4-5 الشيخة طاكة.. وحجي شابث

 4-5 الشيخة طاكة.. وحجي شابث

حزيران 1977




      بعد مباشرتي ب(معهد العلاج الطبيعي) حاولت بأقصى جهدي أن اعثر على وظيفة طبيب عام في (العيادات الشعبية), وكانت تلك  العيادات تابعة لمديرية خاصة ورغم مقابلتي و(واسطة) الى مدير عام العيادات الشعبية, إلا أنه اعتذر بأن هناك قائمة طويلة من الأطباء في  الانتظار الذي قد  يصل الى سنة! لأنها مرغوبة حيث تضمن لك ساعات عمل مريحة وراتب شهري ثابت من (تسعين) ديناراً مع نسبة من الوارد أن زاد عدد المرضى عن رقم معين.. وبذا باءت كل جهودي بالفشل..

       البديل الوحيد صار أن أفتح عيادتي بنفسي, لكني كنت مرعوباً من آليات فتح العيادة؟ كيف تؤجر شقة؟ كيف اشتري و أنقل الأثاث؟ كيف أطبع (الراجيتات) وكيف.. وكيف.. أمور ترعبني لأنني  لم أكن (ابن سوق), ولا املك اي دراية كيف تتم   مثل هذه الأمور.

       كنت قد صادقت أحد المعالجين والذي نسيت اسمه لكنه كان يلقب بال(سيّد) أظنه كان يكنىّ (ابو حسن).. أخبرته بأنني أرغب بفتح عيادة وبالسرعة  الممكنة! كان (السيّد) يملك مطبعة في شارع المتنبي بعد الدوام ومتخصص بطبع أوراق الوصفات الطبية (الراجيتات), وبذا فهو على تواصل مع العديد من الأطباء.

       بعد دوامي في معهد العلاج الطبيعي بأكثر من شهر جاءني (السيد) ليخبرني إن هناك عيادة جاهزة معروضة للبيع بسعر التكلفة.. في مدينة الثورة (الجوادر) قرب (السدّة)!

      بالنسبة لي كان الحديث عن (مدينة الثورة) لا يختلف عن من يحدثني عن (الامازون)! مكان نسمع به ولا نراه ولم نمر به ابداً.. روايات عن بيوت مكتظة بسكانها وناس جاؤوا من الأرياف ومازالوا يعيشون بنفس الروح القبلية العشائرية التي أتوا منها.. (تكساس على الطريقة العراقية). تجربتي الأولى في مدينة الثورة كانت عندما شاركت كمتطوع وأنا طالب في كلية الطب في الصف الثالث بحملة لقاح اهالي (الثورة) ضد مرض (الجدري), وكانت تلك الحملة برعاية (منظمة الصحة العالمية) وانطلقنا الى أحد القطاعات تقودنا (إمرأة) كانت (شيخة طاكة) هي الحاكم الفعلي لذلك القطاع, ولا يفتح لنا باب او يسمح لنا بالتلقيح.. إلا بموافقتها!. واستغربت وأنا (ابن بغداد) أن أري إمرأة (شيخة) الكل يأتمرون بأمرها !

      شجعنّي (السيد) على هذا العرض المغري, فالعيادة جاهزة تماماً ومن النادر أن يحصل المرء على مثلها بسعر الكلفة, ولما كانت خياري الأوحد، قررت أن أذهب لمعاينتها.

       كانت في بيت صغير ارضي (مشتمل) على  الشارع العام على بعد كيلو مترين أو أكثر من مستشفى (الجوادر), للوصول لها يجب ان أعبر على قنطرة ضيقة فوق نهر عرضه متر هو (المجاري) المكشوفة للمنطقة!. المشتمل يعود الى إنسان في  منتهى الطيبة اسمه (كريم العبودي) وقد كان إسماً على مسمى بكرم الأخلاق. 

       فور تعرفي بالطبيب اخبرني ان العيادة عمرها شهر واحد فقط وأنه قرربيعها لكونها لم تحصل على أي زبائن!, ولكونه في  شجار مستمر مع شريكه في المبنى (طبيب الأسنان) والذي أثبت انه غريب الأطوار, وربما كان مصاباً بمرض نفسي!. 

      الطبيب  كان يريد التخلص من عيادته بأسرع ما يمكن و اخبرني انه يبيعني بأقل من  سعر الكلفة!, سرير الفحص بكذا والمنضدة والكرسي بكذا ومروحتين سقفية و(كرويتات) صالة الإنتظار بكذا, يضاف لها أيجار متبقٍ عن ثلاثة أشهر أكمل منها شهر ونصف. وكان المبلغ الكلي للصفقة لا  يتجاوز المئة وعشرة  دنانير! وافقت على الفور على الشراء. ودفعت له ما كان معي عربوناً, على ان اجلب له الباقي غداً.. 

       بعدها قال الطبيب "أنا بعت لك العيادة.. لكني لم أبع لك تلك, وسوف آخذها  معي!" وأشار بيده الى إطار زجاجي في أحدى الزوايا العالية  من غرفة  الطبيب. 

سألته "ما هي"؟ 

أجاب "أنها تعويذات (طلاسم) من شيخ الجّن.. تجلب الرزق!" 

قلت له "بإمكانك أن تأخذها فلا حاجة لي بها!" 

        سحب المنضدة الى جانب الغرفة ثم صعد عليها بحذائه, ليصل إلى الإطار ذو (الطلاسم السحرية) وأنزله من مكانه بعناية كما  لو كان يحمل طفلاً صغيراً!. نظرت له حيث كان يحتوي على مربعات تشبه الشطرنج سبعة طولا وسبعة عرضاً وهي تحتوي حروفاً ورموزاً غريبة, تتخللها عبارات مثل (ياجوج) و(ماجوج) و(ثاجوج)..الخ وصرت أضحك في داخلي.. إذا كانت هذه تجلب  الرزق وهاهو يبيع عيادته بأقل من سعر التكلفة لأنه لم يراجعه مريض واحد! وعجبت بوجود أطباء بمثل هذه العقلية؟؟

       في اليوم التالي وجدته ينتظرني في الساعة الثالثة  عصراً حيث سلمته بقية المبلغ, وذهبت الى صاحب الملك (كريم العبودي) حيث حييّته وأخبرته بشرائي للعيادة وبكوني سوف استمر على دفع الإيجار كما اتفق مع الطبيب السابق, ووافق الرجل على الفور.

     تزامن اول اسبوع لي للعيادة مع ولادة  طفلتي الأولى, وكانت امي دوماً تقول ان (البنت جلابة  للرزق), وفعلأً كان ذلك ما حصل. 

     في اليوم التالي للعيادة مررت في  طريقي على إحدى العيادات الشعبية حيث يعمل صديقي د (محمد عبدالمنعم مكيّة) وأخبرته عن فتح عيادتي فقام بإهدائي (كارتون) صغير يحتوي على نماذج ادوية مجانية, قال انه ليس بحاجة لها. وصرت أعطي كل مريض يزورني من  تلك الأدوية مجاناً.

    كانت خفاراتي في المعهد-الردهات ليلة من كل ثلاث ليال, ووافق زميلي (رؤوف رحيم) على ان يغطي بدلاً عني الفترة بين العصر والمساء في الردهات, لكونه يسكن اصلاً في الدار المرفق بالردهات, فكنت في أيام خفارتي أبقى في المستشفى الى العصر حيث اتوجه  راكضاً الى (جسر الصرافية) وهناك يمر الصيدلي المجاور لعيادتي بسيارته, يوصلني الى  العيادة, ثم بعد انتهائي يقوم بتوصيلي الى المعهد, هناك اتناول عشائي في الردهة, ثم ابقى الى الثانية عشرة الا ربعاً ليلاً.. انطلق بعدها راكضاً الى موقف سيارات حافلة نقل الركاب رقم (23) والمتجهة  الى المنصور ثم الى (الإسكان), حيث كانت آخر حافلة تنطلق من (باب المعظم) في الثانية عشرة ليلاً تماماً, احياناً اصل بعد تحرك الحافلة ببضعة أمتار فيتوقف لي السائق للصعود..

          كنت اتقاضى نصف دينار عن  اجور الفحص, في الوقت الذي  يتقاضى فيه بقية أطباء المنطقة ديناراً كاملأً,  كما كنت اتقاضى عن الطفلين اجرة طفل واحد, وعن من يحتاج الى إبرة خافض حرارة او ابرة فتح القصبات للربو كانت مجاناً او  بسعر رمزي, جيراني  يسار العيادة كان والدهم مسجوناً فأخبرتهم أن يكون علاجهم مجاناً طيلة مكوثه  في السجن. أخذت إحدى الزميلات الصيدلانيات بتزويدي ب(كراتين) كاملة كبيرة من نماذج الأدوية وكنت أعطيها مجاناً للمرضى. كان  أهالي المنطقة يجلبون أطفالهم بالجملة! فكنت اتقاضى النصف دينار لكنهم يحصلون على فحص طفلين او أكثر(إفحص واحد وخذ واحد مجاناً)!, وأدوية مجانية قد يبلغ ثمنها  في الصيدلية أكثر من النصف دينار الذي دفعوه! وبسرعة نشأت محبة شديدة بيني وبين أهالي المنطقة وصاروا يأتون بمرضاهم من مدينة (العمارة) ومن (الكوت) ومن بقية المحافظات لفحصهم. وعندما كنت اضطر لإرسال مريض الى المستشفى لإدخاله بسبب حالة طارئة  وحرجة فكنت أزوره في المستشفى في نفس اليوم وأوصي به زملائي من الأطباء!. 

في بعض المرات كنت ازور المرضى المقعدين في بيوتهم, كل بيت من خمسين متراً مربعاً كانت تسكن فيه ثلاثة او اربعة عوائل واضطر للمرور من خلال عشرين أو ثلاثين نفراً للوصول الى المريض او المريضة. كنت اتقاضى عن زيارتي للمريض في بيته ثلاثة أضعاف اجرة الفحص في عيادتي, اي دينار ونصف, وكان الناس يقبلون ذلك برحابة صدر خصوصاً اذا تضمن ذلك زرق (إبرة) مجاناً, لأن اطباء المنطقة كانوا يتقاضون ديناراً عند الفحص في داخل العيادة.. أحد الشيوخ الطيبين (حجي شابث), كان يسكن في دار قريبة من العيادة, وكنت ازوره أحياناً بعد الإنتهاء من العيادة, لفحص  عجوز مصابة بأمراض مزمنة, وكنت افعل ذلك مجاناً مقابل قهوة رائعة كانت دوماً حاضرة في الدلال في مضيفه, وكان  أحياناً يأتيني الى العيادة وهو يخفي دلة قهوة تحت عباءته ليسقيني بعضاً من قهوته أثناء عملي في العيادة وهو يقول "دكتور ارتاحلك كم دقيقة, تعبّوك مرضانا"..  وكانت اطيب قهوة تأتيني في  وقتها المناسب,  هذا  الإنسان الطيب لم انساه أبداً وسألت عنه بعد عودتي من خارج العراق..

         أهالي (الثورة) اثبتوا انهم  اناس في منتهى الطيبة وحسن المعشر,  بعكس تخوفي  السابق منهم. كانوا فقراء لكن أنفسهم عزيزة, لذا كان يتوجب علّي مساعدة من يحتاج منهم دون أن يطلب مني المساعدة, وطوال الفترة التي عملت فيها هناك لم ألق منهم الا كل  الخير وكرم النفس, أماّ شبابهم فأنهم -رغم فقرهم-  كانوا (ذوّاقون) في ملبسهم! ف(خّياطو) المنطقة تجد محلاتهم منتشرة في كل زاوية وهم في حالة تأهب مستمر, يبحثون عن آخر صيحات الملابس من بنطلونات وقمصان, وتجد شباب (الثورة)  في اليوم التالي يرتدون ما ارتدته (باريس) و(روما) قبل  أسبوع! صيحات من الموضة كنا نحن سكنة (المنصور) لا نجرؤ على ارتدائها الا بعد ذلك بأشهر طويلة.. أو قد لا نجرؤ ابداً!.

         في الشهر الأول لي بالعيادة كنت اصلّي وادعو الله ان يرزقني نفس مبلغ الراتب الشهري الذي تدفعه (دائرة العيادات الشعبية) للأطباء والبالغ (تسعين) ديناراً.. وفي  الشهر الأول تمكنت من تحقيق ذلك المبلغ وأكثر, وفي الأشهر التي تلته كان وارد العيادة في تزايد مستمر والحمد لله. وبينما كنت غارقاً بالديون يوم ولادة ابنتي في حزيران 1977,  فقد تمكنت من تسديد جميع  ديوني, وفي خلال سنة ونصف تمكنت من شراء سيارة روسية (لادا) من الشركة العامة للسيارات, كما دفعت (الف دينار) مقدمة  عن (شقة  سكنية) من عمارات (السيدية) و(سوق الثلاثاء) التي باشرت ببنائها وزارة الإعمار والإسكان.

        وعندما بعت العيادة بعد سنة ونصف بالضبط, جاءني المشتري وهو  زميلي (محمد  صالح العزاوي) الذي لم يتمكن من التحدث معي إلا من وراء رؤوس العشرات من  المراجعين الذين كانوا  يقضون الوقت وقوفاً لعدم استيعاب صالة العيادة للمراجعين  وهم  جلوس! وبعت له العيادة, بنفس أثاثها, بأكثر من ألف دينار, وكان سعيداً بتلك الصفقة المربحة, وكان شرطه الوحيد هو أن يبقى إسمي على يافطة العيادة!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب