5-3 جدتّي الفرنسية.. (ميمي)

 5-3 جدتّي الفرنسية.. (ميمي)

تعلمت الكثير من مفردات الفرنسية من ابنتي الصغيرة ذات العامين وقد اتقنتها من الحضانة بلفظ سليم افضل من نطقي بالتأكيد, حين كنا في مطار باريس كنا في طريقنا لزيارة بغداد, كنت اجد الفرنسيين يطيرون فرحاً وهم يسمعون ابنتي السمراء العربية تخاطبهم ب (لهجة أهل الجنوب accent du midi) المحببة  الى نفوسهم! وكانوا يغدقون عليها بأنواع الحلوى والعلكة بمجرد  سماعهم لكلماتها!..

    أثناء عودتي بحافلة النقل العام كانت ابنتي (مروة) ذات السنتين جالسة جنبي وتتحدث معي بما تعلمته من مفردات فرنسية في (الحضانة).وفي احدى المرات دخلت سيدة فرنسية على الخط.. كان عمرها يتجاوز السبعين عاماً اخرجت حلوى من حقيبتها واخذت تتبادل الحوار مع ابنتي! ثم بعض حديث المجاملة معي.. استمر الحوار بيننا لأكثر من ربع ساعة وكنت فخوراً بنفسي وبقدراتي على التحدث  بالفرنسية, حتى وجدت احدهم ينغزني من كتفي وهو يقول باللغة العربية وبلهجة خليجية: 

"الأخ.. عراقي؟"

استدرت أنظر إليه.. كان شاباً اسمراً في نفس عمري..

أجبته : "نعم.. كيف عرفت اني عراقي؟"

أجابته التي صدمتني كانت:

 "لاني سمعتك تتحدث الفرنسية.. بلهجة عراقية!!"

بكلماته تلك حطم كل كبريائي! لأنني كنت أتحدث مع جارتي وكلي تصّور أن لهجتي  لا تختلف عن تلك التي ل (رئيس جمهورية فرنسا) آنذاك (فاليري جسكار ديستان)!!

عرفت فيما بعد إن هذا الشخص جاء (مونبلييه) في زيارة لبعض أقربائه من الطلبة, للسياحة فقط. 

عند وصولي  الى موقف الحافلة التي انزل منها وجدت (العجوز) تنزل معي وابنتي وهي تقول "انا ايضاً اسكن في هذا الحي"

بقينا واقفين لبعض الوقت نتبادل الحديث, ثم وجدتني أملك الشجاعة بأن ادعوها لمصاحبتنا الى شقتي حيث تنتظرني زوجتي, لتناول فنجان قهوة معنا.  

كانت تلك بداية لصداقة مع تلك العجوز استمرت طيلة فترة بقائي وعائلتي في فرنسا!.. العجوز اصرت ان نناديها ب(مِمِي) والتي تعني باللهجة العراقية (بيبي) أي (جدتي)! صارت تزورنا مرتين أو اكثر كل اسبوع, خصوصاً أثناء نهاية الأسبوع.. تجلس معنا لساعات.. تتناول معنا القهوة او المعجنات وتحدثنا بشتى القصص عن ذكريات حياتها في الجزائر, حيث كان أهلها يملكون مطعماً هناك وغادروا الجزائر بعد استقلالها, فهي اذاً من (الأقدام السوداء Pieds Noirs) وهو اللقب الذي أطلقه الفرنسيون على اهلهم الذين ولدوا وعاشوا في الجزائر, بعضهم هو الجيل الرابع من الأبناء. بنوا مدناً على الطراز الفرنسي, تعايشوا مع العرب و تطبعّوا ببعض طباع أهلها, وتعرفوا على عادات وتقاليد المسلمين وتعلموا الكثير من المفردات العربية!. في إحدى زيارات (ميمي) لنا وفي عيد ميلاد ابنتي (مروة) أهدت لمروة قطعة ذهب على شكل كف اليد, وشرحت لنا انهم يسمونه (كف فاطمة) وهي تريد من مروة ان تحمله دوماً معها لأنه يحمي من يحمله من العين الشريرة! معتقد طالما سمعت به بطفولتي عن ما كنا نعتقد بكونه (كف العباس,  يقطع الرقبة و الراس)!.

أدخلت (ميمي)  المستشفى في أحدى المرات عندما اصيبت بوعكة كادت تودي بحياتها نجت منها بأعجوبة وكنت ازورها يومياً حاملاً بعض الزهور, واقوم بتوصية زملاء اطباء ببذل العناية لها.. تعلمت منها زوجتي الكثير من مفردات التخاطب بالفرنسية, فزوجتي رغم دراستها في معهد اللغة ثم دراستها الإختصاص في طب الأسنان, إلا أنها كانت اكثر خجلاً مني عند التحاور باللغة الفرنسية,  وتتخوف دوماً من أخطائها اللغوية فتفضل الصمت والاكتفاء بإيماءات برأسها او التأمين على ما تسمعه بدون تعليق منها!. لكني كنت سعيداً عندما وجدتها تتحدث مع (ميمي) بدون تردد.

في يوم عيد ميلاد (ميمي) وهي الصورة المرفقة مع ابنتي (مروة), كنا قد فاجأناها بإعداد احتفالية بسيطة في شقتنا.. بكت كثيراً تلك السيدة الطيبة لإحتفالنا بها.. بدموع غزيرة! وقالت ان بنتيها قد نسيتا عيد ميلادها وها نحن نحتفل بها!

دأبت (ميمي) على زيارتنا مرة او مرتين اسبوعياً, تأتينا دوماً حاملة نوع من المعجنات التي تعدها بنفسها, وكانت المفضلة عندي هي (كعكة التفاحtarte aux pommes) المغطاة بطبقة مزججة من السكر الناعم!, كانت آية في الروعة!

في أحد أيام الأحد وبعد أن صارت عندي سيارة, اخذت (ميمي) الى حيث تعمل بنتاها في إحدى المدن الصغيرة على مبعدة عشرين كيلومتراً من (مونبلييه), كانتا تملكان مطعماً وتسكنان هناك,  وكانت مفاجأة لهما ان تريا امهما وقد جاء بها هذا الشخص العربي المسلم, بعد سنوات من  الجفاء!

في  بداية الصيف قررت وزوجتي شراء سيارة خاصة, وبدأت ابحث عن سيارة فرنسية ستروين كانت شائعة ومرغوبة جداً من قبل الفرنسيين ذوي الدخل المحدود وهي (ستروين ديان 6), وهي سيارة من (اسطوانتين فقط ) قوية وسريعة وتكاد لا تستهلك أي وقود إطلاقاً! (في ذلك الوقت كانت الشكوى المستديمة للفرنسيين هي غلاء بنزين السيارات). كان هناك جريدة يومية بأسعار السيارات يسمونها (اركوسArgus ) تعطيك السعر التقريبي لكل سيارة في فرنسا (تبعاً للموديل والمواصفات وعدد الكيلومترات الخ), ثم ومن الإعلانات المبوبة في الجرائد تمكنت من الإتصال بشخص له سيارة بنفس المواصفات التي اريد, قام بجلبها الى باب عمارتي, دفعت له المبلغ المطلوب واعطاني (ورقة ملكية السيارة) بعد أن قام بالتوقيع على الجزء الأسفل من الورقة التي طلب مني ان ارسلها في الغد بالبريد الى دائرة تسجيل السيارات ثم سلمني مفاتيح السيارة.. هكذا ببساطة صارت السيارة ملكي!.

       وبما أننا صرنا مرفهين فقد بدأنا نخطط بالسفر خارج فرنسا في عطلتنا الصيفية القادمة, حيث ذهبت الى القنصلية الإيطالية في (مارسيليا) وحصلت على تأشيرة إيطاليا خلال بضع دقائق! (في تلك الفترة كانت الدول الأوربية تسمى السوق الأوربية المشتركة Marché commun ولم يكن هناك الإتحاد الأوربي Union européenne, وكل دولة كانت ما تزال محتفظة بعملتها الخاصة وحدودها وتأشيرات السفر بينها!).

خلال بضعة ايام انطلقنا بسيارتنا الجديدة الى الساحل اللازوردي جنوب فرنسا بإتجاه ايطاليا حيث مررنا ب(نيس) و(كان) و(مونت كارلو),  ثم توقفنا عند أحد مجمعات التسوق الضخمة على الطريق حيث اشتريت (خيمة كبيرة) تتسع لأربعة أشخاص, حملتها في الجزء الخلفي من سيارتي وانطلقت باتجاه (سان مارينو) عند الحدود الإيطالية..

في تلك السفرة زرنا (بيزا) و(روما) و(فلورنسا) و (البندقية) ثم دخلنا الحدود اليوغسلافية حيث ذهبنا الى مدينة (رييكا) الساحرة التي كنت دوماً أتوق لزيارتها.. قضيت في (رييكا) حوالي ثلاثة ايام, مستمتعين بشاطئ بحر اشتهر بجماله وطبيعته الساحرة..

جعلنا طريق عودتنا في استكشاف طريق آخر من خلال جبال الألب مروراً ب(ميلانو) و(تورينو). بمجرد ان اقتربنا من نقطة الحدود الايطالية في طريق عودتنا, وبمجرد أن لاحظ شرطي الحدود اننا (عائلة) وان السيارة (تحمل رقماً فرنسياً) فأنه لم يستوقفنا ابداً!.. وكذلك حصل في نقطة الخروج من إيطاليا!.. كان ذلك قبل فتح الحدود بين تلك الدول بعد تكوين (الاتحاد الاوربي)!.. 

بدأت ب(كورس اللغة العلمية) في (جامعة العلوم والتكنولوجيا), كانت الدروس هذه المرة ذات طعم خاص.. طعم مر! ليس فيه اي تشويق او متعة!.. لكني تعرفت فيها على زملاء جدد ومن دول اخرى.. خلال ايام قلائل انتبهت أثناء الدروس أن احد الطلاب قد دافع اثناء الدرس وبحرارة عن العرب, بعد أن تعرض لهم المدرس بالسخرية! وعندما سأله المدرس عن سبب دفاعه عن العرب؟ وعن بلده؟ أجابه بأنه من (كوستا ريكا) (احدى دول امريكا الوسطى), وإن اسم عائلته (مورا) والتي تعني بالإسبانية (المغربي) المرادفة  ل (العربي), حيث قال: "ان العرب اجدادي وأنا افتخر بهم.. هم الذين جلبوا لكم الحضارة,  ولن اسمح لك بالسخرية منهم!" 

صار ذلك الشاب  من اعز اصدقائي. كان هناك شاباً  آخر من إحدى الدول الافريقية, كان يسارياً, وربما شيوعياً, دخلت معه في نقاش حاد,  أثناء الدرس حول (الحضارة الافريقية) حيث حاججته أن (حضارة أفريقيا) محصورة في شمال أفريقيا حيث الآثار الغزيرة للامبراطورية الفرعونية الرائعة.. وليست هناك حضارة مشابهة في بقية افريقيا!.. ولم أعرف بأن الشاب سوف يغضب بشدة  ويتحول النقاش الى تبادل كلامٍ قاسٍ وتصايح كاد يوصلنا الى الشجار!.  الغريب ان المدرس الفرنسي كان يستمع وهو يبتسم ثم ابتدأ بالضحك بسعادة و بالتصفيق وهو يقول:

"برافو.. برافو.. الآن أنا مطمئن انكما قد اتقنتما  اللغة الفرنسية! مادمتما تتشاجران بها!"


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب