صدمات حضارية في فرنسا 5-2

 صدمات حضارية في فرنسا 5-2

أول صدمة حضارية واجهتني في (مونبلييه) كانت... الكلاب!!.. الكلاب أكثر من البشر! عندما يعيش رجل لوحده فهو يربى كلباً ليؤنسه. وعندما تعيش امرأة لوحدها تربي كلباً يحميها, وعندما يعيش  رجل وامرأة ولا يرغبان بتربية طفل فإنهما يربيان كلباً يكلمانه ويعاملانه كما لو كان طفلاً, وعندما ترزق عائلة بطفل فإنها تربي كلباً ليؤنس طفلهما.. في جميع الأحوال سيكون عند الفرنسيين.. كلب!

ترى كلابهم تتجول على الارصفة والشوارع والحدائق والشواطئ! اينما تذهب  تجد الكلاب تنتظرك!, تدخل العمارة فيسبقك كلب بحجم الأسد, تصعد حافلة فتجد كلباً بحجم النمر في انتظارك! في ممرات العمارة التي أسكنها وفي الساحات.. ثم وفي كثير من الأحيان لا يأبه بعض (عديمي الضمير) الى (رفع مخلفات) كلابهم, فتجد هناك (براز الكلاب) مزروع  في كل مكان, وبعد الأمطار يسبب ذلك البراز التزحلق, فيجب ,واينما تسير أن يكون نظرك الى الأمام ثم الى الأرض!!

زميلي الذي جاء بزمالة من (القيادة القومية) (المتزوج من رومانية) وجاء بها بتزوير أوراق رسمية, كان سيدخل مع ابنته ذات الأعوام الأربعة الى مصعد عمارتنا حيث كان يسكن في اليومين الماضيين, وفوجئت الفتاة بكلب بحجم (النمر) يخرج من المصعد دون أن يكون مربوطاً بسلسلة, ويتجه راكضاً بسرعة نحوها! أصيبت الطفلة بالرعب واخذت تصرخ في هستيريا من الخوف. صاحبي ثار غضبه وصاح بصاحبة الكلب:

 "إن حصل شيء لابنتي فسوف أقتل كلبك!".

هل انتهت الحكاية؟ كلا! في نفس تلك الليلة طرق بواب العمارة (الضخم) ذو الوشم على ذراعه والقرط المتدلي من أذنه وقال لصاحبي, وبمنتهى الهدوء: 

" انت هددت كلب صاحبتي بالقتل؟ لن تبيت الليلة في شقتك! تحمل حاجياتك الآن وتبحث لك عن مكان آخر تسكن فيه!" 

هكذا وبكل بساطة!

صاحبي أخذ التهديد بمحمل الجد, لم تنفع الإعتذارات للبواب و(للكلب), حمل حاجياته وانتقل مع زوجته (الرومانية) وابنته, حيث باتوا ليلتهم في شقة (رسول الزبيدي- أبو آيات) وبقيت تلك العائلة في ضيافتهم لعدة أيام! لحين وجدوا لهم شقة في القرب من سكن (أبو آيات)!

بعد ان صار عندنا العديد من الأصدقاء الفرنسيين , كان من الأمور المحرجة بالنسبة لنا اننا كنا دوماً نطلب من اصدقائنا الذين تجشموا عناء دعوتنا الى مسكنهم (لتناول عشاء فرنسي فاخر) من ال(فوندو), أن (يحبسوا كلبهم) في مكان معزول  من شققهم, قبل أن تطأ أقدامنا مدخل الشقة!, ويبقى كلبهم (المسكين) محبوساً, لا يسمح له بالقيام بواجبات الترحيب بالضيوف التي إعتاد عليها! من (لحس وتقبيل ومسح جسمه بسيقانهم), وكنا نشعر بأن اصدقائنا الفرنسيين محرجين (وربما مستائين) من خوفنا (غير المبرر) من -اخوتهم في الوطن– واحبابهم الغاليين (معشر الكلاب)!

أظن أن فرنسا لاتزال -تفتخر- بعدد الكلاب التي تعيش على أراضيها!

المشكلة الاخرى التي واجهتنا نحن العراقيين بالذات (خصوصاً في بداية) سكننا في (مونبلييه) هو السوق المتجول الذي يعقد كل شهر, وتديره طائفة الغجر(الكاولية)!. لم اكن اتصور حتى في احلامي ان يكون هناك مثل هذا العدد من الرجال والنساء والشباب والذين يتميزون بالشعر الأسود الفاحم والبشرة السمراء, رجالهم ونسائهم يضعون الأقراط في الأذن واحياناً في  الأنف,  وهم يغزون الساحة الواسعة في منطقة (لاباياد) حيث كنت اسكن, يبيعون في سوقهم كل شئ من الأطعمة والفاكهة حتى  الملابس الداخلية الخليعة الى الأدوية الشعبية!

في بداية الأمر سرت شائعة انهم يسرقون الأطفال وإن البعض منهم نشالون, وكنا نحذر من ارتياد سوقهم, ثم وبعد ان استمر سوقهم بالمجئ كل شهر, تجرأنا شيئاً فشيئاً على استكشاف ذلك السوق ثم شراء حاجيات كثيرة منه حيث كانت تباع بنصف ثمنها عن المحلات, ربما لأنهم لم يكونوا يدفعون ضرائب او إيجارات, او لأسباب أخرى, وبدأنا نرى انهم بشر مثلنا, بل ان الكثير منهم كانوا لطافاً طيبون وكرماء, وانتهت فترة الخوف على أطفالنا منهم!

من العادات الرائعة للفرنسيين التي تعودت عليها,  كانت الإبتسامة وأداء التحية حتى لمن لا تعرفهم!. فعند دخولك المصعد وتجد هناك بعض الناس فيه, فمن الطبيعي ان تقوم بالقاء تحية الصباح, او تحية المساء عليهم, ثم عند مغادرة المصعد تلقي عليهم نفس التحية للتوديع! كما تعودت عند دخولي الى أي دائرة حكومية او مصرف أو اي مكان رسمي أن ألقي تحية الصباح او المساء على الموظف قبل ان اجلس واشرح قضيتي. هذه العادة غير موجودة في بريطانيا!, وهم لا يتوقعون منك أن تلقي اي تحية في اماكن العمل او في مصعد عام أو محل عام! وربما ينظرون لك ببعض الدهشة والإستنكار عندما تلقي عليهم تلك التحية, ثم لن يردّوا على التحية!

بعد وصول زوجتي بأسبوع نصحتني العوائل العراقية التي سبقتني والحّت علي ان اتقدم بطلب المعونة العائلية ( ِAllocations Familiales) من الدولة الفرنسية لكوننا طلبة,   وبالتالي نندرج تحت بند الذين لا دخل لهم او دخلهم الشهري يساوي (صفر)! حصلت على استمارة التقديم من الدائرة المختصة لكني وجدتها (قتّالة) إذ تحتوي على (مئة سؤال) للاجابة.. وطبعاً كلها باللغة الفرنسية!.

بالصدفة عثرت على (مركز اجتماعي ثقافي Centre Culturel) يبعد بضع دقائق عن العمارة التي أسكنها. في ذلك المركز وجدت لافتة مكتوب عليها (إستشارات قانونية مجانية! كل يوم ثلاثاء وخميس من الساعة 3-5 مساءً)!, في يوم الثلاثاء حملت الإستمارة معي وذهبت. وجدت هناك شاباً لا يمكن ان يزيد عمره عن الثلاثة والعشرين عاماً جالساً ومكتبه خالٍ تماماً من الزبائن!. حييته ثم وب(إبتسامة ساحرة) أخبرته أنني ليس عندي (استشارة قانونية) وإنما جئت لطلب المساعدة  كوني (مستجدّاً) ولا اتقن اللغة الفرنسية وأحمل  إستمارة من  عشر صفحات لا احسن ملءها!.

لم أترك له أي مجال للاعتراض! حيث فتحت الصفحة الأولى ووضعت اصبعي عليها وقلت له:

 "مثلاً هنا.. لم افهم هذا السؤال ولا ادري كيف اجيب!", 

وهكذا اقنعت المسكين بأن يقضي معي (وقت الاستشارة القانونية) في ملء استمارة (طلب المعونة الإجتماعية Allocations Familiale) والتي أنجزها لي بعد ساعة و على أفضل وجه!. (يبدو ان الإستشارات القانونية هنا هي جزء من تدريب طلبة كلية القانون على محاولة تقديم الاستشارة, أما لوحدهم أو بالرجوع للتشاور مع اساتذتهم في الكلية, فهي مشابهة لطالب الطب ال(ستاجير) في السنة المنتهية من كلية الطب).

ما إن تقدمت بالطلب الى الدائرة المختصة والتي ارشدني الى مكانها بقية الطلبة المتزوجين العراقيين, لم يمض سوى بضعة ايام حتى زارتنا (باحثة اجتماعية) في شقتنا واطلعت عليها وتأكدت من كوننا (عائلة) و(طلبة) و(دخلنا صفر!), وأملت هي الأخرى استمارات خاصة بها, ثم وبعد ذلك بفترة قليلة كان هناك مبلغ شهري ثابت ينزل على حسابي المصرفي يغطي مبلغ  (إيجار الشقة كاملاً) اضافة الى مبلغ لابأس به (معونة مادية) عن رعاية طفلتي! بل وتأتيني قبل كل عطلة طويلة قسيمة (Coupon) لأخذ ابنتي الى أحد المنتجعات او المخيمات السياحية على شاطئ البحر (مدفوعة النفقات) من قبل الحكومة الفرنسية! وبذلك فقد صرنا مرتاحين من الناحية المادية وأخذنا نتطلع لحياة أكثر رفاهية.

كان هنالك ثلاث عوائل من اصدقائنا تسكن في نفس عمارتنا القديمة ( Tour Font Del Rey).. في الطابق الثالث عشر فوق شقتي كان يسكن (خليل السامرائي- أبو مصعب) طالب دراسات عليا ولكن هوايته وشغفه كان في جمع التحف الفنية من أسواق المواد المستعملة أيام الأحد, حيث كان يشتري التحف الأفريقية المنحوتة من خشب الأبنوس ببضع دراهم قليلة وصارت عنده مجموعة يفتخر بعرضها على كل من يزور شقته.. ودلنّا على سوق الأحد حيث اشتريت مع زوجتي الكثير من الحاجيات المستعملة بأسعار بخسة  جداً ثم بعدها اهتدينا الى (قاعة مزاد Salle de Vente) يباع فيه كل شئ من الأثاث الفاخر والكهربائيات المنزلية وقمنا بتأثيث جزء  كبير من شقتنا من ذلك المزاد, أما الجزء الآخر فكان من تتبع الإعلانات الموضوعة على لوحة إعلانات الطلبة في (مطاعم الجامعة), ومن هناك اشتريت بعض اجهزة المطبخ, كما انني وجدت غسالة كهربائية من الحجم الصغير ملقاة على قارعة الطريق! وجدتها في حالة جيدة جداً واستعملتها طيلة فترة وجودي في مونبلييه!.

العائلة الأخرى كانت تسكن أيضاً في الطابق الثالث عشر وهي عائلة (طبيب الأعصاب) الذي حكيت عنه وعن ضربه المتكرر لزوجته التي تلوذ بنا في الليالي وهي مزرقة العينين من اللكمات التي كان يسددها الى وجهها!!

العائلة الثالثة كانت أسفل منا في الطابق الحادي عشر,  كان (أبو رانية – توفيق العودات) سوري من (درعا) جاء للدراسات العليا  على حساب (القيادة القومية في العراق). كان  انساناً يتمثل فيه المثل العراقي (شيّم العربي وخذ عباته) صاحب (شيمة) الى ابعد الحدود!.  يكفي ان تطلب منه مساعدة ليلاً او نهاراً فيقول (لبيك) ويأتيك راكضاً!, كان لا يرفض ابداً وفي كثير من الأحيان يسعى في خدمتك حتى لو لم تطلبها منه!. كان (ابو رانيه) من الناس الذين احبهم انا وعائلتي كثيراً وله مواقف شهمة لا تعد, إضافة لكونه صاحب نكتة ودعابة والضحكة لا تفارق وجهه. زوجته كانت سورية (مسيحية) بقيت على دينها ودأبت على زيارة الكنيسة الموجودة في منطقتنا أيام الآحاد. لم أكن ادري انها تغار عليه حتى من الهواء مما أوقعني في احراج كبير في إحدى المرات عندما طرقت بابه و سألتها عنه فقالت انه ليس في البيت. فقلت لها (مازحاً كما يفعل العراقيون):  " لابد انه مع زوجته الأخرى"! تلك الليلة لم تمض على خير حيث جائني في منتصف الليل يعاتبني على دعابتي بعد أن خاض غمار معركة كبيرة مع زوجته لم ينج منها بسهولة وبعدها اخذني لمواجهة زوجته, والقسم لها بأغلظ الأيمان أنها كانت (دعابة سخيفة) مني ليس الا!.

الشخص الآخر الذي خدمنا خدمة كبيرة كان شاباً مغربياً اسمه (رشيد).. سخرّناه في البداية في نقل اثاث اشتريناه من المزاد لأنه يملك سيارة (فان Van) للنقل, حيث أن نقل  أي مواد أو اثاث في فرنسا لا يجوز أن يكون بسيارة نقل مكشوفة.. ولكونه اخ عربي ويعمل (تحت العباءة) كما يقال,  وبدون وصولات او ضرائب, وجدت ان الأسعار التي يتقاضاها (رشيد) كانت أقل بكثير من أي ناقل آخر, وفي تلك الليلة جاء لنجدتي اخوتي العراقيون طلاب الدراسات العليا (خليل السامرائي) وجارنا في العمارة المجاورة (مالك الدليمي) حيث شمرنا جميعاً عن سواعدنا لنقل غرفة نوم كاملة من خشب الصاج الثقيل, وكان أي تأخير لنقله يعني ان تدفع غرامة كبيرة عن كل ليلة تبقى فيها في صالة (المزاد)!.

(رشيد) المغربي خدمنا في أمر آخر, إذ انه عندما عرف بأننا (انا وزوجتي) نتنقل في حافلات النقل العام يومياً و(التي كانت تذاكرها باهظة الثمن), فأنه طلب منا صوراً شخصية ثم بعد بضعة ايام جلب لنا (هويّات رسمية) تمكننا من استعمال حافلات نقل الركاب مرات غير محدودة ليلاً او نهاراً مقابل بطاقة شهرية زهيدة الثمن. تلك الهويات كانت تمنح فقط للموظفين حصراً (Salarie), وغير متاحة للطلاب! أو للأجانب!.. وقد خدمتنا تلك الهويات كثيراً وبقينا نستعملها انا وزوجتي حتى بعد أن صارت عندنا سيارة خاصة, لأنها اوفر من ناحية البنزين ولا نحتاج الى الحيرة في العثور على مكان في مواقف السيارات  المزدحمة في الجامعة.

أظنها كانت في بداية آب 1979 عندما التحق ب(مونبلييه) زميل طبيب هو (ل ك), جاء مع زوجته ورحبت به كثيراً. دعوته أكثر من مرة لتناول الغداء مع عائلتي الصغيرة. وفي كل مرة كنت انا وزوجتي نقضي الساعات الطوال في محاولة إقناعه بأن الحياة في (مونبلييه) هي حياة رائعة وأن مجيئه بإجازة دراسية هي نعمة من الله, وأنها فرصة لتعلم اللغة الفرنسية كما هي فرصة للتنزه والسياحة والترفيه عن النفس, واننا قد نقضي ثلاث سنوات هنا, وإذا قدّر لا سمح الله أن نرسب في الامتحانات ونعود (بخفي حنين) فكل الذي سيحصل إننا سندفع (عشرة دنانير) شهرياً من رواتبنا مقابل الكفالة المالية التي ارتبطنا بها!. ونكون نحن الرابحين, كان أكثر هاجس يخيفهم (وكان ذلك الهاجس يخيفني انا ايضاً لكني لم اعلنه) إن قبولنا في دراسة اختصاص (طب التأهيل الطبي والمفاصل) هو قبول مبدئي فقط, وهو رهين بشرط مهم اذ ان هناك (امتحان) او (مقابلة),  وربما سيتم رفضنا اصلاً في تلك المرحلة الأولية من مهمتنا!.. ورغم أن ذلك كان يؤرقني احياناً, اذ ليست هناك اي معلومات عن ماهية تلك (المقابلة) أو (الإمتحان) ومدى صعوبته؟!!

بقيت على أمل ان صاحبي (ل ك) قد اقتنع بكلامي وكلام زوجتي والذي كنا نعيده على مسامعه في كل مرة التقينا به محاولين إقناعه (على وجبة غداء تعدها زوجتي), بأن الافضل له البقاء, مادمت انا وزوجتي قد قررنا البقاء والمغامرة وان (الحشر مع الجمع.. عيد)!. 

وبعد شهر واحد التحق زميل طبيب آخر هو (س ع و), وهذا لا اظن أنه بقي في مونبلييه أكثر من أسبوع واحد, حيث أصابه الإحباط والذعر والخوف من الصعوبات المحتملة, وربما أصابه (داء الحنين للوطن), حيث وبدون سابق انذار عادا كليهما بنفس الطائرة الى بغداد تاركين فرنسا الى غير عودة, وتاركيني مع عائلتي الصغيرة أن  (اذهب أنت وربك فقاتلا)! وهكذا بقيت لوحدي.. الطبيب العراقي الوحيد (المجنون) في مونبلييه!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب