6-15 انت مفصول من الخدمة

 6-15 انت مفصول من الخدمة 


ودعت (صديقتنا الشيوعية) زوجتي وهي تبكي ففي الايام القليلة الماضية صرنا عائلتها وصارت اختاً لزوجتي! ثم من (براغ) انتقلنا الى (هنغاريا) حيث أقمنا في مخيم رائع على أطراف (بودابست), ذهبنا الى البحيرة الشهيرة (بالاتون Balaton) حيث شجعتنا جارتنا الهنغارية ان نزورها وسبحت انا وابنتي في مائها مع العشرات من المصطافين الهنغاريين, بينما جلست زوجتي مع ابننا جانباً تتفرج كعادتها. وبعد بضعة أيام كنا قد اشترينا طقماً رائعاً من (الخزف الصيني الهنغاري الشهير) (بقي فيما بعد في فترينة غرفة الطعام في بيتنا في بغداد لأكثر من ثلاثين سنة ولم نستعمله ابداً)!!, وضعناه مع مزهريات الكريستال في الفراغ بين المقعد الأمامي والمقعد الخلفي للسيارة, ثم غطيناه بالبطانيات والمخاديد, وجعلنا إبنتي وإبني ينامان عليها أثناء خروجنا من الحدود الهنغارية, حيث كنا خائفين من التحذير من أننا قد ننال (عقوبة) و(غرامة) إذا اكتشفوا أننا قد اشترينا كنزنا الثمين بنقود تم تصريفها في السوق السوداء!!
دخلنا الحدود (النمساوية) وتنفسنا الصعداء! فقد نجونا من عقوبة محتّمة في تلك الدول الثلاثة (ألمانيا الشرقية, تشيكوسلوفاكيا, هنغاريا) بسبب تصريفنا الدولارات في السوق السوداء!
بعد أيام اخرى قضيناها ك(سواح) في (فيينا), توجهنا ثانية إلى ألمانيا ثم هولندا وبلجيكا, وعدنا في نفس نوع العبارة التي جلبتنا في طريق القدوم!.
في شهر آب 1983 كان موعدي للإمتحان التحريري للجزء الثاني من عضوية الأطباء الملكية البريطانية (MRCP Part Two ), وبعد يومين وصلتني نتيجة الإمتحان (ناجح) ومعها موعد الإمتحان السريري بعد اسبوع.
كان امتحاني في مستشفى (رويال فري Royal Free Hospital), في لندن ولم اكن محظوظاً هذه المرة, ف (الحالة الطويلة Long Case) كانت حالة (لعينة جداً) لمريض مصاب بسرطان الرئة وقد تم اعطاءه العلاج بالأشعة العميقة والأدوية الكيماوية, وكانت عنده الكثير من مضاعفات مرضه ومن العلاج !, مما أوقعني في (حيص بيص) مع ممتحنين كانوا في قمة النذالة وسوء الخلق!, ولم أنجح في ذلك الإمتحان! والذي سبب لي احباطاً شديداً!!.
في أيلول 1983 انتهيت من إعداد أطروحتي (عشر حالات في أمراض المفاصل 10cases in Rheumatology) والتي بلغ عدد صفحاتها حوالي المائتي صفحة وقمت بتجليدها عند مجلد محترف وبشكل انيق مذهب, ثم أرسلتها بالبريد الى (الكلية الملكية البريطانية-لندن) وهي جزء مهم من مستلزمات التحضير للإمتحان النهائي لشهادة الاختصاص في (التأهيل الطبي والمفاصل ), وبعد شهر واحد كان امتحاني التحريري والسريري والشفهي على تلك الشهادة, والتي وجدت النجاح فيها من اسهل ما يكون, لكوني اصلأً أعمل بدرجة (مسجل Registrar) في اهم مستشفى للمفاصل في بريطانيا، مما اتاح لي الفرصة أن أكون ملمّا بكل التفاصيل الدقيقة لهذا الإختصاص, ونجحت بترتيب الأول على كل المشاركين في الإمتحان.
بعد تبليغي بنجاحي في امتحان دبلوم (المفاصل والتأهيل) من (المحاولة الأولى) قمت بالإتصال هاتفياً بسكرتيرة الإمتحانات في (الكلية الملكية البريطانية) الآنسة (كرستين برندركاست), واخبرتها انني ولضروف خاصة لا أريد العودة الآن الى بلدي العراق, لذلك لا اريد اصدار واستلام شهادة النجاح الآن! فهل يمكن اصدارها وارسالها لي بعد سنة أو.. ربما.. أكثر؟ اجابتني ان لي ما أريد! وان بإمكان الشهادة أن تنتظر سنة او سنتين, أخبرتني تلك الآنسة الطيبة أن لا توجد مشكلة في أن تؤرخ الشهادة بالتاريخ اللاحق الذي سأتصل بها عليه, وليس من تاريخ نجاحي في الامتحان!, وبذلك اطمأننت على أن موقفي من حكومتنا سيكون سليماً لحين حصولي على الشهادة الأعلى.. شهادة الطب الباطني ( MRCP)..
في بداية عام 1984 استلمت رسالة من (كارين) الموظفة في (مركز الهجرة و استعلامات المواطنين) تخبرني فيها بأنه قد تم تحديد موعد المحكمة بخصوص ترحيل جدة اولادي! في الأسبوع المقبل في أول ساعة من الصباح في (محكمة ليدز).
في يومها اصطحبت (جّدة) اطفالي, وعند باب دخول المحكمة هرع شاب أسمر لم نكن نعرفه بإلقاء التحية علينا باللهجة العراقية! أخبرنا أنه (المترجم) الذي كلفته المحكمة بالحضور (على نفقة الدولة) لترجمة كلام ال(عجوز), لأنني اعتبر طرفاً في القضية ولا يجوز لي القيام بالترجمة! جاء القاضي وابتدأت الجلسة وقام ساعي المحكمة بجلب نسخة من (القرآن الكريم) مغلفة بقماش من الساتان, وطلب من (العجوز) أن تضع يدها على القرآن وتقسم.
فوجيء الجميع (بما فيهم انا), ان جّدة اولادي رفضت بشدة ان تضع يدها على القرآن, ثم وبعد الحاح اصرت على موقفها!, وطلبت من المترجم ان يخبر القاضي إنها تعتبر القرآن أعظم وأجل من أن تقسم عليه في أمر تافه مثل هذه الدعوى!, وانها لن تضع يدها عليه حتى لو يكلفها ذلك ترحيلها!..
ذهل القاضي -وكذلك انا- من مدى احترامها وتقديسها للقرآن، وسألني بضعة اسئلة عما إن كان في نيتي البقاء في بريطانيا فأخبرته بأن لا نية لي بالبقاء في هذا البلد, وانني سأعود للعراق حالما نكمل انا وزوجتي دراستنا!..
بعد العودة من المحكمة أخبرتني الموظفة الشقراء البدينة (كارين) باننا قد (خسرنا) الدعوى!.. قلت لها: "اذاً يجب ان ترحل (عجوزنا) بعد اسبوع؟"
أجابت: "كلا..ان لها أن تبقى لمدة ستة شهور! لحين إكتساب قرار المحكمة الصفة القطعية ويصبح نافذاً" الحمد لله.. ستة شهور أخرى من السعادة! ومن (الدولمة والباجة وخبز العروق)!.. وفعلاً بعدها سافرت جدة اولادي عائدة الى بغداد وقد قضت اكثر من ثلاث سنوات معنا.. كنا نعيش فيها وبفضلها ب (جنة عدن)!!.
في شهر شباط 1984 تلقيت (إنذاراً) من وزارة الصحة العراقية بكون مدة إجازتي الدراسية قد انتهت, ويجب العودة الى العراق! وبخلافه سوف يتوجب قيام (الكفيل) بدفع مبلغ الكفالة المتعاقد عليه مع وزارة الصحة! (ربما كان ذلك الإجراء من خلال حملة واسعة على كل الطلبة العراقيين في الخارج والذين تخلفوا عن العودة الى العراق بسبب خوفهم من سوقهم المحتم الى مطحنة الحرب العراقية-الايرانية التي كانت في أوج استعارها آنذاك).
وبما انني لم استجب لل (إنذار), فبعد شهرين تقريباً تم تبليغي-من خلال (الملحقية الثقافية) باعتباري (مفصولاً من الخدمة), وبعدها اتصل بنا (كفيلي) (شقيق زوجتي) بإنه قد تم إخطاره بتوجب دفع الكفالة المالية المترتبة على عقدي, وان (وزارة الصحة) قد قسّطت الكفالة على راتبه الحكومي, و قام بدفع اول قسط شهري منها!
المشكلة ان جوازاتنا انا وزوجتي قد انتهى تاريخ صلاحيتها في نفس تلك الفترة (كانت صلاحية الجواز في ذلك الوقت اربعة سنوات فقط, يجب تجديدها كل سنة) ! وكنا نحلم ونخطط لسفرة الى جزر(مايوركا) التابعة لإسبانيا في البحر المتوسط!.. سافرت الى (القنصلية العراقية) في (لندن) وطلبت منهم اصدار جوازات جديدة, فطلبوا مني جلب (كتاب رسمي) من (الملحقية الثقافية) يتضمن (سلامة موقفي) من الدراسة!. كانت تلك ورطة!.
قصصت على الموظف الطيب في (إستعلامات الملحقية الثقافية) بأنني قد تم اعتباري مستقيلاً منذ شهرين فقط!.. طمأنني (جزاه الله خيراً) قائلاً:
"لا بأس عليك.. لاتقلق! خذ هذه الورقة واكتب الى (وزارة الصحة) طالباً تمديد اجازتك الدراسية لستة اشهر اخرى!"
بين مصدق ومكذب, كتبت الطلب ووقعت عليه, قام بختمه ووضع عليه (رقماً وتأريخاً), وقام بتزويدي ب(كتاب رسمي) الى (القنصلية) بكوني (مستمر في الدراسة ولديه معاملة طلب تمديد برقم كذا وتاريخ كذا)! وفي نفس اليوم, تم اصدار جوازات جديدة لي ولزوجتي, نافذة لأربعة سنين اخرى!
كنت اظن ان الطلب الذي كتبته للملحقية الثقافية كان (حبراً على ورق), لكونه (مساعدة) من الموظف الطيب كي نحصل على جوازات جديدة, الا ان الأمر الذي لم اتوقعه ابداً, ان وبعد شهر واحد جاءني كتاب رسمي يبلغني بموافقة (وزارة الصحة) على تمديد اجازتي لمدة سنة! ستة أشهر منها براتب كامل وستة أشهر بدون راتب!. (ويبدو أنهم لم ينتبهوا الى انني سبق وتم اعتباري مستقيلاً من الخدمة)! وبقيت تلك الإشكالية في اضبارتي تلاحقني لسنين طويلة جداً بعدها!!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب