6-6 حب من طرف واحد

 6-6 حب من طرف واح


    اللقاء بالدكتور(زياد الدهنه) كان من اجمل الصدف.. فهو انسان لطيف جداً.. مرح وصاحب نكتة, شخص متدين وملتزم.. كانت معه زوجته وابنه (طارق) وابنته (ضحى), يسكن  في احدى المجمعات  التي بنتها الدولة البريطانية للعوائل المتعففة (The Hunslet). صرنا نذهب انا وهو في عطلة  منتصف الأسبوع الى مسجد صغير هو عبارة عن بيت من طابقين يلتقي فيه كل الطلاب المصلين من العراقيين والسوريين وبعض  السودانيين.

وبما أن (زياد) كان عنده الكثير من وقت الفراغ! فقد كان يقود في بعض الأحيان  السيارة ال(فان van) التابعة للمسجد الى مجزرة  (برادفورد) حيث سمحوا للمسلمين بالذبح على الطريقة الاسلامية يومين في  الأسبوع (رغم اعتراض بعض المتشددين بحجة الرفق بالحيوان), وكان يجلب  اللحم والخضار والبقالة  للحانوت الخيري الملحق بالمسجد والذي كانت ارباحه تنفق في دفع إيجار وفواتير المسجد. 

في بداية تموز 1981 ابتدأ شهر (رمضان),  وبسبب (طرد) الطبيب النيجيري  كانت (خفاراتي) بين يوم وآخر, وكان لدي  وقت كافٍ للدراسة في غرفتي في (دار الأطباء),  وقت الإفطار كان بعد الساعة العاشرة ليلاً بينما السحور في الثانية بعد منتصف الليل!, زوجتي كانت حامل في شهرها التاسع, وصرت متعوداً على وتيرة العمل, بل وأحب  العمل في المستشفى. 

احدى خريجات التمريض صارت صديقة حميمة لي, وصار ديدنها ان تعد لي وعاء حافظ للحرارة (ترموس) مليء بالقهوة والحليب, مع سندوتشات(حلال),  لفطوري!.. كانت  في أوقات فراغها تحكي لي عن أهلها الساكنين في لندن, والدها الذي يعمل  (محاسباً) في أحد البنوك تم سجنه  لمدة ثلاث سنوات بسبب تفتيش مفاجئ واكتشاف وجود نقص بضع (باوندات) في عهدته, وتعجبت أنها ترى ذلك عدلاً, ولم تكن ترى فيه أي ظلم لأبيها او إفراط في العقوبة!..

 بعد بضعة أسابيع صرت اسمع بنفسي همهمات وانتقاد الممرضات لتلك الممرضة, وبأنها لا يجوز لها أن تكون على هذه الدرجة من الصداقة الحميمية معي, خصوصاً وانها (مخطوبة) لطبيب انجليزي في المستشفى المجاور وهي على وشك الزواج!.. بدأت فعلاً اشعر بأنها مغرمة بي, لكن التزامي الديني وحبي لزوجتي وأسرتي جعلني أبقي الحدود  بيننا واضحة ولم أتقرب منها أكثر من التحدث في أوقات الفراغ -القليلة- في الردهة. تزوجت تلك الفتاة من الطبيب, ورزقت بطفلين, ويبدو أنها اختارت الحل الأمثل لعلاقة لم يكن مقدّراً لها أن تزيد عن صداقة بريئة, حيث صارت الصديقة الصدوقة لزوجتي وعائلتي, تأتي لتزورنا مع زوجها الطبيب, وبقينا نتزاور كل بضعة أشهر, طيلة فترة وجودنا في انكلترا. وبعدها كنا نستلم منها كارتات معايدة عن رأس  السنة تحكي  لنا تفاصيل حياتها وعائلتها.. 

كانت الأجواء في انجلترا في شهر تموز 1981 تبعث على السعادة, فقد تقرر زواج الأمير الشاب وولي العهد (تشارلز) من الشابة الحسناء (دايانا).. وفعلاً في 30 تموز 1981 كانت انجلترا كلها, بما  فيهم نحن طلبة الدراسات العليا,  نحتفل بالزواج الملكي, وكانت ردهات المستشفى تغص بالزينة على جميع الجدران وقد الصقت عليها صور الشابين  العاشقين اللذين تم زواجهما في قصر  (باكنجهام) ب(لندن). وكان المرضى والمريضات الراقدون  في المستشفى وجميع الممرضات, يعبرّون عن فرحهم بزواج ألامير من تلك الشابة الحسناء.

صديقي السوري (زياد الدهنه) اخبرني ان صلاة العيد ستكون في يوم (1 آب) وبسبب تجمّع عدد لابأس به من المسلمين العرب والماليزيين وبعض الباكستانيين, فستكون الصلاة في (كنيسة) كانت مهجورة منذ  مدة طويلة, تم تأجيرها لغرض صلاة العيد ثم لإجراء صلاة الجمعة فيها فيما بعد.. وفي ليلة العيد اخبرت الطبيب الذي هو اعلى مني مرتبة (رجسترار) السريلانكي (رجاك) بأنني سوف أتأخر قليلاً عن الدوام غداً بسبب (مناسبة)  لنا (نحن المسلمين) نسميها (عيداً), وإذا أمكن تكليف أحد الزملاء بتغطية تأخّري عن الدوام ساعة واحدة.. دهشت عندما اخبرني انه هو  ايضاً مسلم! ثم أعقب مدهوشاً..:

 "كيف لم تعرف  انني مسلم؟ ان اسمي مذكور بالقران!؟" 

قلت له  مستغرباً "راجاك؟!!!!.. كيف يكون مذكوراً في القرآن!!!؟؟" 

أجاب مؤكداً: "ان اسمي الكامل هو عبد الرجاك"!.. 

ههههه  سبحان الله (عبدالرزاق).. قد تحولت الى (راجاك) وطلب مني أن أدلّه على الجامع كي يصلي العيد هو الآخر بعد أن نكلف بعض الزملاء في تغطية العمل أول  النهار.. لم يكن من تصرفات (راجاك) أي شيء يوحي بكونه مسلماً! كان من أكسل الناس الذين عرفتهم, وأقلّهم  اخلاصاً في العمل! وكان كل همّه في الدنيا هي الحصول على بضعة (باوندات) التي تأتيه من التوقيع على استمارة (حرق) المرضى المتوفين!.

(معظم مرضانا كانوا من ذوي الدخل المحدود, ولم يكن لدى ذويهم, اي امكانية على دفع مبالغ الدفن المكلفة  بعد وفاتهم, لذلك تقوم البلدية بأخذ أجسادهم  الى (محرقةCrematorium)  خاصة حيث يتم حرقهم وتحيل  اجسادهم الى كمية صغيرة جداً من الرماد تعطى لأقاربهم ان كانوا يهتمون بأخذها. وكانت عملية الحرق (cremation) تتم بعد حصول موافقة (ضابط الطب العدلي coroner), والذي يستند الى (استمارة الحرق الرسمية) التي نقوم نحن الأطباء  المقيمين  بملئها, والتي تضمن ان الوفاة كانت لأسباب طبيعية وليس فيها شبهة جريمة. في معظم الأحيان كان ضابط الطب العدلي يكتفي بما مدون في الإستمارة, وفي بعض الأحيان يتصل بنا هاتفياً للتأكد من سبب الوفاة. بعد الحرق تقوم البلدية بإرسال مبلغ من المال (خمسة عشر باوند) الى الاطباء الذين قاموا بملء الإستمارة, لأن مسؤولية ملأ الإستمارة يعتبر تكليفاً خارج التزاماتهم الوظيفية!. كانوا يتقاسمون المبلغ بين (المقيم الأقدم) و(الرجسترار) و(الطبيب الاختصاص) وتكون حصة الواحد منهم  خمسة  باوندات!)

في يوم عيد الفطر كانت الكنيسة قد فرشت  جميعها بالسجاد, و توسطها منبر بسيط  من الخشب, كما وضعت فيها خزانات خشبية  لحفظ الأحذية وبعض الأثاث الآخر.. كانت تبدو  السعادة على (راجاك), فربما كانت هذه صلاته الاولى في  مسجد منذ جاء الى بريطانيا!.. خرجت مع احساس  بالفرح  وشعور ب(عيد الفطر) ينقصه (الكاهي والقيمر) الذي  كان عادة لنا في أول يوم من أيام  العيد عندما كنا في بغداد.

  ثم وبعد اقل من اسبوع شب فيها حريق هائل أتى على كل تجهيزاتها ودمرّها بالكامل, واتجهت  أصابع الاتهام الى بعض المتطرفين الذين  فضّلوا أن يرونها  ركاماً محترقاً, على أن يستعملها المسلمون في صلاتهم!.. فيما بعد ولغاية مغادرتي (ليدز) في  1985, بقي الطلبة المسلمون يستعملون (ملعب كرة السلة) الذي تم استئجاره من (جامعة ليدز) لأداء صلاة الجمعة, بعد فرض شروطٍ مشددة جداً على اولئك الطلبة, بخصوص المحافظة على نظافة الملعب وإعادة ترتيب مدرجاته وجميع أثاثه وتنظيفه بالكامل بعد الإنتهاء من أداء صلاة الجمعة فيه..

بعد ذلك  العيد توثقت صداقتي مع (الرجسترار) (المسلم) الكسول (رجاك), خصوصاً بعد أن جلبت له هدية عندما رزقه  الله  بمولوده الأول. أخبرني أنه اسماه (رايس)! سألته ما معنى  الاسم وهل هو (اسم سريلانكي)؟ ظهرت  عليه  الدهشه وبعض الغضب, وحاول أن يقنعني  انه اسم قد اقتبسه من القرآن الكريم! ولم  اتمكن من معرفة من أين اتى به في القرآن!...

كان يحكي لي عن عادات المسلمين في (سريلانكا) حيث أن عاداتهم  مطابقة لعادات الهندوس,  فزوجته هي  التي دفعت له (مهراً مالياً Dowry) عندما تقدم  للزواج  منها!. وكان  في كل مرة يندب حظّه ويضرب كفّاً بكف معتبراً نفسه لم ينل حقّه, لأنه (وهو الطبيب) (ذو المستقبل  الواعد), ليس له (بخت), إذ كان قد حصل على  (مهر) أقل  بكثير مما حصل  عليه شقيقه (الضابط في الشرطة)!..

.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب