6-13 المثلث الذهبي العراقي!

حادثة الضابط الذي استوقفني بسبب السرعة ومرور ذلك بسلام نبهتني الى أمر مهم! فقد كنت طوال الوقت في فرنسا استعمل (إجازة السوق الدولية) التي اصدرت لي في بغداد من (جمعية السيارات العراقية) التي مقرها في المنصور. وهي إجازة بعدة لغات نافذة لمدة سنة واحدة فقط وبالتالي فقد فقدت مدة صلاحيتها منذ زمن, وكان من حسن حظي أن الضابط لم يطلب مني اجازة السوق وإلا لكانت مشكلة اخرى! لذلك قررت ان اطلب (اجازة سوق بريطانية).
ذهبت الى الدائرة المختصة بإصدار الإجازات ودفعت الرسوم المطلوبة وحددوا لي موعداً لامتحان السياقة العملي بعد اسبوعين. في تلك الأثناء, كانت زوجتي هي الاخرى قد استغلت وجود والدتها معنا وتكفلها بطفلينا, والتحقت هي الأخرى بدروس خصوصية لقيادة السيارة لثلاث ساعات اسبوعياً.
استفدت من بعض الإرشادات التي تتعلمها زوجتي من مدرب السياقة, وفي يوم الامتحان, جلس جنبي الضابط الممتحن حاملاً لوحة معدنية فيها استمارات, وطلب مني التحرك بسيارتي.. استغرق الامتحان قرابة ساعة حيث مررنا في الكثير من شوارع (ليدز) وضواحيها, البعض منها مرتفعات او منخفضات, وكنت طوال الوقت أحاول (إبهاره) بمهارتي في قيادة السيارة!, فطوال السنوات الثمانية الماضية كنت أقود سيارتي في بغداد ثم في فرنسا وزرت الكثير من دول أوروبا بسيارتي, لذا فقد كنت مطمئناً إلى أن (الأخ الممتحن) سوف يرى كم انا سائق ماهر!.. في نهاية الجولة رجعنا الى حيث انطلقنا من أمام (دائرة المرور) الرسمية.. سلمني نتيجة الإمتحان, وأخبرني شفهياً, وهو ممتعض بأنني قد رسبت في الإمتحان!.. وكان قد أشّر على قائمة (أسباب الرسوب) انني كنت لا أحسن تبديل عصا التغيير(الكير) عند الدخول في الشوارع الفرعية, كما لم اكن استعمل الإشارات الضوئية بصورة صحيحة, وكذا عدم الإبتعاد بمسافة كافية عن السيارات الرابضة على جانب الشارع!..
بعد عودتي بشهر دفعت أجور محاولة اخرى في إمتحان السياقة. وفي الليلة التي سبقت الإمتحان طلبت من (اناند) (الهندي), مدرس السياقة الذي يعلم زوجتي, أن أدرس معه أنا الآخر, حاولت الإلتزام بكل التعليمات والإرشادات التي يفترض أن يطبقها السائق المبتدئ, وبعد ساعة من الدرس وقفنا عند باب بيتي وسألته ان يرجو لي حظاً سعيداً لان عندي (امتحان سياّقة) غداً! قال لي:
"دكتور.. ارجوك.. لا تذهب لأنك من المستحيل أن تنجح!, لا تعرض نفسك للمهانة!, فأنت عندك عادات سيئة في السيّاقة ستحتاج إلى ساعات طوال من الدروس كي تتخلص منها! لا تذهب إلى الامتحان فالرسوب نتيجته الحتمية!..
في اليوم التالي جلس الضابط جنبي, وهذه المرة بالغت بتمثيلية (الحذر والدقة)!. طلب مني التحرك, أقفلت حزام الأمان, ثم نظرت الى اليمين بشكل مبالغ فيه حتى كادت رقبتي أن تنقصم!, ثم الى اليسار, ثم (حملقت) في مرآة السيارة ناظراً إلى الخلف, ثم شغلت (الإشارة الضوئية) اليمني تهيئاً للسير, ثم انطلقت ببطء شديد وأنا أنظر الى المرآة كما لو كنت معتوهاً!.. تجولنا في الشوارع, وكنت أقود على مهل وبحذر شديد, أتوقف عند رأس كل فرع وشارع! واقوم بتغيير (عصا السرعة) الى الحياد, عند توقف السيارة كلياً.. . واحرك رأسي يميناً وشمالاً, ثم أنظر إلى (المرآة) بغباء, ثم أعطي الإشارة الضوئية, ثم أضع (عصا السرعة) على أقل درجة. وابدأ بالدخول ببطء وحذر في الشارع!.. كتت بارعاً في تمثيل دور المبتدئ الحذر, وعند نهاية الجولة توقفنا أمام مديرية المرور..سألني الضابط:
" دكتور.. كم سنة مضت عليك وانت تقود سيارة؟"
أجبته: " صدق او لاتصدق.. انا اقود منذ قرابة عشر سنوات, معظمها (قيادة دولية) في دول اوربا!"
قال لي: "دكتور..انا اصدقك! فأنت قد تغلغلت فيك عادات سيئة جداً في قيادة السيارة!, ولا أدري ما فائدة ان اكتب لك نتيجة رسوب ثانية, فعاداتك الذميمة مستفحلة فيك! لم ولن تتمكن من التخلص من تلك العادات حتى ولو بعد مئة عام!ولن تتبدل ابداً مهما حاولنا!, لذلك فسوف أعطيك نتيجة نجاح!!"
لم أصدق ما سمعت!.. قفزت من مكاني وانا اقول له: "أشكرك .. أشكرك!".. ثم احتضنته (على الطريقة العراقية) لأقبله من رأسه!!.. فدفعني عنه بقوة وامتعاض!.
عدت الى بيتي وفي العصر كانت زوجتي قد عادت من درس السياقة ورصدت (اناند) وأخبرته أنني قد نجحت في الإمتحان!.. ضرب (اناند) مقود سيارته بجمع كفيّه وهو يقول:
" الآن عرفت كم ان النظام فاسد في هذا البلد! إذ من المستحيل أن تنجح!".
وخلال بضعة أيام استلمت (اجازة سوق بريطانية) نافذة للأربعة وثلاثين سنة القادمة!!
في شهر تشرين الاول 1982 اتصلت بي (سكرتيرة) بروفيسور (رايت) طالبةً مني الحضور لمقابلته. مررت للسلام على ذلك الإنسان الطيب الودود, وبعد جلوسي اخبرني انه قد تلقى رسالة من (بغداد)! أعطاني الرسالة لأقرأها, كانت من الدكتور (رؤوف رحيم ميرزا) زميلي في العمل في (معهد العلاج الطبيعي)., كان زميلي يسأل فيها إن كان هناك فرصة له للقدوم لدراسة (الماجستير) في أمراض المفاصل والتأهيل.
سألني البروفيسور (رايت) إن كنت اعرف صاحب الرسالة؟ اجبته: نعم انه من نفس دورتي، نحن عملنا سوية في الإقامة الدورية, ثم سنتين في الاقامة القدمى, ثم قمت بالإشادة بزميلي وأطنب في مدح أخلاقه ومستواه العلمي, وكان لتزكيتي الأثر المهم في موافقة بروفيسور(رايت) على قبول زميلي (رؤوف) للقدوم والالتحاق ب(وحدة بحوث الروماتيزم) لغرض دراسة (الماجستير).
بعد حوالي شهر واحد وصل زميلي (رؤوف) من بغداد مع زوجته, وكان قد تزوج حديثاً, اقنعته بالسكن قرب شقتنا انا و(محمد زهدي), وهديته الى الطريقة (المجّربة)!! التي يحصل بها على سكن, وفعلاً تمكن من الحصول على شقة تعود للمستشفى قبالة العمارة التي فيها شقتي وشقة (محمد زهدي), وبذا صار هناك ( المثلث الذهبي العراقي), يجمع (جالية عراقية) تتخصص في طب (المفاصل والتأهيل)!
في شباط 1983 اتصل بي الطبيب الاختصاصي (هاور بيرد) (Howard Bird) الباحث الأقدم في (وحدة الصيدلة السريرية Clinical Pharmacology Unit) في (مستشفى رويال باث ), يطلب مني أن امّر عليه ان امكن.
اخبرني انه قد دعي لزيارة بغداد لمدة شهر للقيام بفحص وعلاج المرضى هناك (مقابل مردود مالي جيد), وانه يفكر بالذهاب فعلاً ويريد رأيي في ذلك!. كان متحمساً للغاية, وفي تصوره أنه سوف يتمكن من زيارة (بابل) و(اور) و(الأهوار) بعد ان قرأ عن العراق. شجعته على الذهاب, وتمنيت له الموفقية, وفعلاً بعد اسبوعين كان قد طار الى بغداد!.
بعد عودة (هاورد بيرد) من زيارة العراق, هرعت مسرعاً الى مكتبه في (وحدة الصيدلة السريرية), وكان أول ما فاجأني به وجود أطار زجاجي معلق على الحائط خلفه, وفيه صورة الرئيس العراقي (صدام حسين)!.. ضحك عندما رأى المفاجأة بادية على وجههي, وبادرني بالقول:
"الصورة أهديت لي عندما كنت في بغداد, وتعمدت تعليقها في غرفتي للمزاح والنيل منك ياسامي, لأنني اعرف انك لا تحبه!".
حكى لي (هاورد) كيف انه وطوال الشهر الذي قضاه في بغداد كان حبيس الجدران الأربعة في غرفته في فندق (شيراتون). وبسبب الحرب المستعرة ضد إيران فقد حرم من زيارة (زقورة اور) او (الاهوار)! بل إنهم حذروه ان البلد بأكمله يعتبر منطقة (حظر التصوير)!, ولا يسمح له اطلاقاً بالتقاط أي صورة من اي مكان!. ثم اخرج لي صوراً مشّوشة ورديئة (استرقها) من خلف زجاج شباك غرفته لنهر دجلة! وعاد وفي حلقه غصة على عدم زيارة (بابل) و (الأهوار)!..
انكلترا وفي آذار 1983 دخلت في فوضى جديدة وذلك بسبب (إضراب عام) للألوف من عمال مناجم الفحم في عموم بريطانيا. فقد قررت رئيسة الوزراء (مارغريت ثاتشر) إغلاق بعض المناجم في (يوركشاير) بسبب ارتفاع كلفة استخراجها بحيث صارت غير مجدية, وتسريح المئات من العمال العاملين فيها. حصلت مواجهات عنيفة بين العمال المضربين وبين الشرطة وصرنا نرى في شاشات التلفاز (الزوجات المناضلات) للعمّال المضربين وقد وقفن مع ازواجن في محنتهم، وهن يطبخن الحساء في ذلك البرد القارص، لإطعام العمال المعتصمين ليلاً ونهاراً امام مداخل المناجم, والذين باتوا بدون اي اجور وبدون أي معونات طيلة فترة إضرابهم.
استمر ذلك الإضراب لمدة سنة! انتهت بالفشل وانتصار (المرأة الحديدية) بعد أن تمكنت في النهاية من أحداث الفتنة بين العمال المضربين انفسهم وشق صفوفهم, ادّت الى مقتل البعض منهم.. على أيدي زملائهم!..
May be an image of 2 people, including Sami Salman
Like
Comment
Share

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب