4-6 لغة البلابل

 4-6 لغة البلابل

       الكثيرون يستغربون كيف ذهبت الى (فرنسا) بل ولايصدقون انني اجيد اللغة الفرنسية!.

         السبب هو أنني فوجئت في نهاية عام 1978 بكتاب من (وزارة الصحة) يرشّح كل من كان طبيباً مقيماً اقدماً واتّم أكثر من سنة اقامة قدمى في التدريب على المفاصل, الى اجازات دراسية عددها (عشر) للدراسة في أي بلد في العالم لمدة (سنتين) للحصول على (دبلوم) الاختصاص بالمفاصل والتأهيل. في ذلك الوقت وفي كل العراق لم يكن هناك من أكمل سنة تدريب إقامة قدمى, عدا اربعة او خمسة أشخاص!, أي أن عدد المقاعد كان ضعف عددنا! وان قبولنا هو تحصيل حاصل.

     في ظهر ذلك اليوم عدت بسيارتي الجديدة ال(لادا) والتي لم يمض على استلامها إلا اسبوعاً واحداً! كنت مع زوجتي طبيبة الأسنان, التي كانت تعمل (معيدة) في كلية طب الأسنان المجاورة. كنت أشعر ببعض القلق لحظة إخبارها و لم أكن احزر ماذا سيكون رد فعلها عندما أخبرها بورود كتاب الترشيح للإجازة الدراسية ونحن في بداية حياتنا المهنية, ولم يمض كثيراً على تمتعنا ببعض المتنفس من التخلص من الديون والإستمتاع بحياة أكثر رفاهية  مما كنا عليه!. خشيت أن تقول لا! لن نغادر!.. الإ ان رد فعل زوجتي كان مفاجأة لي تماماً, إذ شجعتني فورأ على المضي في الترتيبات لمغادرة العراق, حتى لو اضطررت لتركها لبعض الوقت لحين ترتيب أمور سفرها هي الأخرى!

      نظام (الاجازة الدراسية) يعني ان على عاتقك أنت أن تحصل على القبول من الجامعات الأجنبية, بعكس (الزمالة أو البعثة)حيث يتوجب على الدولة نفسها ان تجد لك مقعد الدراسة. إضافة إلى أن رواتب الزمالات وامتيازاتها أعلى بكثير من رواتب الاجازات  الدراسية, فرواتب الاجازة الدراسية هي نفس الراتب محّولاً الى العملة الصعبة في ذلك البلد, وهو عادة راتب (قوت لايموت). ومع كل ذلك لم تكن هناك حدود لفرحتي بتلك الاجازة الدراسية, فأخيراً سوف أحصل على (جواز سفر) واتمكن من مغادرة العراق و يرفع عني منع السفر ك(طبيب)!

        بمجرد أن استلمنا كتاب ترشيحنا للاجازة الدراسية حتى بدأت بدوامة الحصول على قبول من الخارج, كنت أبحث مع أحد المرشحّين كان يعمل في مدينة الطب على ما أذكر في الطب الباطني وحصل على إجازة دراسية مثلي,  و اسمه (عزيز رحمة الله),  وكان انساناً لطيفاً جداً أظنه من وسط العراق (حلة او كربلاء) (لا ادري أين صار مصيره وما أخباره وماذا حل به في هذه الحياة)؟.

         بدأنا سويةً رحلة البحث المحموم و المضني عن قبول من الجامعات الاجنبية. في حينها كانت بغداد مركزاً لكل سفارات العالم!. قدمّنا اوراقنا الى السفارات الكندية والفرنسية و الاسترالية والنيوزلندية, كلها عدا (امريكا) لان العلاقات كانت مقطوعة معها في تلك الفترة. كذلك (البريطانية) انقطعت العلاقات معها تماماً في أواخر 1978, بسبب مقتل مدير مكتب (منظمة فتح في لندن) الشهيد(سعيد حمامي), واتهمت بريطانيا رسمياً الحكومة العراقية بالضلوع في قتله, من خلال ذراعها (جبهة التحرير العربية) وهي المنظمة الفلسطينية التي كان العراق يدعمها بقوة.  

        ولسوء حظّي و(عزيز رحمة الله) فقد تم طرد السفراء بين البلدين (العراق وبريطانيا). لذا كان كتاب ترشيحنا الى الاجازة الدراسية ينص على (جميع الدول عدا بريطانيا)!. وبذا لم نكلف خاطرنا بالاتصال بأيّة جامعة بريطانية, ولكننا بقينا على سعي محموم ودؤوب في محاولة الحصول على قبول من أية دولة تتحدث اللغة الانجليزية, وأدينا امتحان لغة انجليزية في (السفارة الاسترالية) يسمونه امتحان (دافيز Davis) وتحمّلنا تكاليفه المرتفعة, مع امتحان اللغة الأمريكي (التوفل) وتكاليفه الباهظة, وطبعنا العشرات من النسخ من شهاداتنا وصورنا الشخصية, وخلاصة خدماتنا ارسلناها للعشرات من جامعات (كندا) و(استراليا) و(نيوزيلندا)!. الإجابة المؤكّدة الوحيدة بالقبول جاءتنا من (فرنسا)!.

      في تلك الفترة كان هناك مكتب تابع للسفارة الفرنسية مقره في (الكرادة الشرقية) اسمه (مركز العلاقات الثقافية العراقية الفرنسية), كان يقوم بكل إجراءات متابعة الاتصال بالجامعات الفرنسية, وكان يديره شخص اسمه (مسيو ماتيو). كان انساناً لطيفاً ودوؤباً وجاداً في عمله, تساعده سكرتيرة شابة عراقية نشطة, وبعد حوالي الشهر اتصل بي وب(عزيز رحمة الله) هاتفيّاً طالباً منا الإسراع بالمجئ الى (مركز العلاقات). هناك قال لي:

"حصلت لك على قبول في أفضل جامعات في فرنسا (جامعة ليلLille) في شمال فرنسا, حيث ستجد أجمل نساء فرنسا!"

أجبته بكل جدية: "أنا متزوج ولي طفلة, ولن يكون لي شأن مع نساء فرنسا!"

فكر قليلاً ثم قال: " إذاً هذه قد لا تنفعك, ثم إن مدينة (ليل) في اقصى الشمال قرب هولندا وهي مغطاة بالبرد والثلوج طوال الشتاء! البديل عندي لك جامعة ممتازة أخرى هي(جامعة بوردوBordeaux) في الوسط حيث  النبيذ الفاخر, هو افضل نبيذ في العالم!"

     اخبرته انني لا اقرب الكحول ابداً,  كما لا ابحث عن نساء اخريات سواء كن حسناوات أو قبيحات! 

فكر قليلاً ثم قال:

"اذاً القبول الثالث هو الأفضل لك بكل تأكيد, إنه من (جامعة مونبلييهMontepellier) في أقصى  الجنوب وعلى البحر الأبيض المتوسط, منطقة معتدلة الجو طوال العام, كما إنها المدينة التاريخية العريقة في الطب والقانون,  ويفضّل أن تبدأ إجراءات السفر خلال شهر واحد, كي تكون عندك فترة (ستة أشهر) تقضيها في تعلم اللغة الفرنسية,  قبل البدء بالدراسة الطبية في شهر(آب) والتي ستكون باللغة الفرنسية حصراً!. و كتاب القبول الذي بيدي, هو قبول مبدأي, وإن قبولك النهائي في الدراسة مشروط بالنجاح  في (مقابلة) أو (امتحان قبول)!"

ونفس الكلام كان  موجهاً لرفيقي (عزيز).

     عدت وانا منتشٍ تماماً, سأذهب الى فرنسا! أخيراَ!. كنت قد سمعت من الكثيرين ان الدراسة في (فرنسا) صعبة اضافة الى صعوبة تعلم اللغة الفرنسية وإن نظامهم في التعليم الطبي هو مختلف كلياً عن (بريطانيا), فقد اواجه صعوبة في التكيف مع النظام المختلف كلياً عما تعودنا عليه. وحتى الشهادات التي نحصل عليها اسمها غريب جداً فهي (سي او اسCES) الفرنسية تعني (شهادة دراسة الاختصاصCertificat d'Etude Special)  بدلاً من ال (ام ار سي بي MRCP) البريطانية التي تعني (عضوية كلية الأطباء الملكية ( Member of the Royal College of Physicians). ونحن في نظام معادلة الشهادات معتادون تماماً على الاخيرة!.

      ولكني فكرت بالامور من زاوية مختلفة تماماً عن ما يفكر بقية الناس.  ليس هناك أي وسيلة للذهاب الى بريطانيا بسبب قطع العلاقات الدبلوماسية تماماً معها, لذا يجب ان انسى بريطانيا. حصلت على قبول من فرنسا وسوف أقضي ستة أشهر في تعلم واحدة من أجمل لغات العالم, تلك التي يلقبونها ب (لغة البلابل), ثم بعدها سوف اجرب حظي مع الدراسة الطبية لمدة سنتين (قابلة للتمديد الى ثلاث). وإذا حصل - لا سمح الله- ورسبت في الدراسة, فإنني سوف أعود الى العراق واعتبر نفسي أنني قد قضيت هذه السنين الثلاث في اجازة طويلة وسياحة ومتعة (على نفقة الحكومة العراقية)!.ومن بعدها سوف اسدد مبلغ الكفالة واجور الدراسة (بالتقسيط المريح), (عشرة دنانير شهرياً) من راتبي!. لذا فأنا الرابح في جميع الاحوال سواء نجحت او رسبت!. 

         إبتدأت بمراجعة شعبة (الصحة الدولية) في وزارة الصحة, كان يرأسها أحد الأخوة الأطباء المسيحيين (نسيت اسمه), كان في منتهى الطيبة والخلق, كما كانت هناك موظفه في منتهى المهنية والكفاءة اسمها (سليمة) كانت رائعة في عملها. صدر الامر الوزاري خلال وقت قياسي وحصلت على الانفكاك, وودعت رفاقي في (معهد العلاج الطبيعي).

         قبل مغادرتي كان (مسيو ماتيو) قد حصل لزوجتي (طبيبة الأسنان) على قبول للدراسات العليا في اختصاص في طب الأسنان من نفس جامعة مونبلييه, وتركت زوجتي تناضل هي الأخرى في سبيل التقديم للحصول على إجازة دراسية.

        وخلال شهر واحد كنت في طريقي الى فرنسا بالطائرة.  ففي يوم  17/1/1979 طرت الى باريس! وفي اليوم نفسه, طارت بي طائرة أخرى إلى مدينة (مونبلييه) في اقصى جنوب فرنسا على البحر المتوسط, وبقي صاحبي (عزيز رحمة الله) متردداً ولم يرافقني في السفر!.

       هذا اليوم هو يوم تاريخي ليس بالنسبة لي فقط! ففي صباح ذلك اليوم طارت طائرة من باريس باتجاه (طهران) وعلى متنها (آية الله خميني) مرشد الثورة الإسلامية, ليبدأ عهد جديد… لكلينا!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب