6-4 ملاك من السماء.. اسمه (فريدي)

 6-4 ملاك من السماء.. اسمه (فريدي)

انتهى الإنتظار بعد أن تمت (مقابلة) كل واحد منا لبضع دقائق وتفحصوا إضبارته وسألوه عن وضعه الشخصي والمستشفيات والأماكن التي عمل فيها, وما مشاريعه للمستقبل..الخ,
ثم جاءت الفتاة مبتسمة, نظرت في وجهي, ونادت بإسمي وهي تقول:
"دكتور سامي سلمان.. مبروك.. انت قبلت للوظيفة"!
واعتذرت من بقية المرشحين! وطلبت منهم مراجعتها في مكتبها كي تدفع لهم أجور مواصلاتهم وتكاليف مجيئهم!. ثم قالت لي:
" أن الأخصائي يريد ان يجلس معك الآن"!
بعدها حملت أوراقها وغادرت المستشفى. عدت الى غرفة المقابلة ثانية حيث كان الأخصائي واقفاً في انتظاري ثم بادرني بقوله:
" كيف تحب أن تشرب قهوتك؟"
أجبت وأنا مذهول: "بالحليب والسكّر.. من فضلك!"
قام بسكب القهوة بنفسه لي وله, من وعاء حافظ للحرارة .. كان قصيراً, انيقاً جداً, شعره مصفف بعناية, في حوالي الأربعين من عمره, كانت تلك اول مرة انتبه لإسمه (MA Sultan), (سلطان)! عرفت بعد شهور ان (MA) تعني (محمد علي)!
بادرني بالقول "لابد انك مندهش انني اخترتك للوظيفة"!
اجبت: "نعم"!
قال: "لسببين, أولاً لقد اشتغل معي أطباء عراقيون قبلاً, ووجدتهم, مجّدين مجتهدين, مثابرين, ولم اندم يوماً على العمل مع طبيب عراقي"!
" أما السبب الثاني هو كونك قد قدمت تواً من فرنسا ولديك شهادة منها!. أنا بالأصل من جزيرة (موريشوس), وهي جزيرة ناطقة بالفرنسية, ومنذ مدة اتمنى ان يعمل معي من يجيد الفرنسية كي نتحدث بها و (نغتب) من نريد ان (نغتابه), نأخذ راحتنا بالكلام, دون أن يفقه الآخرون الى ما نقول"!
ثم وبعد انتهائي من القهوة قال لي "هيا.. واستعد للدوام غداً مبكراً..صباحاً"!
عدت الى شقتي الجديدة الدافئة, واخبرت زوجتي بالخبر السعيد, ثم هرولت راكضاً الى (مركز بحوث الروماتيزم) طالباً مقابلة البروفيسور (رايت).. شرحت له ان حلمي في الحصول على شهادة عضوية الأطباء الملكية البريطانية ( MRCP) وان عملي كمقيم اقدم في المستشفى سوف يجعل تلك المهمة سهلة, ورجوته أن يوافق على عملي كطبيب مقيم اقدم باطنية في المستشفى, ووعدته أنني سوف احضر وبانتظام الاجتماع الأسبوعي لمركز البحوث, ثم رجوته أن يتوسط لي مع الدكتورة (تشمبرلين) والتي سوف اتواصل معها بخصوص الاستعداد ل (شهادة التأهيل الطبي) التي اوفدتني دولتي من أجلها!
في طريق عودتي الى بيتي مررت على جاري (أيمن) والذي اذهله انني قد فزت بالوظيفة بعد وصولي الى بريطانيا.. بأقل من شهرين!
في الصباح التالي وحال وصولي الى المستشفى استلمت (صدرية بيضاء) و (بادج معدني بإسمي) و(جهاز استدعاءBleep) يعلق في الجيب يتصل مباشرة ب(تشارلي) العجوز, مسؤول بدالة المستشفى!
اليوم الأول لي ك(مقيم اقدم) في جناح (نيوتن كرين) وهو احد المستشفيات الملحقة بالمستشفى الكبير الرئيسي في ليدز(سانت جيمس), كان يوماً لن أنساه ما حييت!.نظام عمل جديد كلياً علي! داومت في الردهة في التاسعة صباحاً ووجدتها تنبض بالحياة مثل خلية نحل. احسست ببعض الذعر في البداية, ثم بعث الله لي ملاكاً من السماء…. اسمه (فريدي)!.
(فريدي) هذا مقيم اقدم مثلي, لكنه قضى سنيناً في بريطانيا, وقف معي يشرح لي بصبر وطيبة قلب ليس لها مثيل, كيف استقبل المريض, اين اقوم بفحصه, كيف املأ (طبلة) المريض, اين اجد استمارات التحاليل المختلفة الألوان لملئها, ثم كيف اسحب الدم من المريض, ما هي الانبوبات الصغيرة التي يجب وضع كميات من الدم فيها وما هي شفرة كل لون منها, كيف اضع الملصق الصغير الذي يحمل معلومات المريض على كل أنبوب, ثم أين أترك تلك الانبوبات كي تؤخذ الى المختبر!..
كان (فريدي) رائعاً وكلما نسيت فقرة من تعليماته, كان يعيد تعليمها لي بدون ضجر! وهكذا استمر طوال ذلك النهار!.
(فريدي) كان افريقياً من (غانا) أكمل دراسة الطب في (هنغاريا), ثم تزوج هناك من فتاة شقراء وجاءت معه ومع طفلته الصغيرة (اليكسي) الى انكلترا منذ بضع سنوات.
مريضتي الأولى كانت امرأة مصابة (بالخرف المبكرPre-senile dementia ) وحاولت المريضة أن تقوم بعرض تعرّيّ امامي! في فترة الظهر, اصطحبني (فريدي) الى مطعم المستشفى, حيث وقفت في الدور لاختيار وجبة غدائي, كانت الوجبات المعروضة لا تغري احداً بأكلها (أين هذه من الطعام في فرنسا!!) بطاطا مهروسة, بزاليا مهروسة, فاصوليا مهروسة.. كل شئ (مهروس.. مهروس..مهروس!) وبلا طعم! لا ملح ولا فلفل ولا لون ولا رائحة! ثم نصحني بأن اطلب (بيض مقلي بالتوست Egg on Toast)! واستمرت هذه كوجبتي التي اخترتها لمدة طويلة!..
بعد فترة الغداء وقرب نهاية الدوام, وصلني اتصال هاتفي من (مسؤولة الأفراد) وهي تقول بأن (رقم الحماية الطبية Medical Protection Number) (الإلزامي) لم يصلها بعد! وعليه فلن يمكنها احتساب هذا اليوم ضمن راتبي التي سوف اتقاضاه!, وأنا حر اما بالمغادرة لما تبقى من هذا اليوم أو البقاء! أجبتها بأنني افضل البقاء للعمل هذا اليوم حتى وإن كان بدون أجر! وفعلاً وبعد الخامسة مساءً وبعد انتهائي من العمل ذلك اليوم عادت واتصلت بي لتخبرني بأن (رقم الحماية) قد وصلها تواً, وبذلك فسوف تحتسب أجوري اعتباراً من الغد!
في الفترة بعد الظهر استلمت أكثر من مريض, شعرت بثقة أكثر في نفسي, و تعلمت كيفية اختيار الأدوية المناسبة بإستعمال دليل للأدوية صغير الحجم (British National Formulary BNF) يمكن وضعه في جيب الصدرية, أهداه (فريدي) لي.
بعد انتهاء الدوام اصطحبني (فريدي) ليدلني على (دار الأطباء المقيمين) وهي شقة داخل مبنى على طرف حدائق المستشفى, في (عمارة سكنية) مخصصة لسكنى عوائل المنتسبين, استلمت احدى الغرف والتي ستكون اقامتي فيها أثناء خفاراتي التي ستبدأ غداً!
عدت في (حافلة) نقل الركاب الى مركز المدينة, ثم ركبت حافلة اخرى تصل قرب بيتي. بعد ذلك ببضعة ايام عرفت طريقاً يستغرق مشيه ربع ساعة يختزل لي رحلة الذهاب الى المستشفى ب(حافلة واحدة) مروراً بجامعة ليدز ثم بروضة الأطفال حيث كنت اوصل ابنتي ذات الأربعة سنوات, والتي نست تماماً اللغة الفرنسية بعد شهر واحد من دوامها في الروضة!.
مرت الأيام سهلة ومريحة بالنسبة لي, مع صاحبي الطيب الأفريقي (فريدي) ثم ابتدأت بالعمل الجاد وهو الدراسة للتحضير للجزء الأول ( Part One) من إمتحان الإختصاص في الطب الباطني ( MRCP), والذي شجعني على ذلك ان (فريدي) قد سبق و دخل محاولة وفشل فيها, وقد ابتدأ تواً في التحضير لمحاولته الثانية.
العمل في الردهة ممتع, وأخذت اتعرف على السياق الهرمي للممرضات! حيث يبدأ من الأصغر نحو الأكبر من (ممرضة مسجلة أو ممرضة منتمية or State Registered Nurse State Enrolled Nurse) ثم (ممرضة ركن Staff Nurse) والتي هي خريجة كلية التمريض, ثم (السستر Sister ) وهي (الملكة) التي لها اليد العليا في الردهة ويخضع الجميع بما فيهم الأطباء الأحداث امثالنا لسلطتها والويل لهم من عدم رضاها اوغضبها!
وقد حصلت حادثة في الردهة بعد حوالي شهرين من عملي ان احد الاطباء المقيمين الاقدمين والذي كان من (نيجيريا) قد تشاجر مع الطبيب الأعلى منه وهو (الرجسترار السريلانكي راجاك), وأخذ يشتمه بألفاظ بذيئة وهما في الردهة, وفي الصباح التالي قدمت ال(سستر) تقريرها للاختصاصي (سلطان), وإستدعاهما الدكتور (سلطان), حيث ابدى (راجاك) استعداده للعفو عن كل ما بدر من زميله, إلا أن (السستر) أصرت على أن (الطبيب النيجيري) لم يحترمها وتفوه بكلمات بذيئة امامها والتي جرحت مشاعرها!, وطلبت ان (يتم إيقافه عن العمل) (فوراً)!, وتم لها ما أرادت! ولم ترض بأن يعتذر لها الطبيب!, وحمل ذلك الطبيب أغراضه وغادر المستشفى, و لم يتمكن من الحصول على أي وظيفة لمدة سنة تقريباً الا بعد ان عفا عنه وتوسط له الدكتور (سلطان)!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب