5-4 كيف تسرق مصرفاً!

5-4 كيف تسرق مصرفاً!    

  بعد حادثة المناقشة الحادة والشجار(الثقافي), صار الأفريقي (مانويل) صديقي الثاني بسبب  ثقافته العالية.. وصرنا نتناول طعام غدائنا نحن الثلاثة أنا و(مورا) و(مانويل) يومياً سوية في (مطعم الطلبة فيربوا Restau U Vert Bois) القريب, وكنا ندخل دوماً بأحاديث شيقة وحوارات فكرية ناضجة, محاولين ان تكون جميع نقاشاتنا  باللغة الفرنسية, ولكن النفس (الأمارة بالسوء) كانت تغرينا احياناً بالتحدث باللغة  التي نحسنها.. الإنكليزية!.

       في (كورس اللغة العلمية) كانت هناك مدرسّة شابة جميلة لا يمكن ان انساها, فبعكس زملائها الذين كانوا يستخفون ويستهزئون من العرب والإسلام بشكل مباشر وغير مباشر, تلك المدرسة كانت من أشد المدافعات عن (تعدد الزوجات عند المسلمين)! وكانت تخرج عن نصوص الدرس لتحدثنا عن إيمانها المطلق أن (تعدد الزوجات) هو الحل الأمثل للحفاظ  على تماسك المجتمع من التفكك وعلى نظام الاسرة من الانهيار! اعجبت كثيراً بجرأة تلك المدرسة الشابة الجميلة والتي كانت تتلقى هجوماً واعتراضات شديدة على طروحاتها تلك, من بقية زملائي الطلاب!

       بعد حوالي الشهر من دورة (اللغة العلمية) طلب المدرسون من كل واحد منا أن يعّد محاضرة تعريف عن بلده ويقوم بتقديمها في الصف أمام زملائه. وقمت بتحضير الكثير من المعلومات عن العراق وكنت مستعداً لذلك, لأنني قبلها وعند ذهابي في العطلة الصيفية الى بغداد, جلبت معي الكثير من الشرائح الخاصة ببغداد (سلايدات ملونة), لذا فقد اعددت محاضرة جيدة -في نظري- عن العراق,  وقمت بعرض كل ما يمكن الحديث عنه عن محاسن بلدي وجمالها وعمق تاريخها.

        لكن عندما قام صديقي ال (موّرا) بعرض محاضرته عن بلده (كوستا ريكا), لاحظت إهتماماً غير طبيعي بها! فقد أعلن عنها بشكل واسع النطاق, بأنها ستقّدم في (قاعة الاحتفالات الرئيسية) من جامعة (العلوم والتكنولوجيا)! وحضرها (رئيس الجامعة) و(عميد كلية العلوم) وجميع الأساتذة وجمهور غفير من الناس! وكان هناك تكريماً لصديقي المحاضر (مورا).! بدا الوضع مريباً! وكان هناك تصفيقاً قبل وأثناء وبعد المحاضرة,  وتهانٍ وترحيب من رئيس الجامعة ومن العميد!

        بقيت أتساءل -مع نفسي- عن سر ذلك الاهتمام الشديد الذي حصل لمحاضرته,إذ كانت العادة لنا جميعاُ -الطلبة العشرون في الصف-  إن المحاضرة تقّدم في إطار غير رسمي وفي نفس غرفة الصف, ولا يحضرها أحد عدانا نحن الطلاب العشرين والمدرس المتثائب, شبه النائم!. 

        في أحد الأيام وفي أثناء غدائنا سوية في المطعم الطلابي باح لي باشّد اسراره ولا اظن انه كان يجب عليه أن يبوح بها!, حيث اخبرني انه عضو متقدم في (المحفل الماسوني) في (كوستا ريكا)!. صعقت للخبر واخذت بدوري احكي له عن العداء الدائم بيننا نحن العرب وبين الماسونية, والتي هي محرمة في بلدي! . وكانت تلك أول مرة يكتشف بها ان هناك عداوة بين الماسونية وبيننا نحن العرب!, وكنت أرى القلق والإحباط على وجهه وهو المؤيد المستمر للإسلام وللعرب!.

        وعندها فهمت السر في الاهتمام البالغ الذي أحاط الجميع بمحاضرة صديقي!: (كن ماسونياً تنل الاهتمام)!. كانت هذه هي المرة الاولى التي التقي فيها وجهاً لوجه بأحد الماسونيين. ومع اعتذار صديقي عن جهله بعداء العرب للماسونية, فقد بقي الود الشديد بيننا فقد كنا لا نفترق!.

        في الأسابيع التي تلت ذلك الإعتراف الخطير من صديقي ال (مورا), كنت التقي يومياً به و بصديقنا الثالث (مانويل), وكان حديثنا في كثير من الأحيان يتحول الى نكات وضحك وسخرية من الدروس التي كانوا يعطونا اياها في كورس (اللغة العلمية).. صار عندنا خزين كبير من النكات والطرائف عن دروسنا المملة!.. و اثناء احدى جلسات الغداء في مطعم الطلبة, طرأت على بالي فكرة! لماذا لا نحوّل تلك النكات الى مسرحية؟! نعم!! أن نقوم بكتابة سيناريو مسرحية ساخرة من دروسنا تلك! وإتفقنا أن يكون إسمها (كيف تسرق مصرفاً!) وافقني زميلّي بعد تردد.. ثم بدأنا بجد ونشاط في كتابة نص المسرحية, وبعدها بدأنا بالتدريب الفعلي (البروفات) في غرفة (مانويل) الأفريقي في (دار الطلاب ) على تمثيل تلك المسرحية!.. 

         بعد ان اكملنا التدريبات وجدنا أن الوقت الذي تستغرقه تلك (المسرحية) والتي كانت في النهاية اقرب ان تكون (سكتش او فاصل فكاهي) لن تستغرق أكثر من ربع ساعة!, وهي مدة لن تكفي لعرضها على الملأ.!. عرفنا ان هناك زميل لنا في دروس اللغة يعزف بشكل جيد على ال (كيتار), كما وجدنا أن اربعة من زميلاتنا في الصف قد قدمن من جزيرة (بالي) في (اندونيسيا), وهن متدربات بشكل جيد على (رقص) تلك الجزيرة وقد جلبن معهن ملابس الرقص الزاهية بما في ذلك (براقع الرأس) والحلي الملونة.. الخ.. 

        قمت بتوسيع دائرة التحضير للحفلة كي تستغرق امسية كاملة بما فيها (سندويتشات ومشروبات غازية) تعهد بالقيام بها أحد الزملاء العراقيين الصيادلة, وفي النهاية صار عندنا برنامج كامل لكي نحيي (حفلة وداعFête d'adieu) ل(درس اللغة العلمية) في اليومين الأخيرين من تلك الدروس.. قمنا بتوجيه الدعوة لمدرسينا ورئيس الجامعة وبقية الهيئة التدريسية وجميع الطلبة الأجانب الدارسين معنا!.

       في يوم الحفلة وقفت على خشبة المسرح مع (مورا) و(مانويل) وقمنا بتمثيل تلك المسرحية التي بذلنا جهداً كبيراً في كتابتها والتحضير لها. لاقت نجاحاً ساحقاً!. كان جمهور الطلبة والمدرسين يكادون يقعون على الأرض من شدة الضحك, للسخرية التي عبرنا عنه بشكل مكّبر ومضّخم من تلك الدروس المملة!!. ثم كان بقية البرنامج الفني من موسيقى ورقص وعشاء ومشروبات.. كنت اشعر بقمة السعادة فقد صنعنا أنا وزميلاي العبقريان.. شيئاً من لاشيء!.

       اليوم الذي تلى الحفلة كان اليوم الأخير من دوامنا.. رجانا مدرس اللغة بطلب شخصي من رئيس الجامعة ,  ان نعيد تمثيل تلك المسرحية في احدى الغرف الجانبية والتي جهزها بكاميرا (فديو) كانت تعتبر آخر صيحات التكنولوجيا في (عام 1979) حيث كانت تعتبر من الأجهزة النادرة والثمينة جداً!..

      مضى على تسجيل تلك المسرحية واحد واربعين عاماً.. لست ادري ان كانت الجامعة قد احتفظت بشريط الفيديو او اتلفته او حولته الى تخزين رقمي.. انا مستعد لدفع (بضع مليون من الدنانير) للحصول على نسخة من ذلك الفيديو القصير الذي لا يستغرق أكثر من خمسة عشر دقيقة!.. و أشعر انني سوف استغرق بالبكاء إذا شاهدته!!

          كانت سنتا الدراسة في (فرنسا) من اجمل السنين في حياتي! فانا كنت طالب تنطبق على جميع مواصفات الطلبة, فحتى بعد أن التحقت بي زوجتي وابنتي خلال ثلاثة أشهر من وصولي, فإننا كنا نعتبر طلاباً. 

        الطلبة في فرنسا مدللين ولهم الكثير جداً من الحقوق. نأكل وجباتنا في المطاعم الطلابية التي تعد تشكيلة من الطعام الفرنسي الشهير بلذته, حيث من حقك  تناول أربعة او خمسة أصناف (في الوجبة الواحدة) بسعر أقرب من المجّان!, لكونه مدعوماً من قبل الحكومة الفرنسية. نسكن في شقة رائعة شبه مجاناً تماماً, تمنحنا الحكومة الفرنسية مبالغ (معونة اجتماعية) لكوننا عندنا طفلة صغيرة. وكأّي طلاب لدينا الكثير من العطل الصيفية والربيعية للاستمتاع بها!. كنت استمتع بقيادة سيارتي الصغيرة (الستروين دو شفو2CV) (والتي تعني الحصانين)  لقضاء أجمل الأيام مع عائلتي في (الأندلس) في جنوب اسبانيا او في (امارة اندورا) الصغيرة (المستقلة) في جبال الباسك, أو في (مونت كارلو) في إمارة (موناكو) او في (فينيسيا) في ايطاليا او (رييكا) في جنوب يوغسلافيا.

         كلية الطب في (مونبلييه) هي أقدم كلية طب في أوروبا, تم بناؤها في القرن الحادي عشر فهي تشبه القلعة الاثرية تماماً! يحيط بها خندق  مائي عميق (قد جف ماؤه), والدخول الى العمادة والى المكتبة يتم عبر جسر أثري خشبي معلّق كان يرفع أيام الحرب الدينية بين (الكاثوليك والبروتستانت) في القرون الوسطى!. المدينة كلها أثرية وكانت تحت حكم المسلمين الأندلسيين في فترة من تاريخها, وكلية الطب نفسها وباعتراف أساتذتها كانت تدرس فيها كتب (الرازي) و(ابن سينا) و(أبا القاسم الزهراوي) الى مدة ليست بالبعيدة, وهناك تمثال لرجل يرتدي العمامة والعباءة على بوابة الكلية يسمونه (لابيروني)!.

  في شهر آب 1979 سألت عن رئيس قسم المفاصل والتأهيل الطبي, وكان مقره في مستشفى (سانت ايلوا Saint Eloi), كان اسمه البروفيسور (لوسيان سيمون) وهو يهودي شهير, ومؤلف الكتاب الرسمي لدراسة أمراض المفاصل بالفرنسية  (Abrege de Rheumatologie), أعطيت السكرتيرة كتاب القبول المبدئي الذي  استلمته من (مسيو ماتيو) في بغداد, فحددت لي  موعداً لمقابلة البروفيسور خلال أسبوع!.

في يوم المقابلة جئت متأنقاً وقد ارتديت بدلة سوداء, وبعد دقائق أدخلتني السكرتيرة على رجل في الستين من عمره, عرفت انه البروفيسور الشهير,  وقد جلس بجنبه رجل طويل في الاربعين من عمره عرفني عليه على أنه مساعده الدكتور (ساني), حدثت البروفيسور بالفرنسية المبسطة و(المتعثرة) عن تأريخي الطبي وعن بلدي وسبب مجيئي, ثم سألني بضع  اسئلة وبعدها اخذ مساعده (ساني) بالتحدث معي (بإنكليزية مكسّرة و بلهجة فرنسية قوية), وعندما أجبته بالانجليزية يبدو انها اثارت اعجابهم, فربما كانوا يبحثون عمن يتحدث الانكليزية بطلاقة لمساعدتهم في كتابة بحوثهم أو تنقيحها او ترجمتها.. لا ادري ما السبب ف (الهداية من الله)!, ولكن البروفيسور (سيمون) وافق على الفور على أن ابدأ بدراستي عنده, وامر سكرتيرته تزويدي بكتاب يتضمن القبول النهائي في دراسة الاختصاص  في التأهيل الطبي Réadaptation et rééducation fonctionnelle   ومدتها ثلاث سنوات !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب