5-1 يا أطباء العالم ..إتحدوا

 5-1 يا أطباء العالم ..إتحدوا



كما سبق قد ذكرت اني وصلت الى فرنسا في 17 من الشهر الاول من 1979 كانت الدنيا مقلوبة والاخبار جميعاً تتحدث عن عودة (آية الله خميني) الى ايران من البيت الذي كان يشغله في (ضواحي باريس) تحت الحماية والرعاية الفرنسية. وكانت الصحف تكتب في صفحاتها الأولى أنباء (انتصار الثورة) في إيران و(هروب الشاه)!.

وصلت الى مدينة (مونبلييه) على البحر المتوسط في اقصى جنوب فرنسا حيث ستكون دراستي للغة الفرنسية اولاً يتبعها الاختصاص في الطب بعدها بسبعة أشهر.  قضيت ثلاثة ايام في الفندق (اوتيل دو باليهOtel De Palais) (فندق القصر), وبعدها كنت ادور في سيارة احد العراقيين النجباء (رسول حربي الزبيدي) (رحمه الله وأدخله فسيح جناته) ذلك الانسان الرائع الذي كان يساعد جميع العراقيين القادمين الى هذه المدينة بكل صدق وإخلاص ونكران ذات, وكانت شقته مضيفاً, رغم صغرها, لكل من يصل مونبلييه وليس لديه سكن! فيسكن عنده اسبوعين اوثلاثه حتى يجد السكن المناسب!.  وجد لي (رسول أبو آيات) في اليوم التالي لوصولي, شقة في حي (لاباييادLa Paillade) في ضواحي (مونبلييه) كان سعرها مناسباُ وجميلة جداُ, من غرفتين في الطابق الثاني عشر من احد الابراج! (تور فون ديل ريTour Font Del Rey), وانتقلت إليها مباشرة بعد يومين من وصولي, كما استحصل لي هوية طالب, وتقدم لي بطلب الإقامة كطالب، وقام بتسجيلي فى (كورس اللغة الفرنسية للمبتدئين)!.

في معهد اللغة الفرنسية (الأقواس Les Arceaux) كنا خليطاً من الطلاب الشباب.. كان هناك اثنان من سوريا أحدهما قدم كلاجئ والثاني كان يتقاضى راتباً من الحكومة العراقية من خلال القيادة القومية (لأنه بعثي) (رغم إنه لم يكن يملك من (مؤهلات البعث) شيئاً!, زوجته من (رومانيا) وقام بتزوير أوراقها بمهارة وحرفية فائقة أمكنته من الحصول لها على تأشيرة دخول فرنسا.. بالتزوير!), كان هناك ايضاً طالبتان من اليابان, احداهما قصيرة جداً تقهقه بالضحك لأتفه الأشياء ومهما كان الموضوع!, والأخرى اطول منها, كنا نحاول الإبتعاد عنها بمسافة مترين (تباعد اجتماعي!) لأنها كلما كلمتنا يأخذها (الحماس الياباني) في الحديث فتغرس أصابعها بين أضلاعنا وفي بطوننا وأي جزء من جسدنا يكون في مرماها, مراراً وتكراراً, دون أن تعي ذلك!!.. وكانت هناك فتاة من الأرجنتين مصابة بالخجل او الإكتئاب المزمن, فهي  شديدة الإنطواء. كانت هناك فتاتان من إيران, احداهما ملحدة, مدخّنة شرهة وليس لها أي مسحة من الجمال, لها طفل غير شرعي من علاقة عابرة, يبدو انها اقامتها بمجرد وصولها فرنسا!, والثانية كان إسمها (بيتاك) كانت جميلة جداً !, إلا أنها في منتهى الاستهتار والفجور, ترتدي الملابس الفاضحة, و تقضي لياليها في المراقص وفي كثير من الأحيان كانت تأتي الى الدوام ولاتزال في نشوة الليلة السابقة فتكمل جزءاً من رقصها وغنائها أثناء الدرس الصباحي!, بينما تنظر لها (مدموزيل مينارو) بدهشة وصبر عجيبين دون أن تقول شيئاً!..

وبما أنني قد وصلت (مونبلييه) قبل زوجتي بثلاثة أشهر, وبما إنني كنت متحفظاً بما يمليه علي ديني والتزامي تجاه زوجتي وطفلتي, وبصورة عامة بعلاقتي مع كل زملائي وزميلاتي, ويبدو أن ذلك أجّج نوعاً من الفضول والرغبة لدى (بيتاك) الفاتنة الإيرانية, وحاولت المستحيل باستماتة عجيبة في الإيقاع بي!, الّا ان جميع محاولاتها باءت بالفشل. ولا انسى يوم اخبرت زملائي بأنني لن آتي للدوام في الغد حيث يجب ان اذهب الى (باريس) لإستقبال زوجتي القادمة من بغداد, قالت لي (بيتاك) بإنكساروصدق: "هنيئاً لزوجتك عليك, كم اتمنى ان احصل على رجل مخلص مثلك!" كسرت قلبها, ولم تكسر ارادتي!

وقد أتقنت دروسي في الفرنسية على أحسن وجه و دخلت في منافسة شريفة مع  احد الامريكان الذي كان قد تعيّن مديراً لل(يونيسيف) في (دكّار) في (السنغال) ولكن الامم المتحدة قد اعطته ستة شهور يقضيها في فرنسا وبسخاء لتعلم اللغة الفرنسية, لكونها اللغة الرئيسية في ال(سينيغال), هذا الشخص كان في نفس عمري تقريباً, وكان منافسي الوحيد في الصف, رغم أنه كان يأخذ دروساً خاصة مكثفة في اللغة بعد الدوام من مدرسّة فرنسية شابة كانت تأتينا أحياناً كبديلة لل(مدموزيل مينارو), كانت جميلة, ويبدو ان صاحبي الأمريكي أغرم بها واتخذ من الدروس الخصوصية حجة كي ينفق عليها بسخاء ويوقعها في حبائل زيارته في شقته, مما خلق له مشاكلاً مع مدرس آخر كان عشيقاً لها لمدة طويلة!.

أمّا انا فقد كنت احصل على نسخة من (جريدة إعلانات مجانية) توزع في كل مكان وفيها برامج التلفاز, وتحكي نبذة عن الفيلم أو البرنامج المزمع عرضه, باستعمال قاموس (فرنسي-عربي) اقوم بترجمة كل ما ورد عن البرنامج او الفيلم ثم أتفرغ لمشاهدة ذلك البرنامج أو الفيلم في تلفاز شقتي, واحياناً و بواسطة جهاز تسجيل صوتي صغير اقوم بتسجيل الحوار المعروض على التلفاز ثم اعيد الاستماع عليه مراراً وتكراراً, وهكذا فقد كانت مشاهدة التلفاز هي الاخرى جزءاً من دروسي اليومية, اضافة الى محاولتي التقليل من الاختلاط بالعراقيين, والذين كانوا كثيرون جداً في مونبليه في تلك الفترة.  الكثير منهم جاء للدراسات الانسانية مثل (السياسة والقانون) والقليل فقط ممن جاء لدراسة العلوم (كيمياء وفيزياء). أما أنا فقد كنت الوحيد الذي جاء لدراسة الطب! وكان ينظر إلي على أنني مجنون مقبل على الانتحار بسبب صعوبة الدراسة الطبية هناك! (بعد وصولي بفترة قليلة جاء أحد الاطباء لدراسة (طب الاعصاب) بقي في دراسة اللغة ستة أشهر قضاها في المقاهي مع العراقيين!. كان مولعاً بضرب زوجته الشابة والتي كانت تلوذ بي وبزوجتي عندما تأتينا والكدمات على عينيها وأنفها المتورم ينزف دماً لتخبرنا أنها سقطت من السلّم!.. وبما أنه لم يتعلم من الفرنسية شيئاً, فقد رجاني ان أذهب الى عيادة طبيب في  نفس عمارتنا التي نسكنها,  و هناك توسطت لزميلي بأن يمنحه تقريراً بإصابته بالكآبة الشديدة والميول الانتحارية, وعاد على اثرها الى العراق. ولكن العجيب أنني وبعد عودتي الى العراق بعد ذلك بست سنوات,  وجدت نفس الشخص وقد وضع لافتة على عيادته أنه حصل على شهادة الاختصاص بطب الأعصاب (من فرنسا)!).

كانت المدموزيل (مينارو) مدرستي المحببة وكانت الدروس لمدة ثمانية ساعات يومياً تتخللها فترة ساعة للغداء نقضيها في (المطعم الجامعي Restaurant universitaire).  دروسنا كانت كلها بطريقة الوسائل السمعية المرئية (Audio-Visuelle) وبعد اسبوعين من وصولي الى (مونبلييه) كنت خلالهما (اطرش واخرس), صرت اخاطب الناس وافهم إجابتهم! وكنت سعيداً جداً بذلك. ففي ذلك الوقت كان الفرنسيون شديدي التعصب للغتهم, كما أن (العولمة والانترنت) لم تكونا موجودتين, لذا لن تجد أبداً أي شخص  يتمكن من التحدث بالأنكليزية في ذاك الوقت!. كانت مدموزيل (مينارو) انسانة رائعة, لها طريقة مميزة في إيصال المادة الى عقولنا وقلوبنا و بصبر وثبات نادرين, كانت لاتبخل بأي جهد لتوصيل المعلومة واللفظ الصحيح لكل واحد منا و بكل اخلاص.

ولا أزال أذكر دموعها عندما زرتها بعد عام ومعي  أطروحتي التي كتبتها بالفرنسية في (الطب الرياضي) وطبعت اسمها على أول صفحة منها كإهداء لها مع اثنين آخرين  هما اساتذتي في الطب!.

بعد حوالي ستة شهور تم انتقالنا الى نوع اخر من دروس اللغة فقد أكملنا اللغة الفرنسية الاساسية, وتحتم علينا الانتقال الى مكان جديد ذلك هو (جامعة العلوم والتكنولوجياUniversité des Sciences et Technologies) حيث ندرّس ولمدة شهران مكثفان مادة (اللغة الفرنسيةالعلميةLangage scientifique) اي ان التركيز فيها هو كيفية استعمال المصطلحات العلمية في اللغة الفرنسية,  كانت تلك كارثة  حقيقية.. لأنني لم اكن احب لا المادة ولا المدرسين!.

فور وصول زوجتي تم تسجيلها في نفس معهد اللغة الفرنسية مع صف جديد من المبتدئين, وبما أننا كنا نقضي وقتنا كله في الدروس فقد واجهتنا مشكلة طفلتي ذات السنتين وحاجتنا لمن يقوم بالاعتناء بها اثناء تلقينا الدروس خصوصاً وإن امكانياتنا المادية كانت بسيطة لا تسمح بمربية او حضانة خاصة. 

كانت هناك دار حضانة قريبة جداً من سكننا, عرفت انها (حكومية) تابعة الى (بلدية مونبلييه).. اصطحبت زوجتي وطفلتي وذهبنا الى (دار البلدية La Mairie) وجلست انتظر لحين دخلت على (رئيس البلدية), عرفته بنفسي وبزوجتي وبطفلتي, وكم كانت سعادتي عندما عرفت انه في نفس مهنتي! فهو (طبيب)! كان قد حصل  على منصب (رئيس بلدية مونبليه) بالإنتخابات لكونه ينتمي الى (الحزب الشيوعي الفرنسي)!. فوراً تعاطف بشدة معنا, ربما لحبه للعرب او لكونه (زميل طبيب). اتصل بسكرتيرته للقدوم فوراً الى غرفة المقابلة وطلب منها ان تتصل بدار الحضانة وأن يقوموا بتسجيل ابنتي بشكل فوري وطارئ!, عقدت الدهشة السنتنا ثم وجدت في نفسي الشجاعة بأن أسأله عن الشقق الرائعة التابعة للبلدية الواقعة أمام البناية التي أسكنها مباشرةً! هنا أطرق قليلاً ثم قال لي:

 "دعني أرى ما يمكن فعله" 

واستدعى سكرتيرته ثانية وسألها عن تلك الشقق الرائعة,  ان كانت إحداها متوفرة؟ أجابت بنوع من الرفض وهي تنظر إلينا باحتقار وكأننا حشرات او متسولين! 

"كلا لا توجد"! 

قال لها: "بلى.. البارحة أنا بنفسي وقعّت على إعادة استلام شقة من المستأجر الذي أخلاها!, اجلبي لي أوراقها الآن"!

حاولت سكرتيرته التحجج لكنه اسكتها فوراً!

 وبين مصدق ومكذب قام بتسليمنا (شقة الأحلام) والتي كانت تسلم حكراً للمواطنين الفرنسيين فقط لروعتها ومساحتها الكبيرة و إطلالتها على شارعين, وتوفر خدمات اضافية فيها, مثل موقف سيارات تحت الأرض مخصص لكل شقة, ذا بوابة الكترونية تفتح عن بعد, وغرفة مخزن كبيرة تابعة للشقة في السرداب لحفظ ال(قرابيع), عند مغادرتنا مكتبه قام بطبع قبلة على خد ابنتي بحنان,  شكرته و صافحته بحرارة وأنا على وشك ان اهتف امامه ان:

 "عاش الحزب الشيوعي", 

"يا (أطباء) العالم.. إتحدوا" !! 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب