.. 

وجاءت النتيجة بعد بضعة أيام.. وحصل ما كنا متأكدين منه.. فقد نجحنا انا و(فريدي) والحمد لله!.

 في (الاول من كانون الأول-ديسمبر 1981 ) عادت الطبيبة الهندية (التي كنت بديلاً لها) من اجازة الأمومة الطويلة التي اخذتها, ولذلك اتصلت بي شعبة الافراد (وهم يعتذرون), بأن  انفكاكي من عملي سوف يكون في نهاية الأسبوع. 

ودعت الجميع وحملت حاجاتي من دار الأطباء, وغادرت (جناح نيوتن كرين) الذي احببته وتعلمت فيه الكثير وكان له الفضل في رفاهيتي المادية وحصولي على النجاح في (الجزء الأول من امتحان عضوية الأطباء الملكية الباطنية).

 كنا نشعر انا وزوجتي, وكذلك (جّدة اولادي), بأن الوقت قد حان لأخذ اجازة والذهاب الى (لندن) لقضاء بضعة ايام, خصوصاً وان شقيقتي التي تكبرني, قد سكنت في شمال لندن منذ بضعة أشهر,  حيث تم تعيين زوجها في السفارة العراقية, وكنت قد وعدت ابنتي (مروة) بأخذها لمشاهدة المسرحية الغنائية (صوت الموسيقى sound of music) والتي كانت تعرض بشكل مستمر في لندن ومنذ عدة سنوات. 

ركبنا سيارتنا ال (فورد) وبعد أربع ساعات من القيادة كنا في بيت اختي.. قضينا وقتاً جميلاً, ثم من هناك بدأنا بالتصرف ك(سيّاح) حيث ذهبنا الى (حديقة هايد), ومتحف (السيدة توسو) (متحف الشمع), وحديقة الحيوانات, ووفيت بوعدي لأبنتي بالذهاب لمشاهدة المسرحية الموسيقية التي تعلمت من مدرستها ان تحفظ معظم أغانيها عن ظهر قلب!.. قضينا خمسة ايام في لندن, مع متعة التسوق وزيارات المعارف, ثم قدت سيارتي وعدت الى شقتي في (ليدز) التي وصلتها ليلاً..

ما أن وصلت شقتي حتى جاءت (سيارة شرطة) بأضويتها المتناوبة المزعجة وسمعت قرعاً على بابي.. كان قد نزل منها ضابطان وسألوني إن كنت أنا الدكتور (سامي سلمان)؟ اجبتهم وأنا في حيرة.. "نعم!" قالوا لي "ان المستشفى الذي كنت تعمل فيه قد ناشدونا  يطلبون مساعدتنا للإتصال بك لأنهم منذ بضعة ايام يحاولون الاتصال بك هاتفياً دون جدوى"!. 

وعدتهم بأن أذهب بنفسي للمستشفى غداً صباحاً, شكروني  ومضوا في سبيلهم..

في الصباح التالي اتصلت اولا بالمستشفى حيث اخبروني ان الدكتور سلطان يحاول بكل جهده العثور عليك خلال الايام الخمسة الماضية, وسوف تجده الآن في مستشفى (جنرال  انفرمري LGI), كان قد انتابني قلق شديد! صرت أضرب أخماساً بأسداس! ماذا يريد مني (سلطان) ياترى؟ هل هناك مشكلة قد حصلت اثناء غيابي؟ هل اشتكى مني أحد؟

عندما التقيت ب(سلطان) بادرني بالسؤال "أين كنت يا أخي؟ قلبنا الدنيا عليك طوال الأسبوع!"

 أجبته "أنا انفككت  من المستشفى, وقضيت مع عائلتي خمسة ايام  في لندن".

 أخبرني أنه وبعد جهود كثيفة تمكن من اقناع السلطات الصحية في (ليدز) من استحداث (ردهات جديدة)  في مستشفى كان من المقرر غلقه اسمه (سانت ميري St Mary's) وأخيراً وافقت السلطات الصحية على فتح تلك الردهات, وخصصت لها الميزانية المالية الكاملة,  وانه فكر بي فوراً على ان يعاد تعييني كي أكون الطبيب المقيم الأقدم في تلك المستشفى, كما تم تعيين طبيب آخر والذي قد باشر هناك! 

ثم قال "اننا اصلاً قد سجلنا مباشرتك في وظيفتك الجديدة منذ الاثنين الماضي!, وسوف نغض النظر ولن نعتبرك متغيباً في الأيام القليلة الماضية! 

(اي ان الايام الخمسة التي قضيتها في لندن كانت محسوبة  لي خدمة.. وراتب!).

بدأت بالعمل في (مستشفى سانت ميري) وهو مستشفى قديم قد أعيد تأهيله بفتح رد هتين لكبار السن مع كامل  الخدمات الملحقة من تمريض وعلاج طبيعي وادارة. يبعد عن شقتي حوالي ربع ساعة بالسيارة, حاولت منذ بداية الأمر ان اثبت جديتي  بالدوام وانضباطي بالعمل, فالكادرالجديد من ادارة وتمريض لم اتعرف عليهم سابقاً..

لم يكن المستشفى (الجديد-القديم) يعجبني كثيراً في أبنيته القديمة التي عفا عليها الزمن, كما كان علي أن أتأقلم مع كادر صحي جديد من عاملين وعاملات وممرضات و(سسترات) واداريين, وكنت طوال الوقت أشعر بالحنين الى (جناح نيوتن كرين) وأصدقائي هناك, الا ان مكاني الجديد وفّر لي وقت فراغ أكثر للدراسة وحضور محاضرات وندوات طبية لأنه لم يكن فيه الكثير من الحالات الطارئة مثل مستشفاي القديم..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب