6-1 شكراً للص... لسرقته حقيبتي

 

6-1 شكراً للص... لسرقته حقيبتي

 

في 28/ 12/ 1980 كنا في المكتب الفخم ل ( الخطوط الجوية العراقية) في شارع (الشانزيليزيه) قرب (قوس النصر). 

في انتظار إصدار التذاكر, رحلة مفردة (باريس-لندن), جلست أفكر في زوجتي والسر الذي احمله في طيات قلبي!..سراً كنت قد أخفيته عن  زوجتي منذ مجيئي لمقابلة بروفيسور (رايت) والحصول على القبول في  دراسة المفاصل.. 

فعندما جئت ليدز قبل ثلاثة أشهر, ارعبتني الإعلانات في كل زاوية من زوايا محطة القطار, والشوارع و المستشفى تحتوي العبارات التالية (سفاح يوركشاير ما زال طليقاً.. ايتها الموظفات..  ايتها الممرضات.. لا تغادرن في الليل الا ان كنتن في مجموعة,  لا تمشين في الأماكن المظلمة.. إن  كنت لوحدك وانتهت خفارتك ليلاً فإتصلي بالشرطة أو بأمن المستشفى  الذي سيقوم  بتوصيلك  الى بيتك!..

عرفت من الصحف في وقتها ان السفاح الطليق قد قتل  13 ثلاثة عشر امرأة بطريقة وحشية باستعمال مطرقة او مفك (درنفيس), وكان  قد ابتدأ مهنته كسفاح, باستدراج  المومسات وقتلهن, لكنه تطور فيما بعد الى قتل ممرضات المستشفيات  والى قتل الفتيات من كل الأعمار والمهن!.. شرطة (يوركشاير)  قد أنفقت لحد ذلك  الوقت أكثر من (خمسة ملايين) باوند استرليني في البحث عنه دون جدوى!.. أبقيت الخبر سراً ولم تعرف به  زوجتي…

(يوركشاير مقاطعة كبيرة شمال انجلترا, وتعتبر (ليدز) عاصمة (غرب يوركشاير) وتشتهر بجمال طبيعتها الهضبية, وغاباتها, وقد اشتهرت منها الكاتبة (اميلي برونتي) في روايتها (مرتفعات ويذرنج) بينما اشتهرت شقيقتها (شارلوت برونتي) بروايتها (جين اير)).

 أصدر المكتب لنا نحن الثلاثة التذاكر بموجب (الامر الوزاري) بإجازتي الدراسية الجديدة، ركبت مع زوجتي وطفلتي الطائرة من (باريس) الى مطار (هيثرو) في (لندن) ( محملاً بست حقائب كبيرة تحتوي ملابسنا مع الكثير من الحاجيات البيتية التي حملناها معنا الى حيث المجهول, مكاننا الجديد.. (ليدزLeeds) في بريطانيا!. ومعها حقيبة (دبلوماسية)..

وصلنا الى محطة قطار (كنغز كروسKings Cross) حيث انتظرنا بضع ساعات حتى انطلاق القطار الى مدينة (شفيلد), لأن زوجتي قد قامت بالتنسيق مع صديقتها الدكتورة المرحومة (شذى) زوجة ابن عمنا استاذ طب الأسنان الدكتور(عصام عبدالعزيز), حيث  سنسكن عندهم لبضعة أيام لحين ترتيب سكن في (ليدز) والتي تبعد حوالي ستين كيلومتراً عن (شفيلد),  زوجتي كانت حاملاً في شهرها الثالث, وتجر معها ابنتي ذات الاربع سنوات بينما كنت اتصارع مع الحقائب الثلاثة والحقيبة الدبلوماسية! 

وما ان صعدنا القطار, حتى اكتشفت اختفاء الحقيبة الدبلوماسية, ويبدو أنها قد سرقها لص شاطر دون ان انتبه!, بحثت قليلاً في ذاكرتي عما تحتويه الحقيبة من أوراق و(محاضرات فرنسا لسنتين) وكتاب (التوصية والشكر) الذي اتحفني به البروفيسور (لوسيان سيمون),  وكتب خلاصة خدمة ونسخ من شهاداتي.. الخ, ثم نظرت الى الحقائب الستة الكبيرة التي جلبناها معنا من فرنسا, وفي داخلي كان هناك بعض السرور, وبعض الشكر للسارق!,  لأن أحمالي الثقيلة (قد نقصت واحدة) هي تلك (الحقيبة الدبلوماسية)..غير مأسوف عليها!

قام الدكتور (عصام عبد العزيز) -كما عهدته دوماً-  بواجب الضيافة على أتم وجه, حيث سكنا في غرف مع أولاده, وكان نصيبي غرفة ابنه ذي السنة ونصف (علي) الذي عشقته وعشقني من النظرة الأولى! وصار اسمي (أمّو ناني)!

أخبرتنا عائلة د (عصام) ان لافائدة من الذهاب الى (ليدز) قبل السادس من كانون الثاني من السنة الجديدة, لأن البلد كله يتمتع بعطلة أعياد الميلاد ورأس السنة, وهكذا بقينا في (شفيلد) يتناوب اصدقاء د (عصام) واصدقائي على دعوتنا للطعام.. ففي (شفيلد)  كان يقيم ابناء دورتي المرحوم (نبيل محمد صالح باجلان) وزوجته الدكتورة (افتخارالعريبي) اللذين سارعا بدعوتنا للطعام أكثر من مرة.

في السادس من كانون الثاني 1981 كنت انزل من القطار في  ليدز.. وكان الخبر السعيد ان السفاح قد ألقي القبض عليه  قبل يومين!.. كنت ارى الناس  ولا  شأن لهم يتحدثون به, الا السفاح وكم السعادة  التي يشعرون  بها انه قد  القي القبض عليه اخيراً.. ( الحقيقة انه لم يقبض عليه كسفاح وانما هو من وشى بنفسه للشرطة!)..

دخلت بوابة (كلية الطب) جامعة (ليدز), سائلاً عن البروفيسور (فيرنا رايت) في قسم المفاصل! اخبروني ان اذهب الى (مركز بحوث الروماتيزم Rheumatism Research Center) في 36 شارع كلارندن القريب (36 Clarendon Road), لحسن حظي وجدت البروفيسور في مكتبه هناك, حيث أدخلتني سكرتيرته, استقبلني وسألني أول ما سأل عن تحديد مكان سكني الجديد؟ 

أجبت: "لا أعرف! ربما يجب ان ابحث عن شقة للإيجار" 

ثم سألني "هل عندك حساب مصرفي في بريطانيا"؟ 

أجبت: "كلا!" .. 

اتصل بسكرتيرته وطلب منها تزويدي بثلاثة كتب (تأييد) بكوني طالب دراسات عليا في أمراض المفاصل والتأهيل في جامعة ليدز., وطلب من سكرتيرته الإتصال بنفسها ب (قسم الإسكانِAccomodation office ) في مستشفى (جنرال انفرمريLeeds General Infirmary LGI). أخبرتني السكرتيرة أن بإمكاني الذهاب الى هناك مشياً, حيث ان المستشفى على مبعدة عشر دقائق مشياً على الأقدام!..

السيد (ستيفنز) في (قسم الإسكان) نظر الى الكتاب الذي وصله من البروفيسور الكبير, وفوراً أخرج من خزانته واحدة من البطاقات العديدة وقام بالتأشير عليها ثم زودني بورقة صغيرة, لتسليمها الى السيدة (هيجنزMrs Higgins) التي تسكن في شارع (كلارندن), وهي المسؤولة عن تسليم الشقق وتأثيثها! 

قرعت جرس مسكن السيدة (هيجنز ) الخمسينية البدينة, التي استقبلتني بلهجة (اسكتلندية) قوية, كان يتبعها كلب (بالحجم الكبير) تبدو عليه الشراسة وقلة الأدب!, توجست منه خيفة, سألتني:

 "هل معك سيارة"

 اجبت "لا"!

 قالت "لا بأس.. هيا اتبعني".

  مشت برشاقة فتاة في عمر العشرين!.  بعد خمس دقائق وصلنا الى بناية منزوية في (19سبرنج فيلد ماونت 19 Springfield Mount), تحتوي على اربع شقق, صعدت معي سلماً ضيقاً الى الشقة المؤثثة بالكامل,  المرقمة (4) , تفحصت (مسز هيجنز), الشقة وبتفاصيل اثاثها بدقة,  وتأكدت انه كامل, ثم اعطتني المفاتيح وودعتني ومضت!..

بعد الظهر كنت قد رجعت الى (شفيلد) وانا في قمة سعادتي, فقد حلت إحدى المشاكل التي تواجهني وهي مشكلة السكن, وبيدي مفاتيح الشقة التي سأسكنها مع عائلتي الصغيرة!. في صباح اليوم التالي كان المرحوم (نبيل باجلان) يسوق سيارة واسعة وضعنا فيها حقائبنا وأوصلنا الى شقتنا الجديدة. حمل معي الحقائب وتفحص الشقة, قال انها ينقصها فقط جهاز (التلفاز), وإنه إن شاء الله سوف يأتي لي ب (تلفازاً ملوناً) غداً عصراً!..وفعلاً صدقني وعده, وأصّر على أن التلفاز هدية منه. وكانت تلك أول مرة امتلك فيها تلفازاً (بالألوان)!!.

عندما راجعت اقرب مصرف (نات ويست NatWest), تأكد لي أنهم لم يكونوا سيفتحون لي حساباً الا بعد ان قدمت لهم كتاب (التأييد والتزكية) من البروفيسور رايت, وهكذا فتحوا لي حساباً مشتركاً مع زوجتي. وفي اليوم التالي راجعت (مركز الشرطة القريب, حيث ختموا جوازي وجواز زوجتي, بإقامة لمدة سنة, اعتماداً على كتاب (البروفيسور رايت)!.

كان تفكيري منشغلاً طوال الوقت بإمتحان ال(بلابPLAB) وهو امتحان معادلة شهادات الطب من دول العالم بالشهادة البريطانية, وكنت قد سجلت على اقرب امتحان والذي سيكون في الاسبوع الثاني من شهر شباط, أي بعد أربعة أسابيع فقط و دفعت المبلغ المطلوب كاملاً –عندما كنت في فرنسا- للتسجيل في الامتحان والذي سيكون في مدينة (جلاسكو Glasgow) في اسكتلندا.

كانت هناك مشكلة كبيرة في شقتي التي سكنتها, تلك هي توقف أجهزة التدفئة وهي عبارة عن مشعات يدخل فيها الماء المغلي القادم عبر أنابيب تحت الأرض من (مستشفى الولادة Maternity Hospital) المجاور لسكني, ورغم المحاولات المتكررة لقسم الصيانة في المستشفى ومحاولتهم لإخراج البخار المحصور في المشعات, الا انها ابت ان تعمل وبقيت شقتي باردة جداً في ذلك الشتاء القارص ودرجة حرارة الجو تنقص عن الصفر المئوي!, وقضينا أيامنا ونحن نتدثر بالأغطية السميكة, وقد وضعنا مدافئ كهربائية في الصالة وغرفتي النوم, الا ان الشقة بقيت باردة بشكل مزعج!.

قبل يومين من  المغادرة بالقطار الى (جلاسكو) لحضور امتحان المعادلة ال (بلاب), حصل امر مريع لعائلتي! زوجتي الحامل قد اصيبت فجأة بوعكة شديدة واضطررت لأخذها إلى مستشفى الولادة المجاور لسكننا, حيث أمروا بإبقائها في المستشفى تحت المشاهدة ونبّهوني أن ذلك قد يستغرق بضعة أيام!, كانت تلك كالصاعقة بالنسبة لي!, ف ابنتي ذات السنوات الاربع بقيت معي في الشقة, وامتحاني الذي يعقد مرة كل ستة أشهر, سيكون بعد يومين فقط ولا وسيلة لتأجيله!.


تعليقات

  1. لا عمو ما معقوله تعوفنه هيچ معلّقين تره كلّش suspense و اني اقره المدونه تالي الليل ...هاها...مع الحب و اتشوق اشوف شصار...ابنتك المحبه صباوي ام سامي

    ردحذف
    الردود
    1. حبيبتي ام سامي الوردة.. لم ار تعليقك الا اليوم.. كم انا سعيد ان كتاباتي تعجبك.. مع كل الحب لك وللصغار.. عمو سامي الملقب بأبو السوم!

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب