6-16 متلازمة المرأة العراقية

  6-16 متلازمة المرأة العراقية



أثناء عملي سوية مع بروفيسور (رايتVerna Wright) كنا كثيراً ما نفحص المرضى سوية!. لاحظت انه احياناً وبعد الإنتهاء من فحص المريض, يكلم المريض بجدية ويخبره إن علاجه يستوجب أن يغطس جسمه بماء ساخن في مغطس (بانيو), حيث يجب ان (ينقع) نفسه لمدة نصف ساعة ثم يخلط مع الماء (اعشاب طبية خاصة), كان البروفيسور يرشده من أين يشتريها من محلات الأعشاب وليس من صيدلية!. ثم ينصحهم بتكرار ذلك العلاج ثلاث مرات اسبوعياً لمدة شهرين!.
عندما تكررت مشاهدتي لهذا التصرف وجدتني اسأله عن ماهية هذه الأعشاب؟ وما فائدتها؟ أجابني بكل برود ودون أن يظهر اي تعابير على وجهه: "هؤلاء أناس مصابين بتوهم المرض.. ليس فيهم أي مرض يذكر!.. وكثير منهم اجد منهم رائحة كريهة اثناء الفحص, لذلك ارشدهم الى استعمال تلك الأعشاب.. كي ينظفوا, لعل رائحتهم الكريهة تزول بعدها!!
في آذار 1984 كان بروفيسور (رايت) في طريقه الى بغداد! فقد تلقى دعوة من (الحكومة العراقية) لقضاء شهر في مستشفى (ابن سينا), يفحص فيه المرضى الذين يرغبون بأن يعالجهم (أشهر بروفيسور في بريطانيا)! مقابل مبلغ بسيط يدفع للمستشفى, كما أنه قام بفحص البعض من (كبار المسؤولين) وعوائلهم, رغم انه وبسبب التزامه الديني والأخلاقي رفض أن يعلق أو يفشي أسرار اي مريض منهم. ترك لي مرضى مستشفى (رويال باث) كي اتولى خدمتهم وعلاجهم, حيث كنت الطبيب الرئيسي فيه, رغم ان خدمات المستشفى كانت رسمياً تحت إشراف (مسجلين اقدمينٍ (Senior Registrars) إلا انهم كانوا يأتون بشكل متقطع وغير كاف, وبذا انصب كل جهد خدمة المرضى علّي..
بعد عودة البروفسور الشهير الى انكلترا, أخبرني أن قد حصلت موافقة (جامعة ليدز) على إعطاء محاضرة عن سفرته وانطباعاته أثناء زيارته (لبغداد), وان المحاضرة سوف تكون في (قاعة المحاضرات الكبرى) في (جامعة ليدز)!..
كانت الحرب مستمرة مع إيران على اشدّها, وكانت استضافة أساتذة كبار من (بريطانيا) و (فرنسا) والنمسا) هي احدى الطرق لارضاء الناس, لفحص ومعالجة الحالات التي يمكن علاجها داخل العراق. وبذا يوفر على الدولة مبالغ طائلة, كانت تنفقها لعلاج جرحى الحرب والحالات المستعصية خارج العراق. لذا فقد تمت استضافة أستاذي لمدة شهر.
في اليوم الموعود, ألقى محاضرة أسماها " مشاهداتي في بغداد" كانت محاضرة شيقة, حضرتها وحضرها الزميلين (محمد زهدي جلال) (من الموصل), ( و(رؤوف رحيم ميرزا) (من السليمانية), وكان كلاهما طالبان دراسات عليا, يدرسان المفاصل في نفس المستشفى الذي كنت أعمل فيه.
المحاضرة كانت تتضمن ملاحظاته ومشاهداته عن الوضع الطبي في العراق وكانت بعض الملاحظات قاسية بالنسبة لنا, وبعضها الآخر موضوعية وصحيحة ولكنا لم نكن نتقبّل بسهولة سماع ما يمكن أن نظنه انتقاداً أو سخرية من بلدنا!.
حكى اولاً عن كيف إن (التلفزيون العراقي) كان يبث ليلاً ونهاراً إعلاناً يدعو الناس الى تسجيل اسمائهم في مستشفى (ابن سينا), بعد دفع مبلغ من المال, كي يفحصهم البروفيسور البريطاني الشهير! هكذا بإعلان بالتلفزيون!, كما لو كنت تعلن عن (تنزيلات بضاعة) او عن (قدوم سيرك) الى المدينة!. وهي أمور أقرب الى (المحرمّات) في النظام الطبي البريطاني!.
حكى عن المريض العراقي وكيف انه يحتفظ ب(فحوصاته) و(تحاليله) و(أشعّاته) بنفسه ثم يقدمّها للطبيب ليقرأها, او حسب تعبيره هو (يدسّها تحت انف وعيون الطبيب)! ثم يعود المريض لأخذها والاحتفاظ بها!. كانت تلك " قنبلة" وكارثة بالنسبة للمستمعين من الأطباء البريطانيين!, حيث ان المريض البريطاني لا يمكنه أن يمس اشعّاته أو فحوصاته بيديه, ولا يمكنه رؤية اضبارته, وما كتب فيها عنه من ملاحظات, او رؤية تحاليله, بل يكتفي طبيبُه بإيجاز"خلاصة" ماموجود فيها!. اما ان يحتفظ المريض بها لنفسه ويطلع عليها, ويقرأها, ويعرض منها ما يريد ويخفي منها ما يريد, فقد استوجبت الضحك في القاعة! و كانت تلك (نكتة الموسم) بالنسبة لجمهور المستمعين للمحاضرة!!
حكي أيضا عن ان المريض العراقي, وضمن (النظام الطبي) الموجود في العراق بإمكانه أن يُحيل نفسه لأي طبيب يشتهي!..اختصاصيا كان أو غير اختصاصي!.. (يحيل نفسه) بنفسه! يدخل على اي طبيب يختار, بعد أن يدفع مبلغاُ زهيداً من المال, دون وجود (نظام احالة) او تسلسل مراجع, كما يفترض في أي نظام طبي متحضر.
آخر ما حكى عنه كان "متلازمة المرأة العراقية Iraqi Woman Syndrome" وهي تسمية طبية جديدة اطلقها هو على المريضات العراقيات اللواتي قام بفحصهن في مستشفى "ابن سينا" طيلة شهر كامل.
وصفها (بروفيسور رايت) انها المرأة المتشحة بالسواد من رأسها إلى أخمص قدميها, بسبب فقدانها لزوجها أو أخاها أو إبنها في مطحنة الحرب ضد إيران. إمرأة فقدت اعز أحبابها بتلك الحرب, فهي في حالة حداد وحزن دائم ومستمر.
تلك المرأة تأتيك قائلة:
"عندي ألمٌ هنا"
وتؤشر إلى الركبة اليمنى, وما إن تبدأ بفحص الركبة اليمنى حتى تقول لك:
"لكن هذه ايضا تؤلمني وبصورة أكثر"!,
وتشير إلى الركبة اليسرى! وما إن تبدأ بفحص الركبة اليسرى حتى تقول لك:
"ولكن ذلك يهون أمام الالم الذي في رقبتي.. إنه الم لايطاق"!
وقبل أن تبدأ بفحص الرقبة, تقول لك:
"أما الألم الذي في اسفل ظهري فهو لا يمكن أن ترتضيه لألّد اعدائك"!.
إنها امرأة تعاني من الألم النفسي, لكنها تشعر به في كل مكان من جسمها, ألمها الحقيقي هو في نفسيتها المحطّمة وحزنها العميق, بعد فقدان أعز من عندها من ناس, عثَرَت على جثثهم الممزقة أو بقايا أجزاء من جثثهم, أو لم تعثر عليها.
حاولت تهدئة زميلّي (محمد زهدي) الذي ثارت في نفسه الغيرة الموصلية على العراق, وكاكا (رؤوف ميرزا), الذي انزعج هو الآخر بعد سماع محاضرة (فيرنا رايت) وسخريته من (نظامنا) الصحي!. وبدأ يثور ويهدد كيف يتجرأ استاذنا على اهانة العراق بهذه الصورة! و تشويه صورة بلدنا!, حاولت تذكيرهما بأن ماذَكَره أستاذنا من ملاحظات صحيح في مجمله, وأنّ علينا تصحيح أخطائنا, لا أن نثور على من ينتقدها بحق!.
انا وبعد مرور تلك السنين الطويلة لا ازال ارى الطّب في العراق يسير بأسلوب خاطئ جداً وليس في نية أحد ان يصلحه!. أظن أن الدكتور (علاء الدين العلوان) في وزارته الأولى للصحة حاول البدء بتصحيح الوضع الطبي في العراق وبهمة عالية وصدق وإخلاص, ولكن المثل العراقي يقول " الركعه زغيرة..والشك جبير" "الرقعة صغيرة والشق كبير" تصدى له الكثيرون ممن لم تعجبهم سياسته, وحاربوه حتى أخرجوه هارباً من البلد!
بعد عودة استاذي الطيب (بروفيسور رايت) من زيارته للعراق, طلب مني أحد اصدقائي من العراقيين, وكان صاحب محل للصحف والقرطاسية, ان ادبّر له موعداً للفحص عنده!.. اخذت صديقي معي الى (هاروكيت) وتركته مع استاذي كي يفحصه بحرية ودون ضغط مني.. وبعد نصف ساعة خرج صديقي من عنده منشرحاً ومسروراً, اخبرني ان البروفيسور (العظيم) قد طمأنه ان ليس عنده اي مرض, وأنه قد أعطاه وصفة لل(أعشاب الطبية) كي ينقع بها جسمه في (البانيو)!!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب