4-4 عقدة الخواجة.. ودروع بشرية!

4-4 عقدة الخواجة.. ودروع بشرية!



 

       كنت اعمل طبيباً مقيماً اقدماً في مركز التأهيل وأمراض المفاصل في الوزيرية في بغداد,  كان ذلك بين الأعوام 1976-1978 ..

      في أواسط عام 1978 استدعاني مديري (نوري مصطفى بهجت), طلب مني  ان ارافق الدكتور (البروفيسور غراهام هيوزProf Graham Hughs) وهو استاذ بريطاني مشهور بامراض المفاصل وله اكتشافات عديدة, وسمي احد الامراض المهّمة باسمه(Hugh's Syndrome, Antiphospholipid  Syndrome), وكان قد قدم الى بغداد بموجب عقد لمدة شهر واحد لفحص المرضى بأجور عالية في مستشفى رئاسة الجمهورية (ابن سينا) في ذلك الوقت .. وكان التلفزيون العراقي يمطر الناس بالاعلان عن قدومه أثناء الفواصل الاعلانية ويحث الناس على مراجعة مستشفى (ابن سينا) كي يفحصهم ذلك الأستاذ البريطاني الشهير طبعاً مقابل مبلغ من المال أذكر أنه كان عشرون ديناراً والذي كان يساوي ستين دولاراً وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت يعادل ثلث راتبي الشهري تقريباً!...

       وصلت مستشفى (ابن سينا), وعرّفت البروفيسور بنفسي ثم بدأنا العمل فوراً حيث كان هناك قائمة من عشرين مريضة ومريض.

          كان (هيوز)  يطلب مني أن أترجم له ما يقوله المريض وما يشكو من أعراض.. ثم يطلب مني ان اقوم بفحص المريض  بنفسي,  دون أن يكلف نفسه فحص المريض او حتى لمسه!. عرفت فيما بعد أنه كان ممتعضاً وغاضباً لأن مدير مستشفى (ابن سينا) قد استولى على  جواز سفره وها قد مضى أسبوع ولم يعيده له! كلمت مدير المستشفى فأجابني بأنه أخذ منه الجواز بحجة أنه  يروم  ختمه من دائرة الاقامة, ثم احتفظ به  في خزانته  ولن يعيده إليه طيلة فترة مكوثه في بغداد.!. وربما كان ذلك اجراءً امنيا احترازياً,  ولكن البروفيسور(هيوز) كان مستاءً من ذلك اشد الاستياء! وكان يشعر بالقلق لكونه قد فقد حرية المغادرة متى يشاء!. إنعكس ذلك على طريقة تعامله مع المرضى (كما أظن), لأنه لم يعد يفحص المرضى,  بل كنت من يقوم بفحصهم!  ثم بعد ذلك كان يسألني عن التشخيص حسبما أظن؟  وكان يوافقني بانتظام على تشخيصي!. فمعظم الحالات كانت  بسيطة  وسهلة التشخيص.. (سوفان مفاصل) نتيجة كبر السن أو البدانة, آلام الظهر وآلام الرقبة, ثم يسألني عن الادوية المتوفرة في صيدليات بغداد,  ويطلب مني كتابتها على الوصفة,  وكل ما كان يقوم به  فعليا هو أن يبتسم إبتسامة ساحرة بوجه المريض او المريضة ويوقع اسمه ثم يسلمهم  الوصفة!... وكانت المريضة تنظر الى (هيوز) كأنه ملاك او قديس!  وتقول له باللهجة البغدادية (اروح فدوة.. لعيونك الزركة!)!. غير  آبهة إلى أنني من قام باستجوابها عن مرضها وقام بفحصها وكتبَ علاجها!. فما دام ذلك (الاشقر ذو العينين الزرقاوين) موجوداً,  فهي بأيدي امينة! ولم تكن المريضة تراني ابداً.. كما لو كنت شبحاً غير مرأياً في غرفة الفحص!. الموجود الوحيد هو ذلك (الطبيب البريطاني الاشقر), أما أنا  فكنت قد تحولت الى كائناً غير مرئياً! ..

      يتحدث بعض علماء الإجتماع عن هذه العقدة, وأول ما سمعت بها وعرفت عنها كانت من خطاب للرئيس المصري الراحل (جمال عبدالناصر) حيث ذكرها بإسم (عقدة الخواجة), عقدة الإيمان بتفوق العنصر  الغربي على العنصر العربي, و القناعة المطلقة بأن أي منتوج أجنبي حتى لو كان (زبالة) هو أفضل من المنتوج المحلّي الذي بين أيدينا .. وربما كان ذلك ايضاً ينطبق على الطب والدواء.. ولحّد الآن يأتيني مندوب الأدوية بمادة سعرها عشرة دولارات فأقول لهم ولكن هناك انتاج عراقي بربع هذا الثمن ومن صنع الشركة العامة للأدوية وهو مصنع رصين وتحت رقابة دوائية, تجد جوابهم الأزلي "استاذ.. بس هذا أمريكي, هذا سويسري, هذا فرنسي,..الخ" وهو عين المقصود ب(عقدة الخواجة)!. فما دام صنع خارج العراق, فهو افضل من متوجنا المحلي.. العجائز لديهن مثل (دجاجة جيراننا اكبر من خروفنا!) اما الإنكليز انفسهم ويبدو انهم ايضاً يعانون من نفس العقدة فيقولون: العشب دائماً اكثر خضاراً عند الجهة الأخرى من سياجنا

(The grass  is always green at the other side of our fence)

 

     وبما إنني قد تحدثت عن زيارة (بروفيسور غراهام هيوز) للعراق, فالموضوع يذكرني بزيارة للعراق لكنها كانت... من نوع آخر!

      في عام 2008 ذهبت الى مدينة (بونا Pune) في (الهند)  حيث حللت

ضيفاً على (المؤتمرالعلمي السنوي للجمعية الهندية للمفاصل) و(المؤتمر العالمي لصحة العظام والمفاصلWHO Bone and Joint health Decade).

        في نفس الفندق الذي كنت أقيم فيه فوجئت بوجود شخصيتين رائعتين كنت أعرفهما من أيام عملي في بريطانيا وهما (البروفيسور بول بيكن Paul Bacon)  أحد عباقرة (التهاب الأوعية الدموية Vasculitis), و(البروفيسور بول دييبPaul Dieppe) الذي قام بنشر موسوعة مصورة من عشرين مجلداً عن أمراض المفاصل وكل مجلد فيه أكثرمن  مئة (شريحة ملونة Kodachrome slide) وهي تعتبر أضخم وأروع ما تم تصويره لحالات  امراض المفاصل,   وقد جلبتها معي من انكلترا كمن يحمل كنزاً ثميناً حيث ساعدتني كثيراً في مهنتي كأستاذ لأمراض المفاصل  في كلية طب بغداد. لذلك فقد سررت جداً بلقاء هاتين الشخصيتين الإسطوريتين في طب المفاصل, وأن اجلس لتناول الفطور معهما!.

      في اثناء احدى امسيات المؤتمر جلست مع ( بيكن) وأبديت له قلقي عن البروفيسور (دييب) الذي كان يبدو واجماً ومكتئباً طوال الوقت وكأنه يعيش في عالم آخر! ضحك (بيكن) ثم سألني:

"أرجو ألا تكون قد اخبرته انك من العراق؟!!"

أجبته "على الأكثر قد أخبرته! لست أذكر.. ربما! لماذا؟"

قال ضاحكاً "في إحدى المرات تلقى (بول ديب) دعوة لحضور ندوة طبية في  (الكويت), فأخذ إجازة قصيرة من عمله في (بريستول) و سافر ليقضي نهاية الإسبوع في (الكويت) وكان في نيته أن يعود لإنجلترا مباشرة بعد نهاية الإسبوع تلك. في نفس يوم وصوله في يوم 2 / 8 / 1990 اجتاحت القوات العراقية الكويت و احتلته خلال بضع ساعات!,  وتعذر عليه العودة لبلده.  ثم ألقي  القبض عليه من قبل القوات العراقية, وقضى أشهراً معصوب العينين مكتوف اليدين, مربوطاً إلى عمود في إحدى المنشآت العسكرية السرية, حيث استعمل ك(درع بشري) حاله حال العشرات من المواطنين الأجانب الذين قبض عليهم في الكويت وتم نشرهم على العشرات من الأماكن الإستراتيجية المهمة ك(دروع بشرية) للضغط على (أمريكا) كي لا تقصف تلك المنشآت!.

        لست أدري كيف أصف شعوري وأنا استمع للقصة, هذا الشخص الذي له فضل على العالم كله بالموسوعة الرائعة التي نشرها اضافة الى الكثير من البحوث والكتب التي نشرها, وقد قضى اشهراً مقيدّاً, لا يمكنه الإتصال بزوجته وأهله,  لا يعلم إن كان  هناك من سوف يتهور و يقصف المكان الذي هو فيه ويموت بعيداً عن أهله.. ومنحته كل العذر في أن يصاب بالكآبة والعزلة عن البشر فيما تبقى من سنين عمره! فالذي مرّ به لم يكن بالأمر الهين على شخص أشقر وعيناه زرقاوتان!!


تعليقات

  1. Thank you habibi ammo. I listened to a BBC podcast once called "Black like Michelle" referring to Michelle Obama & discussing the issue of colour discrimination even within the black community because they, like us, favour the lighter skin blacks or the ones with lighter eye colour..مثل ما احنه عدنه بياض الوجه و العيون الملونه و الشعر البني الفاتح او اي علامات للشگار تعتبر مرغوبه ...the podcast discussed how that discrimination was created by the colonist because they truly believed "the whiter you are, the more human you are" following social Darwinism theories popular at the time. The colonists in power or masters of slaves then created a self-fullfilling prophecy by giving better opportunities (of education, position, freedom( to lighter skinned ppl so that through generations of favouritism they truly became "more superior" & kept a strong desire to marry with other lighter skinned ppl..I am so certain the same happened in Iraq and other british colonies leading to the patient wanting to تروح فدوه لعيونه الزرق

    ردحذف
    الردود
    1. نعم صبا العزيزة صدقت.. وقد صارت هذه الفكرة متأصلة فينا.. لأ ادري ان كانت بدأت منذ احتلال البريطانيين للعراق في الحرب العالمية الاولى.. ام انه سبقه نفس التفضيل للأتراك العثمانيين بيض البشرة على العرب ذوي البشرة السمراء.. شكراً للمداخلة ايتها العزيزة ابنة الاعزاء..

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-7 مستشفى طوارئ الرصافة