6-2 الدنيا… امتحانات

 6-2 الدنيا… امتحانات

كانت زوجتي راقدة  في  المستشفى ومعي إبنتي الصغيرة  في المدينة التي سكّناها  منذ بضعة أيام فقط.. وأمامي امتحان قد يستغرق ثلاثة أيام, في مدينة تبعد خمس ساعات بالسيارة! ثم هدتني حيرتي الى رفع سماعة الهاتف والاتصال ب(لندن)..

اتصلت بصديقة العائلة الدكتورة (إلهام خطاب) التي تقيم في سكن أحد  مستشفيات (لندن) وكانت تحضّر لإمتحان الاختصاص في الأمراض النفسية, واخبرتها بما حصل, وتطوعت تلك الإنسانة الرائعة, ان تأتي فوراً الى (ليدز) لتقيم في بيتي لرعاية ابنتي وزوجتي أثناء حضوري الإمتحان والذي قد يستغرق ثلاثة أيام.

الدكتورة (الهام) هي من نفس  دورتي (لكن خريجة طب الموصل), عملنا  معاً أثناء إقامتي الدورية  في  مدينة الطب وكانت نعم الزميلة,  كما صادف أن عملت معها زوجتي طبيبة الأسنان أثناء خدمتها في الأرياف في  قضاء (بيجي), لذا فهي صديقة مشتركة لي ولزوجتي..

بعد  وصول  الدكتورة (الهام)  استقبلتها وسلمتها ابنتي وغادرت بالقطار الى (كلاسكو) حيث سكنت في أحد الفنادق و كان يعج  بالشباب الهنود الذين قدموا لأداء نفس الإمتحان..

صباح يوم الامتحان وفي المبنى القديم ل  (كلية الأطباء الملكية في كلاسكوRoyal  College of Physicians of Glasgow)  كانت السكرتيرة الشابة تنادي على (أرقام) مشاركتنا بالامتحان بلهجة اسكتلندية ثقيلة جداً لا تشبه اللغة الانجليزية التي عرفناها!,  تمكنت بصعوبة ان استوعب الأرقام التي تنادي بها! وعندما نادت على رقمي اقتربت منها ووجدتني اهمس بأذنها أنني قد جئت الإمتحان  بعد أن تركت زوجتي راقدة في المستشفى في (ليدز)!.

  بدأ الإمتحان الصباحي التحريري الذي استغرق أربع ساعات, نصفها لغة انجليزية يراعى فيها أن تتمكن من مخاطبة  (ابن  الشارع) والمريض الإنجليزي بلهجاته المختلفة, ونصفها الآخر المعلومات الطبية في (الطب الباطني والجراحة والنسائية والأطفال والفرعيات مثل الجلدية وغيرها)!. وكانت السكرتيرة قد اخبرتنا بأن علينا معاودة الحضور الى المركز الامتحاني بعد  استراحة ساعتين للغداء, وذلك لمعرفة موعد الامتحان العملي و (الشفوي) في اليومين القادمين!.

أثناء وجودي في المركز الامتحاني التقيت و صديقين عزيزين جداً يبادلاني المحبة والمودة بكل اخلاص: (حسام دابس) و (قحطان حيدر). كليهما ابناء دورتي في طب بغداد و صديقان عزيزان جداً. فهمت ان (حسام) كان يسكن في منطقة قريبة من (برمنجهام) حيث كان يعمل كطبيب متطوع (بدون اجور) في أحد المستشفيات وكان قد حصل على (وعد) بعد أن رأوا براعته وتفانيه,  بأن يمنحوه وظيفة بأجور كاملة حالما يحصل على النجاح في معادلة الشهادة, اي امتحان (البلاب). أما (قحطان) فكان مقيماً في (الكويت) حيث يعمل في طب الأطفال, وجاء من الكويت بشكل خاص لأداء امتحان معادلة الشهادة, وربما تكون له مشاريع البقاء فيما بعد  في بريطانيا.

بعد اداء الامتحان التحريري, خرجنا للغداء نحن الثلاثة انا و(حسام دابس) و(قحطان حيدر), وقع اختيارنا على أحد المطاعم (الهندية) القريبة من المركز الامتحاني.

فور جلوسنا قال (حسام) ل (قحطان):

"لك (قحطان) انت بس (الزنكين) بيناتنه, إنت تشتغل ب (الكويت) وإحنه اثنينا كاعدين بلا شغل وما عدنه راتب, انت تدفع فلوس الغدا"!

  واستجاب قحطان ودفع عنا فاتورة طعام الغداء الهندي. وكنت مستمتعاً بمسرحية رؤية (حسام دابس) وهو (يعذّب) النادل الهندي بأن يعيده الى المطبخ ثلاث أو أربع مرات! كلما يجلب له صحن (دجاج تندوري) ويتذوقه يقول له إن بهاراته حارة  جداً! و الهندي المسكين يذهب ليعود بصحن اخر, فيخبره (حسام) ان هذا حار ايضاً! ويعيده ليجلب له  اقلّ منه حرارةً!.

(يعني ماذا يتوقع (حسام) عندما يأكل في  مطعم هندي؟ ويطلب دجاج  (تندوري)؟ أن يجده مطبوخاً بالملح والهيل فقط)؟؟.. وضحكت كثيراً ف(حسام) كان لايزال نفس الشخص الذي عرفته منذ افترقنا في  الخدمة العسكرية, (التلقائي, البسيط, الحبيب, الساخر)!  ولم ألتق به بعد ذلك اليوم!.

بعد الغداء رجعنا الى المركز الإمتحاني كي يعرف كل منّا متى موعد إجراء الجزء الثاني من الامتحان وهو (السريري والشفوي  Clinical and Oral) في خلال اليومين القادمين. وكنت ادعو الله وأصلي في قلبي بكل جوارحي أن يكون موعد امتحاني غداً كي ارجع بسرعة واكون مع ابنتي الصغيرة ومع زوجتي الحبيبة التي تركتها راقدة في المستشفى!.

ما أن جاءت السكرتيرة السكوتلاندية ذات اللهجة الثقيلة, حتى نادت بأعلى صوتها على مجموعتنا الغفيرة من الأطباء (العرب والهنود والأوروبيين الشرقيين) القادمين للإمتحان:

" من منكم الذي اخبرني انه ترك زوجته راقدة في المستشفى؟"

كنت الوحيد الذي اقترب منها وأجابها "أنا"

قالت "سيكون امتحانك اليوم! وستكون أول طالب في الامتحان السريري والشفهي وسوف تبدأ بعد ربع ساعة!"

يا إلهي كم انت رحيم!

       لم اكن ادرك ان الشابة الاسكتلندية قد أخذت الخبر الذي همسته في اذنها بمحمل الجد، وربما توسطت لي كي اكون اول من يمتحنون!

مر الامتحان السريري والشفوي على أفضل وجه وكما تمنيته, (لا زلت اذكر كل اسئلتهم وأجوبتي)!. وأظن أن أدائي قد  أعجب الأساتذة الممتحنين, وبعد نصف ساعة كنت مهرولاً في طريقي الى الفندق احمل حقيبتي وأسرع الى محطة القطار لأجدني في نفس الليلة جنب زوجتي في المستشفى.

كان الخبر الرائع الآخر أنهم سمحوا لها بالخروج من المستشفى!وصحتها جيدة وان الجنين الذي تحمله بحالة جيدة.

ولن انس ما حييت ذلك الموقف الإنساني الرائع للدكتورة (الهام خطاب) ورعايتها لابنتي أثناء غياب زوجتي وأدائي الامتحان جزاها الله  عنا  كل  خير, حيث وبمجرد عودة زوجتي من المستشفى فإنها غادرت مسرعة عائدة الى (لندن) لأنها كانت مشغولة هي الاخرى بامتحاناتها ولم تشأ أن تخبرني بذلك قبلاً!.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب