6-14 فطور مع (الجواهري)

 6-14 فطور مع (الجواهري)



في شهر آذار 1983 سافرت الى (جلاسكو) للمشاركة في إمتحان الجزء الثاني من عضوية الكلية الملكية البريطانية, كان يجلس بجنبي في القطار شاب (أسترالي) كان ممتعاً جداً, كان يكره الانجليز بشدة لأنهم ينظرون الى الأستراليين نظرة دونية، على أنهم أقل منهم مرتبة!. ثم استفدت منه إذ أخذنا نراجع سوية بعض المواضيع المهمة التي يمكن أن نسأل عنها بالامتحان وعلى رأسها (نقص المناعة المكتسب ) والذي تم الكشف عن وجوده كمرض خلال السنة الماضية فقط! بوصولنا افترقنا كل الى الفندق الذي حجز فيه.
صباح الإمتحان ال (تحريري والسلايدات) كان صباحاً متعباً جداً لغاية الظهر, الا انني كنت اشعر بالسعادة لأن السؤال الرئيسي في الإمتحان كان ما توقعناه انا والاسترالي, عن المرض الحديث (نقص المناعة المكتسب)!.
بعد بضعة أيام جاءت نتيجة الإمتحان التحريري بالبريد, وكانت انني ناجح! وتم تحديد الأسبوع الذي يليه للامتحان السريري والذي يتكون من جزأين (حالة واحدة طويلة واربعة حالات قصيرة).
حالفني الحظ في الحالة الطويلة والتي كانت حالة (احد أمراض المفاصل), ابدعت فيها تماماً, ثم ابتدأت الحالات القصيرة حيث ابدعت في الحالات الثلاث الاولى, وارتبكت في الرابعة, ورغم أنني حاولت تصحيح خطأي في الرابعة إلا أن الممتحن اصر على ان اي خطأ لا يمكن الرجوع عنه.. وكانت تلك صدمة كبيرة لي.. حيث ظهرت نتيجة الإمتحان بكوني… (راسب)!
كانت هناك شابة (هنغارية) جميلة تسكن بجوارنا مع ابنتها وزوجها الطبيب الذي يعمل في مستشفى سانت جيمس, ورغم أنها قضت أيام الصيف عارية بال (بيكيني) لايزيد حجمه عن كف اليد! مستلقية على منشفة في حديقتنا الأمامية! إلا أنها عقدت صداقة مع زوجتي, وكانت كلما تزور زوجتي تحدثها عن بلدها (هنغاريا) وعن جماله, وعن كون (هنغاريا) تنتج أنواع صحون الخزف الصيني (الفرفوري), وهي الأفضل في أوروبا.. وربما في العالم!.
بعد عودتي من الدوام, سألتني زوجتي عن اجازتي السنوية المستحقة, وهل ممكن ان نذهب الى (هنغاريا) كي نشتري من هناك (طقم) صحون خزف صيني (زولنايZsolnay )؟! وافقت فوراً على طلبها! وكأن (هنغاريا) على مبعدة (رمية عصا) من انكلترا!!
اخذت بجد واجتهاد ارتب لتلك الرحلة!.. اتصلت هاتفياً بالسفارات المعنية في لندن, وطلبت منهم أن يرسلوا استمارات التقديم على (الفيزا) مع اخباري بمقدار الرسوم اللازمة. وبعد بضعة ايام استلمت الاستمارات من السفارات, ملأتها وارسلتها مع جوازاتنا انا وزوجتي (اطفالي بنفس جواز زوجتي), بالبريد بمظروف كبير وضعت فيه (ظروف) بريد فارغة وعلى كل منها طابع بريدي وعلى واجهتها عناوين السفارات, مع الصكوك اللازمة بمبالغ الفيز ومعها رسائل عديدة! اولاً الى السفارة (الهولندية) طالباً فيز (هولندا) ثم رجوتهم بأدب, أن يختموا الجوازات ب (الفيزا), وبعدها أن يرسلوا الجوازات مع ماتبقى من أوراق وصكوك إلى سفارة (ألمانيا)! ثم هناك رسالة فيها (تحية ورجاء) الى الالمانية بأن تأخذ ما يخصهم, وبعد انجاز (الفيزا), ان يرسلوا الجوازات وبقية الأوراق والصكوك الى سفارة (تشيكوسلوفاكيا), ثم سفارة (هنغاريا), ثم سفارة (النمسا)!!.. جميعاً في ظرف واحد كبير!!. أي أنني (شغلتّهم) ب(خط انتاجي) وشريط متسلسل واحد!!.
بعد حوالي اسبوع استلمت الجوازات وقد قامت كل سفارة بواجبها في ختم ال (فيزا) المطلوبة دون أي مشكلة, ودون أن أغادر بيتي وعملي في المستشفى!. ولا أدري هل كان ذلك بسبب كون (الجواز العراقي) محترماً ومرموقاً في ذلك الوقت, أم أن العالم كان في حالة أمان وليس فيه (إرهاب)!
في تموز 1983 اخذت اجازتي السنوية ومدتها (35 ) يوماً, في نفس الوقت الذي أخذ فيه الطبيب الإختصاصي الايرلندي (الستر تاكارتAllister Taggart) اجازته والتي كان ينوي أن يقضيها بصحبة زوجته في جنوب فرنسا على شواطئ المتوسط.
سألني (الستر), بعدما عرف انني سوف افعل مثله, بقيادة سيارتي في دول أوروبا:
"في اي شركة اشتريت (تأمين صحي وضد الحوادث) لك ولعائلتك؟"
أجبته: "انا اسافر دوماً واتركها (على الله) ولم يصدف ان اشتريت أي تأمين!"
ذهل (الستير) من ذلك.. واعتبره نوع من الجنون!, ولم يقتنع بأننا نترك بعض أمورحياتنا (على الله) وعلى (القدر)!.
بعد أسبوع واحد, كنت مع زوجتي وطفلّي (مروة ومصطفى) نائمين نومة الملوك, في العبارة الضخمة التي حملتنا مع سيارتنا الى الجانب الآخر من (القنال الانكليزي) او الذي يسميه الفرنسيون (بحر المانش) حيث وصلنا عند الفجر ميناء (زيبروج Zeebruge) في بلجيكا!.
قدت سيارتي مباشرة الى (أمستردام) التي قضينا فيها يومين, ثم إلى (ألمانيا الغربية). لم يكن شعوري مريحاً اول الأمر وكان عندي قلق شديد بسبب قيادتي على (الجانب الأيمن) من الشارع, وهو عكس القيادة في انجلترا, حيث اقود انا السائق جنب الرصيف, وتكون زوجتي والأطفال على الجهة الوسطى من الشارع! وكانت زوجتي في البداية تصاب بالذعر والقلق ايضاً وتنبهني بأنني قد تجاوزت وسط الشارع, في الشوارع داخل المدن,التي ليس فيها (جزرة وسطية)!!..
كنا قد جلبنا معنا (عدة التخييم) حيث خيّمنا في هولندا, ثم في (غرب ألمانيا).. وفي (برلين) نزلنا في مخيم (خمس نجوم), وصلناه في منتصف الليل واستقبلنا الموظف وهو شبه نائم!, طلب منا جوازاتنا وسألنا إن كان عندنا عضوية في (جمعية التخييم الالمانية), اجبته بالنفي, اخبرني بأن سعر التخييم باهض جداً, بينما هو نصف المبلغ لمن عنده عضوية, نزلت في ذلك المخيم الرائع, بالشوارع المبلطة المضاءة, والذي يحتوي على أبنية خاصة بها (غسالات ملابس كهربائية) وأبنية أخرى بها (اجهزة مطبخ كهربائية), اضافة إلى حمّامات في منتهى الأناقة مجهزة بالماء الحار والبارد التي تحسدها عليها ارقى الفنادق!
عند خروجنا بعد يومين من المخيم في (برلين), طلب مني الموظف مبلغاً بخساً عن الليلتين اللتين قضيناهما في المخيم!, ثم اخبرنا انه عربي فلسطيني, وأنه قد تقاضى اجرة (ليلة واحدة فقط), وبتسعيرة من يحمل (هوية الجمعية الألمانية)!!
بمجرد وصولنا الحدود (الألمانية الشرقية) تغير المنظر الذي تعودنا عليه في الأيام الأربعة الماضية! شقاء وخدمات بائسة وحشرات وحمامات رديئة على جانب ال(اوتوبان), والسيارة الوحيدة التي تراها هي ال (ترابانت Trabant ) وهي سيارة صغيرة صناعة (ألمانيا الشرقية), تعمل بثلاث اسطوانات, شكلها بائس جداً, وصوت محركها عالٍ, وهي السيارة الوحيدة التي يسمح لهم باقتنائها!
على حدود (تشيكوسلوفاكيا) كان هناك بؤس النظام الاشتراكي, فقد وقفت بسيارتي بطابور طويل جداً استغرق اكثر من ساعة لحين وصولي الى (ضابط الجوازات), بعد ان تأكد الضابط من وجود تأشيرة (تشيكوسلوفاكيا) على جوازاتنا, طلب مني اجازة السوق, أعطيته إجازة السوق البريطانية, قال لي:
"هذه لانعترف بها"!,
اخرجت له (إجازة السوق الدولية) التي استخرجتها من العراق قبل سنتين, نظر فيها ثم قال لي:
"هذه منتهية الصلاحية منذ سنة!"
اخرجت له اجازة السوق العراقية قال:
"هذه ايضاً منتهية الصلاحية! كما أنها باللغة العربية"!!..
بدأت افقد اعصابي معه, وصحت به:
"أمامك ثلاث إجازات سوق, إما أن تختر واحدة منها أو نعود من حيث أتينا, ولا حاجة لنا في بلدك ال (كريه الرائحة)"!!
فكر قليلاً ثم قال لي:
"هل معك اية اوراق رسمية تثبت ملكية سيارتك؟"
قلت "أجل"!,
وأخرجت له وثيقة فحص (متانة) السيارة السنوي" (وهو ليس ملكية السيارة)!, وهنا اقتنع ووافق على دخولنا, بعد أن سألنا عن عدد الأيام التي ننوي البقاء في بلده, ثم طلب منا تصريف الدولارات الكافية لها بالمصرف المجاور وبالسعر الرسمي!..
في (براغ).. وبعد استقرارنا في مخيمها الجميل, نزلنا الى وسط المدينة, حيث ذهبنا مباشرة الى المقهى الشهير الذي كان يلتقي به شاعر العراق (الجواهري) طيلة فترة إقامته في (براغ), هناك تعرفت زوجتي على فتاة (شيوعية) من اللواتي هربن من بطش البعث بهم, وهذه الفتاة صارت الصديقة الصدوقة لزوجتي, والدليل الخبير بالمدينة, لازمتنا طيلة الايام التي قضيناها في (براغ), قامت بتصريف دولاراتنا بالسوق السوداء بأربعة أو خمسة أضعاف السعر الرسمي!, ثم اخذتنا الى حيث اشترينا (مزهريات كريستال بوهيميا) الشهير, كما اصطحبتنا إلى القلعة الأثرية وقصور الملوك والمطاعم الشهيرة, وكنا دوماً نحضى بفضول الناس بسبب سيارتنا الأنجليزية, و مقود السائق الذي هو على الجانب الأيمن من السيارة!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب