6-3 حذار من.. التفاؤل

 6-3 حذار من.. التفاؤل

اكثر الاشخاص تقرباً مني كان الدكتور (مايك  مارتن) وهو يعمل بصفة (مسجل  أقدم Senior Registrar) للبروفيسور رايت, كما كانت  هناك شابة شديدة الشقار كما لو كانت مصابة  بالبهاق  التام, اسمها (فيرا نيومان) عرفت فيما بعد  أنها (يهودية) تعمل في القسم على بحث الدكتوراه في الطب (Medical Doctorate MD), كان هذان الاثنان لصيقين بي ويبديان الكثير من التعاطف  والود.

بعد عودتي  من امتحان البلاب ببضعة  أيام وصلتني رسالة في بريد الدرجة الاولى من (المجلس الطبي البريطاني General Medical Council GMC), تهنئني بنجاحي في امتحان المعادلة من اول محاولة لي بذلك!

في اليوم الذي استلمت رسالة (النجاح) كان عندي (اجتماعاً سريرياً) في (مركز بحوث الروماتيزم), وهناك التقيت بالطبيبة اليهودية (فيرا نيومان), وعندما اخبرتها بأنني قد نجحت في إمتحان ال(بلابPLAB), قالت لي -بالبرود الإنجليزي المعروف- وبدون اي تردد:

"نحن كنا واثقين, أنك سوف تنجح!"

  الشقة رقم (2) تقع  في واجهة الطابق الأرضي من نفس المبنى الذي نشغله, وكنت أرى الطبيب الساكن فيها أثناء خروجي ودخولي شقتي البارده, لكني كنت دوماً اراه واقفاً عند باب شقته بملابس صيفية وأحيانا ب (الفانيلة)! اقتربت منه وحييته وأخبرته عن البرودة الشديدة في شقتي, اخبرني ان شقته على العكس, اروع مافيها انها دافئة جداً! ثم اخبرني انه سينتقل منها بعد  بضعة أيام حيث قد تم تعيينه في مدينة اخرى!.. ونصحني أن أذهب فوراً لحجزشقته بإسمي!..

رغم كوني (غير مدخّن), إلا أنني وفي كل رحلاتي على (الخطوط العراقية) كنا انا وزوجتي نشتري خراطيش (كلوصات) السجائر الأجنبية ونحتفظ بها كهدايا!. فالسجائر كانت غالية جداً في  تلك البقاع بسبب الضرائب الكبيرة المفروضة عليها. أخذت خرطوش(كلوص) علب سجائر تحت ابطي وهرعت الى (مستر ستيفنز) في (قسم الإسكان) في المستشفى, إستلم مني الخرطوش الثمين (كهدية) بعد أن ذكرته بإسمي و الشقة التي أسكنها, وقام  فوراً بحجز الشقة  رقم (2) بإسمي وسرعان ما  انتقلت اليها بعد بضعة ايام, وبقيت أسكنها طوال الأعوام الخمسة  التي قضيتها في  بريطانيا!,  شهدت تلك الشقة مولد  (اربعة) من أطفالي!.  

بعد أن أرسلت الوثائق المطلوبة وورقة النجاح في امتحان البلاب,  و دفعت ألاجور المطلوبة استلمت الورقة الرسمية من (المجلس الطبي البريطاني) بكوني حصلت على (التسجيل المؤقت Temporary Registration) كطبيب في بريطانيا, حيث يسمح  لي بالعمل في المستشفيات  فقط وتحت إشراف الأطباء  الاختصاصيين. (بعد العمل لمدة أربعة سنوات وحصولي على شهادة (عضوية  كلية الأطباء الملكية MRCP ) تم منحي (التسجيل الدائم Permanent Registration) والذي يعطيني  الحق بالعمل بحرية و بدون اشراف). 

بدأت ابحث في إعلانات الوظائف الشاغرة في (المجلة الطبية البريطانية British Medical Journal BMJ) وكانت كلها في مدن  بعيدة, ولم اكن  ارغب  بالإبتعاد عن (ليدز)  بسبب  التزامي بالعقد مع الحكومة العراقية في دراسة المفاصل عند البروفيسور رايت, ثم نصحني احد جيراني من الأطباء أن أذهب الى (مستشفى سانت جيمس ) وهو أكبر مستشفى في (ليدز) وان اذهب مباشرة الى  (قسم الأفرادPersonnel) واستفسر هناك عن وظيفة (مقيم اقدم  Senior House Officer) لم يتم الإعلان عنها في المجلة الطبية البريطانية؟ جيراني نفسه حذرني من التفاؤل وأخبرني ان  فرصتي  الوحيدة هي  الحصول على وظيفة مؤقته (بديل Locum) مقيم أقدم والتي تكون عادة لمدة يومين او ثلاثة وأحياناً اسبوع,  ومن النادر جداً أن  تكون لمدة شهر!.

(النظام الطبي في بريطانيا يبدأ من أسفل السلم صعوداً, بمقيم دوري House Officer,  ثم مقيم أقدم Senior House Officer, ثم  مسجل Registrar, ثم مسجل  اقدم Senior Registrar,  ثم استشاري Consultant)

في قسم الأفراد استقبلتني الشابة  الشقراء بابتسامة بعد أن  رأت كتاب تسجيلي في المجلس الطبي البريطاني, وأخبرتني أن عندها وظيفة مؤقتة  Locum) (لمقيم اقدم) لمدة (أربعة أشهر)! في قسم (طب المسنين Geriatrics), وعندما أبديت لها رغبتي بذلك, قامت بتسجيل اسمي لحضور مقابلة (المنافسة), والتي ستكون – بالصدفة- غداً, حيث سوف تحضر هي ورئيس قسم طب المسنين! أعطتني عنوان مكان المقابلة في غرفة الإجتماعات في (جناح نيوتن كرين Newton Green Wing) من مستشفى (جابل اليرتون Chapel Allerton) التابع لمستشفى (سانت جيمسSt James)!

في المساء زرت جيراني (المصري) (أيمن) , الطبيب المقيم في الجراحة, كي يقدم لي بعض النصائح,  وأخبرته وانا في قمة السعادة انني سوف احضرغداً مقابلة لغرض الحصول على وظيفة (بديل) مقيم أقدم.  بدد صاحبي كل آمالي  وأحلامي وفرحتي عندما اخبرني  بأن لا اتفاءل كثيراً! لأنهم سوف يرفضونني بالتأكيد! لكوني لم اعمل سابقاً في بريطانيا, و ليس عندي أي كتاب  تزكية من أي طبيب بريطاني تؤيد كفاءتي في العمل, وإن فرصتي للحصول على الوظيفة هي.. صفر! لذلك يجب ان اتهيأ نفسياً للرفض, كي لا اصاب بخيبة أمل!.

(فيما بعد دخل ايمن في دائرة التطرف الديني  في افكاره, فكان يقول للمرأة البريطانية المريضة الراقدة في المستشفى في انتظار عملية جراحية انها لن  تتعافى مادامت تأكل الخنزير وتشرب الكحول!, وتم تنبيهه من قبل رؤسائه أن يتوقف عن مثل هذه الممارسات.  كما انتقدني عندما  اشتريت  سيارة  لكوني قد اشتريت  لها تأميناً (باقة) تشمل (الإضرار بالشخص الثالث والسرقة والحريق)! وعندما اخبرته ان هذا (إلزامي) وكلنا مجبرون على  شرائه, ولا يسمح لنا بقيادة سياراتنا بدونه؟ أجابني نعم! (الإضرار بالشخص  الثالث) الزامي, ولكن  ليس (ضد السرقة والحريق)! (مع انها تدخل مجاناً ضمن نفس الباقة!) واخبرني انه  عندما اشترى سيارته الجديدة ال (فوكسواكن) فأنه اصّر (كمبدء والتزام ديني) أن يشتمل عقد التأمين (الإضرار  بالشخص الثالث) فقط! وان تشطب (السرقة والحريق)!... وتشاء الصدف أن يترك سيارته في  أحد  مواقف السيارات على  جانب الطريق الرئيسي بعد اسبوع واحد من  شرائها, ليجد أن سيارته  قد شبت  فيها النار ولم يتمكن احد من اطفائها! وبالتالي خسر كل ما دفعه ثمناً لها!.. وعندما مرضت ابنتي (مروة) فقد  وجدته يطرق بابي وقد ترك عند الباب صندوقاً كاملأً من قناني عسل النحل, ونصحني ان اتوقف عن  اعطائها العلاج  والاكتفاء باعطائها العسل فقط!, الأمر الذي لم نعره أنا وزوجتيّ أية أهمية!..حسب علمي انه لم يتمكن  فيما  بعد  من الحصول على شهادة الاختصاص في الجراحة بسبب التقارير السيئة عنه -رغم براعته وشدة ذكائه-, وعاد الى (مصر) صفر اليدين)!

في الصباح ارتديت بدلة انيقة واتجهت الى العنوان الذي أعطتني إياه موظفة الأفراد في  مستشفى سانت جيمس, حيث وصلت الى قاعة الإنتظار  في (جناح  نيوتن كرين) في الوقت  المناسب.

الطبيب الاختصاصي الذي قابلني  كان أسمراً كما لو كان من أصل هندي, بدا في الأربعينات من عمره, أنيقاً, حليق اللحية والشارب ويتكلم بلهجة انكليزية صافية, وقد جلست جنبه الفتاة التي التقيتها البارحة في (قسم الأفراد) وقد وضعت امامها العديد من الملفات يبدو انها تعود الى المرشحين السبعة الجالسين في غرفة انتظار المستشفى, جميعهم كانوا من الأجانب,  حييتهم وجلست بهدوء انتظر دوري عندما ينادون اسمي! .