2-19 (ديسكو) في مدرسة الطبابة العسكرية

 2-19 (ديسكو) في مدرسة الطبابة العسكرية


    في كثير من الأحيان كنا نجد ان العرفاء لايقومون بإجراء التعداد في نهاية الدوام الرسمي, وعليه فقد  سولت لنا أنفسنا ان (نتسلل) قبل ان يحين الظهر وبعد الإنتهاء من التدريب, وتمت العملية بنجاح لعدة أيام.. ثم في أحد أيام الخميس تمت قراءة أسماء المتغيبين عن التعداد (العشوائي) الذي تم إجراؤه في وقت مبكر من ذلك اليوم!.. وصدر القرار الفوري.. جميع المتغيبين في السجن!

     هكذا وجدت نفسي مع ثلاثين من خريجي دورتي او أكثر, في غرفة  لا تزيد مساحتها عن أي غرفة تسع لشخص واحد! كان فيها سرير حديدي واحد وضوء معلق في أعلى الغرفة وباب حديدي يقفل من الخارج بقفل كبير, وقف على بابها جندي يحرسها حاملاً بندقية روسية (سمينوف).

   كان السجين الوحيد الذي وجدناه قبلنا في تلك الغرفة هو شاب (مضمّد),  يبدو أنه (جندي مكلف) على ملاك مدرسة الطبابة, وقد (فّر) من الخدمة العسكرية وأودع في (سجن المدرسة) بعد أن اُلقي القبض عليه.  كان شاباً طيباً سرعان ماصار صديقاً لنا -ومن الافضل له ان يصير!- لأن النسبة كانت (ثلاثين الى واحد) لصالحنا!. ثلاثين طبيباً.. وهو لوحده!. 

      حال دخولنا السجن, وأول شيء تعلمناه من الجندي السجين هو كيفية صنع الشاي على طريقة (روبنسون كروزو)!. فقد أخرج أحد اللوالب الحديدية (سبرنك) من السرير الحديدي, وربط في نهايتيه سلك كهربائي وقام بإزالة المصباح من مكانه, ثم أوصل السلك بمأخذ المصباح الكهربائي, وكبس زر المصباح وخلال دقيقة توهج اللولب كما لو كان شعلة نار و بوضعه في وعاء ماء, أخذ الماء بالغليان خلال دقائق, وبعد إضافة بعض أوراق الشاي والسكّر, وها نحن عندنا شاي عراقي اصلي, لم نشرب ألذّ منه!

    بعد ضيافة الشاي من الشاب السجين بدأنا فاصل (الفعاليات الفنية) (الموسيقى و الرقص)!. أحد زملائنا (زهير فاضل- خريج طب البصرة) كان يُتقن الضرب على الطبل على الحان (الهيَوَه) وهي (رقصة الزنوج) في البصرة, ألحان راقصة رائعة كان يعزفها كأحسن طبّال, بالضرب على الباب الحديدي للسجن!. و ابتدأنا جميعاً بالرقص الهستيري لساعات دون كلل!. كان الضرب على باب السجن يرّن بصوت عال اثبت انه افضل آلة موسيقية!, يفوق طبول البراميل الحديدية لعازفي (الكاليبسو) الكاريبي,  الكل كان يرقص! عملاً بالمثل البغدادي القائل "السفاهة.. نفاهه!".

        جاءنا العريف الطيب (ريسان) مهرولاً يتوسل ان نتوقف عن العزف على الباب, لاّن صوت الطبل والرقص قد وصل الى أسماع (السيد الآمر)!.صرخنا بوجهه  وطردناه شّر طردة ونحن نصيح بوجهه:

 "هوه احنه مسجونين.. يعنى شتريدون تسوولنا أكثر؟ إمشي لَك! وليٌ عن خلقتنا.. وسدّ الباب وراك!".

      أحد المسجونين معي كان زميلي (جواد). دق على الباب وصاح بالجندي الذي يحرس السجن انه يريد ان يذهب الى (المرافق الصحية). فتح الجندي الباب وأخرج زميلنا مُقتاداً إياه الى الحمامات البعيدة وهو يضع اصبعه على الزناد ويصوب البندقية (السمينوف) الى جسم زميلنا كما تقتضي الإجراءات الأمنية التي تعوّد عليها. عرفنا فيما بعد ان (جواد) سأل الجندي عن اسمه الكامل ثم قام بكتابة اسم الجندي وهدّده أنه بعد شهر واحد سوف يصير ضابط, وطوال الوقت كان يضع اصبعه السبابة على كتفه وهو يتوعد "بعد شهر!" متوعداٌ الجندي المسكين بأنّه سوف ينتقم منه لتجرؤه على اقتياده  الى الحمام وتحت تهديد السلاح!. وأخذ الجندي المسكين يعتذر ويتوسل بكوننا (مساجين) وإنه (عبد مأمور)!. 

         وبما إن المكان كان ضيقاً للغاية ولا يسمح لنا بالإستلقاء للنوم, فقد بدأت فعالية حماسية جديدة عند مجموعة اخرى من الزملاء, تلك هي لعب (القمار) من (بوكر و واحد وعشرين) لعبات حماسية إستغرقت الليل كله.. أبطالها كانوا الزملاء (صائب قلمجي و فريد السوداني وثامر السعيدي وصباح العاني وعلي الشحم وعودة علي عودة.. وآخرين غيرهم!.. انا اشتركت معهم ثم (أفلست) سريعاً, فقد كنت لاعباً (هاوياً) وليس محترفاً مثل البعض منهم, لذا قررت العودة الى الانضمام الى (الفرقة الفنية) المستمرة بالعزف والغناء والرقص!

    في الصباح التالي تم اطلاق سراحنا بأمر من (آمر) مدرسة الطبابة العسكرية. وربما كان ذلك بسبب  خشيته أن يتم التحقيق حول وضع المدرسة, اذ انه كان مختفٍ تماماً عن المشهد ولم يقم ابداً باللقاء بنا أو التحدث معنا منذ التحاقنا بالمدرسة قبل أكثر من شهر,  كما لم نكن قد التقينا بأي من ضباط (المدرسة), رغم كوننا جميعاً من ذوي المهن الطبية, ولنا قيمتنا في المجتمع العراقي.

          انا متأكد ان من بات في المعسكر في ليلتها من زملائنا لم يتمكن من النوم من شدة الضجيج الذي كنا نحدثه, بل وربما كان (يحسدنا) على الوقت الممتع الذي كنا نقضيه  فقد حولنا غرفة السجن الى (ديسكو)!.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب