6-7 دولمة.. و خبز عروق

 6-7 دولمة.. و خبز عروق

في (آب 1981) ملأنا انا و(فريدي) استمارات التقديم لإختبار ال(MRCP Part1)والتي قام بالتوقيع عليها الدكتور (سلطان) حيث قام بالتأييد بان كل منا قد اكمل مدة ثمانية عشر شهراً كطبيب بعد التخرج كما يؤكد فيه اهليتنا لإجتياز ذلك الإمتحان. بعد بضع ايام جائت كل منا رسالة من (الكلية الملكية البريطانية للطب الباطني) تحتوي على (الرقم الإمتحاني) الذي يؤهلنا للجلوس في الإمتحان والذي كان موعده بعد وصول الرسالة بإسبوعين.

حان وقت إختبارنا, وهو الجزء النظري من الإمتحان والمتكون من ثلاثمائة اختيار موزعة على ستين سؤالاً تشمل جميع فروع الطب الباطني بما فيها الامراض العصبية والمفاصل والجلدية والإحصاء الطبي, ورقة الإجابة متكونه من مربعات وكذلك الإسم والرقم الامتحاني! و يجب تظليل الإجابة الصحيحة بقلم الرصاص ( HP2), فحتى في ذلك الوقت المبكر من عام (1981), كان التصحيح فورياً بواسطة الحاسوب.
كان المركز الامتحاني في (لندن), أيقظت ابنتي منذ الفجر, والبستها ملابسها وهي نائمة, وفي ظلام الليل خرجنا الى محطة القطار, اصطحبتها معي وهي تحمل أوراق الرسم و(أقلام التلوين), ثم ما لبثت ان نامت على المقعد المجاور. وصلت المركز الامتحاني في (لندن) في الوقت المناسب, تركتها جالسة مع أوراقها وأقلامها, ترسم قرب إحدى موظفات المركز الامتحاني, وبعد ساعتين كنت قد سلمت ورقتي, ثم أخذت ابنتي الى (بيت شقيقتي) التي كانت تسكن في شمال لندن منذ بضعة شهور, حيث بتنا ليلتنا, وعدنا الى (ليدز) في اليوم التالي!.
أخبرني (فريدي) انني ولكوني قد حصلت على (موافقة إجازة) رسمية من المستشفى للمشاركة في الامتحان, فإن من حقي تقديم (قائمة مصاريف) الى الحسابات كي يدفعوا لي تكاليف السفر والبقاء ليلة واحدة في (لندن)..
ملأت الإستمارة الرسمية ثم قدمتها ل د (سلطان) للتوقيع عليها, وما إن نظر إليها حتى قال لي:
"ماهذا؟ أأنت مجنون؟؟!!!!! كيف تكتب ان كلفة تذكرة القطار (ليدز-لندن) (ذهاباً وإياباً) خمسة باوندات فقط في الوقت الذي هي أكثر من ثلاثين باوند؟"
أخبرته أني لدي (بطاقة عائلية Family Card) تخولني (أن اصطحبت طفلتي) بالسفر بهذا السعر الزهيد جداً!. (وهو السبب الذي جعلني اوقظ ابنتي منذ الليل واصطحبها معي الى لندن)!.
قال لي: "أنا لا يعنيني إن كانت عندك بطاقة عائلية! انت من حقك السفر بالدرجة الثانية في القطار!.. اريد ان تقوم بالإتصال هاتفياً الآن ب (محطة قطار ليدز) وتسألهم كم هو (السعر الرسمي) الكامل للتذكرة! نحن لن نطلب منك أن ترينا التذكرة!"
ثم قال: " ولماذا لم تدرج مبلغ المبيت في الفندق؟"
أخبرته أني قضيت ليلتي تلك في بيت شقيقتي التي تسكن في لندن!
قال: "وشقيقتك هذه!.. الم تأخذ لها هدية كي تبيت في بيتها؟ الن تقوم هي بالمجيء الى (ليدز) فيما بعد والمبيت عندك؟, الن يكلفّك ذلك الكثير من المصاريف عن إطعامها وإطعام أطفالها.. الخ؟ أكتب الآن مبلغاً معقولاً عن (مبيت) في (فندق متوسط الحال) في لندن, نحن لن نطلب منك ايصالاً! ثم ان هناك مبلغاً نعتبره مصرف جيب (subsistance) للتنقلات وسيارات الأجرة ووجبات الطعام والقهوة وقدره 20 باوند يومياً اريدك ايضاً ان تكتبه!"
لم اكن مرتاحاً (للكذب) بشأن مصاريفي!, ولكن مادام هذا هو السياق المعمول به في هذا البلد.. فليكن!.. سلمته قائمة جديدة كما أراد, ووضع عليها توقيعه, وبعد أسابيع وصلني المبلغ!. حتى هذه اللحظة وانا لست متأكداً إن كان ذلك حلالاً ام حراماً!؟
بعد الإمتحان ببضعة أيام عدت الى بيتي من دوام المستشفى فوجدت زوجتي على غير طبعها, وقد تغير وجهها, ثم قالت لي بإنكسار:
"استلمت البريد وفيه نتيجة الإمتحان!"
ثم سلمتني الرسالة التي قرأتها مسرعاً, (كانت النتيجة التي كنت اتوقعها: راسب!).. كان يمكن أن تصدمني تلك النتيجة, فهي أول مرة في حياتي لا انجح في امتحان من المحاولة الأولى!
ابتسمت وطلبت منها ان تهدأ.. فالنتيجة كما توقعت, اذ لم اكن سأنجح إلا بمعجزة!, فلم يمض فعلاً على دراستي المكثفة للاختصاص في الباطنية أكثر من اربعة أشهر, وهي مدة من المستحيل ان تكفي للنجاح!..
أشرق وجهها ثانية وهي تقول:
"يعني انت مو ضايج؟ مو زعلان؟"
أقنعتها بأن النتيجة منطقية, وتماماً كما كنت متوقعاً, وسوف اعاود المحاولة مرة أخرى, ثم عدنا الى فرحتنا من جديد فقبل اسبوعين كنا قد رزقنا بمولودنا الجديد "مصطفى", كما كان قد تم (ختانه) مجاناً في المستشفى في الأسبوع الأول من ولادته, بعد أن تصوروا أننا (يهوداً)! لكون زوجتي اثناء رقودها في المستشفى قد طلبت طعام (كوشرKosher) كي تطمئن إلى أن أكلها لا يحتوي على لحم خنزير!.
(ملاحظة (الكوشر) هو طعام اليهود, ولا يحتوي على الشحم او على لحم الخنزير, فهو مقبول عند المسلمين, حيث تقوم المستشفيات بتقديمه عند طلبه, بينما لا توفر وجبات الطعام (الحلال) رغم أن عدد المسلمين يفوق عدد اليهود!)
(فريدي) والذي كان قد (رسب) هو الآخر, كان متفائلاً بالنجاح عند معاودة الإمتحان في المرة القادمة!
بعد ولادة ابني بفترة وجيزة, التحقت بنا (والدة زوجتي).. تلك الإنسانة الرائعة الطيبة, حيث تم منحها تأشيرة تسمح لها بالبقاء في إنجلترا لمدة ستة أشهر.. وبدت حياتنا أكثر سعادة بمجئ (جّدة) اولادي الغالية, وعبّرت عن نيتّها البقاء معنا طيلة الشهور الستة التي أعطيت لها.. وبدأنا بعصر جديد من (الأكل العراقي) الذي كانت تعّده بمهارة فائقة (الدولمة والباجة والأنواع المختلفة من الكبب والتباسي)! كما صرت اطلب من الجّزار الباكستاني ان يعزل لي (الشحم) على حدة, كي تعد لنا جدة اولادي الذ (خبز عروق) تأكله في حياتك!..
بعد مجئ (جّدةّ) أولادي كنت قد قضيت أربعة أشهر في عملي في جناح (نيوتن جرين), وكان الراتب الذي اتقاضاه من المستشفى راتباً كبيراً جداً بمقاييس ذلك الزمان, كما كنت استلم راتب (الإجازة الدراسية) والذي يقارب نصف راتبي الذي استلمه من المستشفى!, كنا في حال مادي ممتاز, يمكننا من شراء سيارة (فورد اسكورت Ford Escort) جديدة, وأن نعيش بحياة مرفهة, حيث بدأنا بسفرات استكشاف انجلترا بطولها وعرضها..
بعد ثلاثة شهور من اقامة (جّدة) اولادي معنا, كنا أنا وزوجتي على موعد مع (عميد كلية طب الأسنان) في (جامعة ليدز).. حدثته زوجتي عن رغبتها في دراسة (الماجستير) في (أمراض اللثة), (على نفقتنا الخاصة)!. لكون وضعنا المالي الآن يسمح لنا بذلك! لم تكن اللغة الانجليزية عند زوجتي بنفس طلاقة لغتي, (فأنا خريج (كلية بغداد) الأمريكية).
عميد (كلية طب الاسنان) استقبلنا ببرود شديد وبطريقة مستفّزة قائلا لزوجتي في نهاية اللقاء, بأنها لايمكن قبولها في الدراسات العليا في الوقت الحاضر, وان عليها أن تدرس الانجليزية بشكل مفصّل أكثر والحصول على نتيجة لا تقل عن 8.5/ 10 في امتحان اللغة قبل ان تحاول التقديم مرة ثانية!
خرجنا من لقائنا مع (عميد طب الأسنان) ونحن في حالة إحباط ويأس شديدين, وصار حلم حصول زوجتي على (الماجستير) في طب الأسنان من (جامعة ليدز), (والتي تعتبر من أعرق وأفضل كليات طب الأسنان في بريطانيا) مهدداً بالفشل, إذ بوجود عائلة وطفلين و(عدم اختلاط) بغير العراقيين, فإن حصولها على معدل 8.5 /10 في اللغة, كان ضرباً من المستحيل!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب