6-10 ومن شر حاسد

 


6-10 ومن شر حاسد..

في نهاية عام 1981 مرضت ابنتي فجأة وأخذت صحتها تتردى بإنتظام وببطء, مما سبب لي ولوالدتها قلقاً شديداً. ابتدأت حالتها عندما لاحظت زوجتي  ظهور فقاعات مائية قرب العينين, وأخذت  تلك الفقاعات  بالتزايد,  كما أخذت تظهر في  داخل  الفم!.  

النظام الصحي في بريطانيا يمنع الطبيب منعاً باتاً من القيام بعلاج عائلته المقربة (زوجته او اطفاله) حيث انه وبسبب ارتباطه العاطفي معهم فقد يسرف في علاجهم او أصلاً يهمل في معالجتهم, وبالتالي فهو مجبر بموجب القانون على إرسال عائلته المقربة الى (طبيب الأسرة) الذي سجلت عائلته عنده ويترك التصرف لذلك الطبيب. 

نحن وبسبب  موقع سكننا كنا قد تم تسجيلنا مع طبيب  إنجليزي أشقر! لم اكن اعرف انه من صنف الإنجليز العنصريين الكارهين للأجانب!. كتبت له رسالة بالتفصيل عن ما تعانيه ابنتي وعن احتمال كونها مصابة بأحد الأمراض المناعية ورجوته الإهتمام بها.

عادت زوجتي ممتعضة من إهماله حتى انه لم يكلف خاطره قراءة الرسالة و لم يعتن بفحص طفلتي وإنما أعطاها بعض المسكنات البسيطة وصرفها..

بعد أن تدهورت حالتها, كتبت له ثانية (وتيرة عملي وخفاراتي بين يوم وآخر لم تترك لي مجالاً للذهاب معها الى طبيب الأسرة), فكتبت له رسالة اخرى حملتها له زوجتي لاستعطفه وأرجوه بالاهتمام بحالة ابنتي, وتحويلها إن أمكن الى أحد الأطباء الاختصاصيين!

للمرة الثانية عادت زوجتي من عيادته وهي محبطة واخبرتني عن نفس اسلوبه السابق بعدم الإكتراث لا لفحص ابنتي ولا حتى سماع قصتها أو قراءة الرسالة وأعطاها بعض أدوية الزكام!

وصلت حالة ابنتي ان الفقاعات قد ملأت وجهها  الجميل و فمها و بلعومها ولسانها وتوقفت عندها قابلية بلع الماء او حتى بلع لعابها الذي  صار يسيل  بإنتظام خارج فمها, وتوقفت عن  تناول  الطعام والشراب تماماً وأوشكت على الهلاك, اخذتها الى طوارئ المستشفى العام وقد قام  الكادر الطبي بإسعافها بشكل عاجل مع الاتصال فوراً والحصول على إحالة مستعجلة للطبيب الاختصاص في المستشفى والذي شخص حالتها على انها من الأمراض المناعية النادرة, واحالها الى طبيبة اختصاصية في (شفيلد) التي تبعد عن (ليدز) حوالي ستين كيلومتراً, وذلك لكون تلك الطبيبة (كرستين هارينغتون) مختصة بالأمراض المناعية النادرة عند الأطفال. 

في اليوم التالي كنت قد اخذت اجازة طارئة من عملي وذهبت انا وزوجتي الى (شفيلد) حيث تم ادخال ابنتي المستشفى والذي بقيت راقدة فيه بضعة أيام كانت تستلم فيها جرع عالية جداً بالوريد من الكورتيزون  إضافة الى ادوية مثبطة للمناعة, بعد أن أوشكت على الموت! كما قامت المستشفى بإسكان زوجتي في الفندق المجاور للمستشفى (على نفقة الدولة), لكون من الممنوع البقاء مع الأطفال المرضى خارج أوقات الزيارة الرسمية. 

تماثلت ابنتي للشفاء وتم إخراجها من المستشفى وقامت الإختصاصية بكتابة رسالة مفصلة عن مرض ابنتي ارسلتها الى (طبيب الاسرة) طالبة منه ان يزودنا بحبوب الكورتيزون بإنتظام لأنها قد تحتاج للبقاء عليه لمدة سنة او اكثر.

بعد نفاذ الكمية التي معي من حبوب الكورتيزون, ذهبت لعيادة (طبيب الأسرة) (العنصري) هذه المرة بنفسي, لم يكن في إنتظار عيادته اي اجنبي عداي, فكل  مرضاه من الإنجليز.  ولما سألتني السكرتيرة عن طلبي, اخبرتها انني الدكتور فلان وأنني جئت لأخذ وصفة تكرار  للكورتيزون موقعة من قبل طبيبنا. جلست  في العيادة لأكثر من ساعة في الإنتظار وكررت اخبار السكرتيرة أنني لم آت للفحص  وإنما للحصول على وصفة بالكورتيزون لأبنتي المريضة وحسب الرسالة التي وصلته من طبيبتنا الإختصاصية. بعد إلحاح أدخلتني  على الطبيب وقرأ رسالة الاختصاصية قال لي وبالأسلوب الإنجليزي المتعجرف.. "انا لايمكنني ان اعطيك الوصفة, اجلب لي ابنتك كي افحصها" 

كنت اصلاً متحاملاً على هذا الطبيب الأشقر المتعجرف, وصحت في وجهه:

 "حتى لو جلبت لك ابنتي فأنت لن تفهم!.. لا بتشخصيها ولا بعلاجها, فقد جلبتها أمها مرتين لك وفي المرتين لم تقم بواجبك بفحصها كما يفترض! ولم تكلف خاطرك حتى بقراءة رسائلي المتكررة  لك بخصوص حالة ابنتي, حتى اوشكت ابنتي على الموت" 

كانت نبرة الغضب التي تصدر مني قد ازدادت حدتها ووصلت الى درجة الصياح في وجه ذلك الطبيب, ثم غادرت العيادة ومضيت وتمكنت من الحصول على  الحبوب وبانتظام من عيادة الطوارئ! حتى قيامنا بنقل (سجل العائلة الطبي) من هذا الطبيب إلى عيادة طبيبة (هندية) في نفس المنطقة والتي صارت طبيبتنا طوال فترة وجودنا في بريطانيا!.

الطبيبة الهندية التي سجلنا عندها كانت رائعة تماماً وصارت كلما نحتاجها في حمى او سعال او برد  يصيب اطفالي فأنها كانت تقول لزوجتي  "لا داع أن تكلفّي نفسك بالمجئ الى العيادة, أنا سوف آتي لك بسيارتي بعد دوامي وسوف أجلب معي الأدوية التي قد نحتاجها"!, صارت صديقة لزوجتي وقدمت لنا (خدمة خمس نجوم)  حيث كانت تأتي بنفسها لبيتنا في  كل مرة نحتاجها! ولحد الآن لا أدري إن كان (الطبيب الإنجليزي) قد كتب عني (تقريراً سيئاً) الى الطبيبة الهندية مما جعلها تحسب لي الف حساب خشية إهمال أعراض اطفالي, وبالتالي قد تنال من التقريع ما ناله مني ذلك (الطبيب)! او إنها كانت تتصرف من أصلها الطيب و اخلاقها الحسنة.

معاون الأخصائي  (associate specialist) في مستشفى نيوتن كرين كان شخصية هامشية.. كان اسمه (رامان) من شمال الهند, شخصية متوسطة العلم والمعلومات والثقافة!,  لم يكن اجتماعياً, وبقي طوال الوقت على هامش عملنا في  المستشفى! كان يحل محل (سلطان) عندما يذهب لزيارة المرضى في دور رعاية المسنين, حيث يرأس اجتماعاتنا الطبية والتي كان دوره فيها سلبياً ومملاً للغاية..

أخبرني (رامان) انه كان في (بغداد) ولعدة مرات!! سألته وكيف ذلك؟ متى كنت في بغداد؟ استدرك قائلاً:

" ليس تماماً .. انا في كل سفرة  ذهاب وإياب الى الهند كنت اختار (الخطوط الجوية  العراقية), فهي  خطوط جيدة, طائراتها حديثة, خدمتها ممتازة وأسعارها مناسبة! وفي كل مرة كنا نطير من (لندن الى بغداد) حيث نبقى بضع ساعات (ترانزيت),  ثم نطير من (بغداد الى دلهي).. إن الكثير من الهنود العاملين في بريطانيا يفضلون السفر ب(الخطوط العراقية) على الخطوط الهندية".

في زيارة لي في ما بعد عودتي للعراق وفي عام (1999) كنت في ضيافة د (سلطان) حيث اعد لي وليمة رائعة في بيته, ثم دار الحديث حول (رامان)!  فقال لي:

 "هذا الحمار! الغبي! رامان!! هل اقص  لك ما فعل؟ يبدو أنه قد تعود ان يكتب ادوية ضغط وسكر للمرضى الراقدين في المستشفى ثم كان يستحوذ عليها ويرسلها الى امّه المريضة في الهند! وقد رفعت  احدى الصيدلانيات به شكوى إلى المجلس الطبي البريطاني (  General Medical Council GMC), (يعادل نقابة الأطباء في العراق), والذي اعتبر عمله هذا (خيانة للأمانة) وقام  بتجريده من إجازة ممارسة الطب مدى الحياة وتم طرده من المستشفى! ياله من غبي! كيف ظن أنه يمكن أن ينجو بفعلته الشنيعة تلك؟"

في الاسبوع الاول من كانون الاول  (ديسمبر 1981 ) كان الأخ (أحمد البازي) في زيارة لنا مع عائلته, (احمد-ابوهند) كان قد جاء من العراق في بعثة على الهندسة, لكنه استقر في (ليدز) وصار المتعهد المسؤول عن خدمات (الجامع), وتفرغ له هو واخوه.. كان انساناً لطيفاً ونشأت بيننا صداقة عائلية طيبة. 

وبينما كنا نقوم بواجب الضيافة له, قال لي:

"هلا نظرت الى خارج البيت؟ هل تتبعت اخبار الأنواء  الجوية؟"

وكان منظراً لم اعهده ابداً في حياتي!.. فقد نزل الثلج بشكل سريع ومفاجئ وبكميات كبيرة.. لم يكمل (ابو هند) وعائلته زيارتهم لنا, اذ خرجوا على عجل تحسباً للجو الذي استمر بالتردي..

   استمر هطول الثلج طوال الليل, وفي الصباح وجدت ان مرآب سيارتي قد اغلق تماماً بنصف متر من الثلج. اتصلت ب(فريدي) في مستشفاي الذي انفككت منه أسأله ما العمل؟ اجابني بأن " أذهب للدوام كأن لم يحصل شيء!, ما لم يتم الإعلان عن توقف الدوام وانسداد الشوارع كلياً بسبب الثلج, وهو أمر غير مرجح!"

  كانت تلك اول مرة ارى فيها ثلجاً في حياتي. ولكوني (غشيم) فقد خرجت من البيت مرتدياً حذاءً جلدياً عادياً (عرفت فيما بعد إن هذه جريمة في حق نفسي! إذ كان يجب ان ارتدي حذاءً مطاطياً ذا أوتاد كبيرة).. تزحلقت وسقطت عدة مرات واصبت  بالرضوض والآلام في كل جسمي, 

        تمكنت من تنظيف  الممر وإخراج سيارتي من مرآبها, ثم انطلقت بها ببطئ الى الشارع الرئيسي, متجهاً إلى حيث المستشفى.. كانت البلدية قد قامت بواجبها طوال الليل من كسح الثلج في الشوارع الرئيسية دون الفرعية, ورشها بمادة ملح بحري بلون الطين, بحيث صارت الشوارع قابلة للحركة رغم انها زلقة جداً!.

   قرأت المعوذات وسرت في طريقي باتجاه مستشفى (سانت ميري ).. في احد المنعطفات كانت أمامي سيارة  تسير ببطء, وكنت قد نسيت نفسي تماماً فاسرعت بسيارتي وتجاوزت السيارة البطيئة, لأجد ان سيارتي قد صارت لعبة وأرجوحة!  إذ اخذت تدور وتدور لوحدها, ثم استقرت بضربة اصطدام كبيرة!..  

بعد إفاقتي من الصدمة لبضع دقائق, خرجت من السيارة, حيث وجدت أنني قد اصطدمت بسور حديقة أحد البيوت وبال(دنكة) المبنية من الطابوق, الممسكة بالباب والتي اقتلعتها سيارتي من مكانها وألقتها بحديقة ذلك البيت!.. كان الجزء الأمامي والجانبي لسيارتي  قد تحطم! وشعرت ببعض  الآم الرضوض في رقبتي وكتفي, 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب