6-12 ابتعدي يادكتورة!, إيّاك أن تتدخلي في عملي

 6-12 ابتعدي يادكتورة!, إيّاك أن تتدخلي في عملي



الحرب بين بريطانيا والأرجنتين دامت ستة أسابيع فقط, انتهت باستسلام الأرجنتين بعد ان قتل في تلك الحرب قرابة الألف جندي من الجانبين, وكنت اتابع باهتمام بالغ تلك الحرب, في نفس الوقت الذي كانت هناك حرب اخرى مستعرة منذ سنتين.. بين بلدي الحبيب العراق وإيران البلد المجاور طحنت الشباب من كلا الجانبين!..
كان الفخر في الانتصار يعود للمرأة الحديدية (ثاتشر) ووزير الحربية (مايكل هسلتاين) الذي كان يظهر على شاشات التلفاز يومياً ناقلاً كل أخبار الجبهة في الفولكلاند.
بعد بضعة شهور من الحرب من الحرب كان التلفاز ينقل كيف ان (مايكل هسلتاين) كان يتجول في شوارع لندن يحث الناس على التصويت لحزبه في الإنتخابات المقبلة, عندما شهرت إحدى النساء العجائز عصاها في وجهه وكادت ان تضربه على رأسه وهي تشتم السياسة والسياسيين, هرب من ضربتها قافزاً بعيداً, لم يكن له اي حارس شخصي.. وعجبت لل(ديمقراطية) في هذا البلد, فهذا وزير (مرعب) انتصر في الحرب قبل سنة وهاهو يهرب كالجرذ من ضربة امرأة عجوز من عامة الشعب!!
في شهر آب 1982 تلقيت هاتفاً من الزميل (عوف عبدالرحمن) وهو جّراح بارع من اهالي الموصل كان الأول على دفعته في طب الموصل, جاء الى بريطانيا مع زوجته الطبيبة, وصار يشتغل في أحد أهم مستشفياتها, وكنا قد عملنا سوية أثناء الخدمة العسكرية في (وحدة الميدان الطبية الخامسة) في (اربيل) وصرنا اصدقاءً منذ ذلك الوقت.
شرح لي (عوف) كيف ان الزميل (محمد زهدي جلال) قد جاء الى إنجلترا لدراسة (التأهيل الطبي) بعد قبوله في (كورس الدراسة الرسمي) إلا أن الدراسة النظامية التي كان يفترض أن تكون تحت مظلة (كلية الأطباء الملكية البريطانية Royal college of Physicians) تحت إشراف البروفيسور (كريستوفر ونباري) في آذار من نفس العام, ولكن وبعد وصول د (محمد) وعائلته ألغيت تلك الدراسة لأسباب مجهولة!, وبذا بقي زميلي عالقاً ومستقبل دراسته في مهب الريح, وقد اعيته الحيل في لندن حيث بقي حوالي ستة أشهر في انتظار أن يحصل حل لمشكلة دراسته!.
وعدت (عوف) بأنني سوف ابذل كل جهدي, ثم في اليوم التالي ذهبت لمقابلة (بروفيسور رايت), واخبرته عن وضع زميلي, وبعد أن اطنبت بمديحه والحاح شديد على البروفيسور, (وذكّرته بأن الحكومة العراقية تدفع أجوراً عن تدريب مبتعثيها)!, رأيته يتصل بالدكتورة (آن تشمبرلين) ثم اتفقا على قبول زميلي للتدريب على دراسة (التأهيل الطبي) تحت اشرافها! وفي خلال شهر, كان زميلي (محمد) في (ليدز). قمت بزيارته مع زوجتي في شقة كان قد استأجرها في الضواحي على مبعدة من المستشفى, ووجدت الشقة باردة, وغير ملائمة, وإيجارها باهض!.
في اليوم التالي ذهبت مع زميلي (محمد) لمقابلة مسؤول الإسكان في مستشفى (ليدز العام ) وبهدية (كروس سيجاير) حصلت على شقة لزميلي ملاصقة لشقتي في بناية (19 سبرينغفيلد ماونت)! حيث انتقل إليها, وبقي فيها طوال فترة دراسته والتي استمرت الى نهاية 1985. وكانت تلك احلى فترات تواجد عائلتي في (ليدز), حيث كانت عائلة (محمد) أفضل واحسن الجيران, وكان قد (تبنّى) أطفالي والذين كانوا يداومون في نفس المدرسة مع ابنتي ثم اضيف لها ابني (مصطفى), وكنت احياناً اصطحب اطفاله بسيارتي الى الدوام صباحاً في طريقي الى (هاروغيت), وكان هو يتكفل بتوصيلهم وارجاعهم من دوامهم عندما اكون (خفراً) في المستشفى. أما زوجته الإنسانة الطيبة فقد صارت نعم الأخت لزوجتي ووقفت لها دوماً في كل سرّاء وضرّاء, جزاهم الله عنا خير الجزاء.
في أحد ايام تشرين الاول كنت أقود سيارتي بسرعة فائقة متجهاً الى (هاروغيت), بعد أن اوصلت طفلتي واطفال (محمد زهدي) الى المدرسة, محاولأً الوصول الى المستشفى الذي اعمل فيه (رويال باث هوسبيتال Royal Bath Hospital) في وقت بداية الدوام عندما لحق بي ضابط شرطة على دراجته النارية. استوقفني الضابط وسألني عن سبب تجاوز السرعة المقررة؟ أجبته بكوني طبيب أعمل في المستشفى المذكور وأن هناك حالة طارئة (حياة أو موت)! ويجب ان اصل هناك فوراً! وبدون تردد قال لي الضابط, اتبعني فوراً.. سار أمامي مسرعاً هو الأخر وتبعته الى حيث توقف عند موقف سيارات المستشفى ثم دخل قبلي الى بهو المستشفى منتظراً دخولي, رأى أن السيدة (مسؤولة الاستعلامات) ترحب بي وقد حيتني تحية الصباح وسلمتني جهاز الاستدعاء ( Bleep) بعدها ودعني ونصحني بأن أحافظ على حياتي لأنها ثمينة لباقي البشر!
عرفت بالصدفة وأثناء حضوري الندوات السريرية في مستشفى ليدز العام ( Clinical Meeting LGI) أن هناك (كورس) تدريب عملي للتهيئة والاعداد للامتحان السريري النهائي لإمتحان (MRCP Part 2 ) والذي سوف يبدأ في الخامسة مساءً, بعد انتهاء الدوام من كل يوم, يتضمن تدريباً مكثفاً عن كيفية فحص المرضى (بشكل مثالي دون تعثر او أخطاء) والتفكير التحليلي السريع والمناسب في تشخيص الأمراض التي يمكن أن تعرض علينا في الجزء السريري (العملي) من ذلك الامتحان, والذي كان يعرف ب (الحالات القصيرة والطويلة), شاركت كمتدرب في تلك الدورة والذي كان يقوم بها الأطباء الأقدم منا والذين هم بمرتبة (ريجسترار أقدم Senior Registrar) وبكل طيبة خاطر, مجاناً لوجه الله تعالى!..
ابتدأت الدورة وكان عددنا نحن المتدربون ستة فقط, ثلاثة فتيات منهما اثنتين انجليزيتين شقراوين, وفتاة (مصرية) كانت لا تزال تستعد لإمتحان ال(بلاب), وثلاثة فتيان اثنين منهم إنجليزيين والثالث انا.. كنت مستمتعاً جداً بالتعلم وبطريقة التدريب على كيفية فحص المريض بطريقة مثالية تروق للأساتذة, الذين ستكون مهمتهم في الإمتحان مراقبة كل حركة تصدر منا أثناء الإمتحان, الا انني لم أنج من احدى الفتاتين الانجليزيتين والتي كانت (يهودية) اسمها (ليزا), حيث كانت تتحرش بي (كلامياً)! وبإغراء فاضح بين الحين والآخر!.
الطبيبة الثانية (هيلين) كانت متدينة جداً!, لا أدري إن كانت من نفس المذهب الذي يؤمن به (بروفيسوررايت), (فهناك مذاهب مسيحية كثيرة في هذا البلد), إلا أن (تدينها جداً) لم يمنعها من أن تعيش مع صديقها بدون زواج.
حكت لنا (هيلين) كيف أنها كانت قد مرت في اليوم السابق, بحادث سيارة ورأت سيارة اسعاف واقفة قربها, وكيف انها شقت طريقها خلال الناس المتجمهرين حول المسعفين وهي تقول (سووا درب!.. آني طبيبة!), و ما إن اقتربت من الممرض المسعف الذي كان منهمكاً في إجراء الأسعافات للمصاب المطروح على الأرض, حتى صرخ بها: "ابتعدي يادكتورة!, إيّاك أن تتدخلي في عملي!" مما جعلها تنسحب من الموقع وقد غمرها الشعور بالإهانة!.
ذلك الحادث اشعرني بمدى التقدم في التدريب الذي يحصل عليه المسعفون في انجلترا, بحيث انهم لا يسمحون حتى (للطبيب) بالتدخل في عملهم!. وبقيت أتذكر ذلك الموقف واقارنه بالتدريب البائس الذي يحصل عليه المسعفون في بلدنا.
(هيلين) كان نصيبها فيما بعد, ان جاءت الى بيتي مع صديقها و اشترت مني سيارتي ال (فوردFord Escort) عندما قررت مغادرة إنجلترا والعودة الى العراق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب