6-5 هل أطفالك.. من زوجة واحدة؟

 6-5 هل أطفالك.. من زوجة واحدة؟



تحدثت في المقال السابق عن السلطة المطلقة لل (سستر) في الردهات! وكيف انها اصرت على (إيقاف طبيب) عن العمل لانه تفوه بكلمات لاتليق أمامها!, أما الحادث الآخر فكان على النقيض من ذلك تماماً.
إذ أن صاحبي (الغاني) الطيب (فريدي), وفي إحدى خفارته تم استدعاؤه بعد منتصف الليل, بعد ان تردت حالة إحدى المريضات التي مضى على رقودها في المستشفى عدة أشهر (Long stay patient) وبعد ان فحصها وجد تنفسها مضطرباُ لكونها مصابة بـ (وذمة الرئةPulmonary edema) (امتلاء حويصلات الرئة بالسوائل) نتيجة عجز القلب, فطلب من الممرضة ان تسحب له (بالسرنجة) مادة (مدررة) (فروسمايد) كي يزرقها بالوريد, في نفس ذلك الوقت كانت ممرضة أخرى تحضّر السائل المغذي لمريضة ثانية مصابة (بحموضة السكري) وتحتاج الى مغذي ماء ملحي ووضع ابرة من (البوتاسيوم) في كيس المغذي. حصل التباس وزودته الممرضة ب (سرنجة) (البوتاسيوم) عوضاً عن (المدرر)!, وما ان زرقها في وريد المريضة حتى انتفضت مرتين او ثلاث ثم ماتت فوراً!.. صاح (فريدي) بالممرضة سائلاً عن نوع السائل الذي كان في (السرنجة), واكتشف فوراً الخطأ الذي حصل!..
في الصباح التالي كانت هناك ضجة في الردهة وفي المستشفى, فالأمانة الطبية تقتضي الإفصاح عن كل ما حدث! تدخّل مدير ادارة المستشفى, واتصل ب(إبنة المريضة) طالباً منها المجيء فوراً!.
تم ابلاغها وهي الإبنة الوحيدة للمرأة المتوفاة عن الخطأ الذي حصل, ثم أخبرها الدكتور الإستشاري (سلطان) ان من حقها أن تتقدم بشكوى رسمية, وهناك خطوات وإجراءات اصولية يمكن اتباعها في مثل هذه الحالات عند تقديم الشكوى, بل وأخذ يرشدها و يعلمّها كيف تقوم بها!. وقفت (سستر) الردهة مع (فريدي) ودافعت عنه بشدّة, وهو الذي كان قد أصابه الذعر والخوف, ولم تبق قطرة دم في وجهه خوفاً على مستقبله العلمي, ولكن اخلاقه العالية وسيرته الطيبة وإخلاصه الدائم وحب الجميع له شفع له وكان المدافع الأول عنه, كانوا جميعاً مستعدين لعمل المستحيل في تجنيبه العقوبة!
الأمر الذي أذهلني أن (إبنة المتوفية) وفي اليوم التالي أرسلت رسالة موجهة إلى ردهتنا, تشرح فيها كيف أنها وجدت في هذا المستشفى كل الخير والعناية الفائقة بأمها طيلة فترة رقودها الطويل في المستشفى, وأنها تعتبر ما حدث قضاءً وقدراً, كما وإنها قررت أن لا ترفع اية دعوى قضائية عما حصل!, وفي نهاية رسالتها عادت و(شكرت) جميع المنتسبين لتفانيهم في خدمة المرضى. تم لصق الرسالة على الزجاجة الأمامية لمدخل الردهة كي يقرأها الجميع, وتم طي تلك الصفحة وإلى الأبد!
(دائماً ما استشهد بتلك الحادثة وكيف ان الإنكليز (الكفّار) يعفون ويصفحون عن خطأ وقع فيه الطبيب او الكادر التمريضي, بينما يقوم آخرون في بلدنا بالإعتداء بالضرب والإهانة وتكسير الأجهزة بمجرد وفاة مريضهم! ولكن ربما كان السبب في بلدنا يعود الى سوء التواصل والتحاور مع المريض وذويه)!
كانت علاقتي بالكادر التمريضي أكثر من جيدة.. فهم يلاحظون عملي الدؤوب بمنتهى الإخلاص والتفاني بضمير حي, وبالمقابل كنت القى المعاملة الحسنة من الجميع خاصة الممرضات اللاتي كن يجلبن لي القهوة بالحليب كلما رأيتني منهمكاً لساعات طويلة في أعمال الردهة, وعرفوّني على شراب لم أجده في بلادنا يسمونه (هورلكس Horlicks) حسب ما فهمت انه احد مشتقات الحليب, وقد اعجبني طعمه!.
إحدى الممرضات اللواتي أتين من جزر الهند الغربية (الكاريبي) كانت تضاحكني وتقول:
"دكتور سامي انت عندك روح You have sole "
"بخلاف الإنكليز They don't have sole "
(السود القادمون من الكاريبي يقسمون الناس الى قسمين (ناس لهم روح وناس بلا روح))!. ثم دعتني لحضور المهرجان السنوي (للتنكر وموسيقى الكاليبسو), وموسيقاهم المميزة باستعمال الطبول الحديدية التي تشبه البراميل, والذي يقام في شارع (جابلتاونChapeltown Rd) حيث تفوز فيه إحدى الفتيات بلقب (ملكة المهرجان), ولكونه ممتعاً جداً وفعلاً (فيه روحhas sole)!, فقد دأبت على زيارة ذلك المهرجان كل عام!.
بذلت جهداً استثنائياً لتعلم دقائق الطب الباطني, فتدريبي على الباطنية في العراق لم يكن كافياً وقد اقتصر على الشهور التسعة اثناء اقامتي الدورية, في كل من (الحميّات, ومدينة الطب, والأطفال). ما ساعدني فعلاً في التحضير (للجزء الأول) من امتحان اختصاص الباطنية ال(MRCP-Part one) كان صديقي الغاني (فريدي) الذي كان يستعد للدخول في الإمتحان في محاولته (للمرة الثانية).
أما التدريب العملي فلم يكن هناك اروع من العمل في ردهة (كبار السن)! جميع مرضانا مصابون بأربعة إلى ستة أمراض على الأقل (الضغط والسكري وقصور الغدة الدرقية والباركنسون والكبد والجلطة القلبية..الخ) أي مرض تبحث عنه تجده فيهم! رأيت امراضاً خلال سنة ونصف لم أحلم يوماً أن أراها!, وهو ما سهل علّي التدريب العملي في البحث عن العلامات السريرية لتلك الأمراض!.
منذ اول شهر عمل لي في مستشفى (نيوتن كرين Newton Green), كانت الأخبار لاتنفك من التحدث عن (اضراب عن الطعام) في سجن (المتاهة Maze) في ايرلندا الشمالية, للعشرات من محاربي (الجيش الجمهوري الايرلندي Irish Republican Army IRA), يقودهم شاب اسمه (بوبي ساندز Bobby Sands), والذي بدأ إضرابه عن الطعام في (آذار1981). كان كل مايطالبون به ان يسمحوا لهم بعدم ارتداء ملابس السجن التي كانت انجلترا تفرضها عليهم, فقد كانوا يعتبرون أنفسهم (محاربون من اجل الحرية) (أسرى حرب) ويجب أن تطبق عليهم شروط معاهدة (جنيف), وأن لا يعاملوا معاملة السراق والمجرمين العاديين.
كان هذا هو ثاني اضراب يطالب بنفس المطالب, فقبله ببضعة أشهر حصل إضراب مماثل ثم فشل, أما الآن فقد قرر (بوبي ساندز) ورفاقه أن يبقوا عراةً.. ويستمر إضرابهم حتى الموت!.. حاولت رئيسة الوزراء (مارغريت تاتشر) أن تثنيهم عن عزمهم, لكنهم أبوا واستمروا في اضرابهم, واخذت اجسادهم تذوي, حتى صاروا اشبه بالهياكل العظمية, وابتدأوا بفقدان الوعي واحداً تلو الآخر.
أرسلت (تاتشر) إلى شقيقة (ساندز) تطلب منها الموافقة على إعطاء الغذاء لأخيها (قسراً) بالوريد, الا ان اخته ابت احتراماً لرغبته بالموت وعدم التراجع.. وأصرت (تاتشر) هي الأخرى على معاملة (هؤلاء) على انهم مجرمين عاديين, لا مناضلين او مقاتلين من أجل الحرية.
كان التلفاز ينقل لنا أخبارهم يومياً اولاً بأول, وكنت اتابع اخبارهم حيث كنت اتعاطف مع قضيتهم, وفي (5 مايس 1981), بعد ستة وستون يوماً من بدئه بالإضراب عن الطعام, مات (بوبي ساند) في السجن جوعاً عن عمر (27) عاماً (1954-1981), استمر إضراب بقية رفاقه عن الطعام لغاية الثالث من تشرين الأول 1981 مات فيه عشرة آخرون جوعاً, دون أن تنفذ مطالبهم!, وبقيت رئيسة الوزراء صامدة في موقفها بقلب من صخر, دون أن يغمض لها جفن, واستحقت (ثاتشر), بجدارة لقب (المرأة الحديدية)!.
منذ اول لقاء لي مع الاستاذة المشرفة على دراستي (آن تشمبرلين) قالت لي:
هناك طبيب سوري يجب أن تتعرف عليه اسمه (دينا)!"
عجبت من الاسم وسألتها:
"دينا؟ هل هو طبيب ذكر ام طبيبة"؟
قالت: "لا انه ذكر!"..
بعد تعرفي عليه عرفت ان اسم الكنية هو (الدهنهDehneh) التي اختصرها الإنجليز ب(دينا)!, وان اسمه (زياد), كان قد جاء من سوريا بمنحة من (منظمة الصحة الدولية).
كان البروفيسور (رايت) يقص لكل من يتعرف به من العرب عن أول تعارف له مع (زياد).. يقول:
"عندما تعرفت على (زياد) سألته:
"زياد.. كم طفلاًعندك؟"
أجابني: "طفلين"
صمت (زياد) قليلاً ثم سأل:
" وانت يا بروفيسور..كم طفلاً عندك؟"
أجبته: "ثمانية"!
قفز (زياد) من مكانه متسائلاً:
"هل جميعهم.. من زوجة واحدة؟"!!
كان بروفيسور (رايت) يعتبر تلك المحاورة من أطرف النكات!.. فهو مسيحي متدين وديانته لاتبيح تعدد الزوجات, ولكنه من إحدى الطوائف المتعصبة (الإنجيليين Evangelist) التي تحرمّ تحديد النسل (كما تحرمّ الكحول والتدخين)! فصار عنده سبعة أطفال من زوجته, إضافة الى تبني أحد الأطفال السود من (أفريقيا)!... كما كان من الدعاة المتحمسين لمذهبه, فقد اشتهر بكونه يقف (كل يوم أحد) في مركز المدينة فوق صندوق من الخشب, ممسكاً بالإنجيل, داعياً الناس الى العودة للدين الصحيح وتجنب المعاصي!..
كان بروفيسور (رايت) يعقد ثلاث او اربع ندوات في منزله الكبير في (هاروغيت) كل عام حيث يقوم بشوي شرائح لحم البقر(ستيك) على الحطب… ويدعو أحد (المبشرين المسيحيين) الذين عادوا تواً من التبشير في مجاهل افريقيا أو آسيا, لإلقاء محاضرة عن تجاربه بالدعوة للمسيحية, والذي عادة يبدأ بسلسلة من المغالطات الدينية عن تجاربه في (هداية) المسلمين في (أفغانستان) او (باكستان) أو (اندونيسيا).. كانت (فيرا نيومان) (اليهودية) تقف جنبي دوماً في تلك الندوات وهي تغمزني بين حين وآخر وتقول:
"سامي.. لا أنت ولا أنا لنا شأن بهذا ال (خريط)!"
لكننا (هي وأنا) كنا نحرص على حضور ولائمه! بسبب حبنا للبروفيسور لطيبته وأخلاقه العالية, ولكوننا متأكدان دوماً أن تلك الوليمة لن يكون فيها.. كحول.. او سجاير او.. لحم خنزير!

Tahseen Al-Saleem

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب