2- 17 أنا والعذاب وهواك

 

٢-١٦ أنا  والعذاب.. وهواك

ا د سامي سلمان

ما إن قضيت شهرين مستمرين كمقيم دوري في قسم (الأطفال) في مستشفى (الكرامة) وذلك في ربيع 1974 وتحت اشراف الاستشاري الرائع (محمود البحراني), حتى صرت ملمّاً بشكل جيد بمبادئ (طب الاطفال) وصرت اجلس في غرفة مجاورة للغرفة التي يشغلها (محمود البحراني) في العيادة الخارجية. وكان هناك عدداً كبيراً من الامهات اللواتي جلبن اطفالهن للمراجعة. كنت أشعر بالزهو ففي كثير من الأحيان صار عدد الذي يقفون على باب غرفتي يقارب العدد الذي يروم الدخول الى غرفة (محمود البحراني) وفي كثير من الأحيان كنا نستعين بالشرطة لمساعدتنا في السيطرة على العدد الهائل من الأمهات المراجعات بأطفالهن المرضى.

علمني محمود البحراني كيف اجلس و منضدتي مباشرة على التصاق بسرير الفحص و بزاوية قائمة معه, وحينما أطلب من ألام وضع طفلها على سرير الفحص يكون بمقدوري وبدون مغادرة مقعدي أن أفحص الطفل بيدي أو بالسماعة,  و الإمساك بطوية من جلد بطن الطفل للتأكد من عدم وجود الجفاف. وبعد ان اكون قد فحصت عشرة اطفال يكون غطاء القطن الابيض الموضوع على السرير قد تبلل تماماً ببول الاطفال!. كل رضيع كنت افحصه كان يؤدي (واجبه الوطني) ويتبول على غطاء السرير, فيقوم المعين بتدوير الغطاء الى جهة الشرق, وبعد عدة اطفال وامتلائه بالبول يقوم بتدويره ناحية الشمال ثم بعد عشرة اطفال يدّور باتجاه الجنوب بشكل نظامي و بإتجاه عقرب الساعة! وهكذا بعد فحص اربعين طفلاً يكون غطاء السرير الأبيض قد تحول الى بحيرة من البول, وزاد وزنه عدة كيلوات بفعل كمية البول الذي تشبع فيه! أمّا الرائحة فلم اعد احس بها!.اضافة الى الروائح القادمة من المسلك الآخر والتي كانت تخرج كلما وضعت المحرار في دبر الطفل الرضيع لقياس درجة الحرارة! (في ذلك الوقت لم يكن هناك (تَرَف) المحارير الالكترونية!) فانّه كان يتحفني (بما يجود به) حالما اقوم بسحب المحرار من دبره!!. 

ومع كل معاناتي مع  الأطفال وأمهاتهم إلا اني كنت سعيداً جداً في عملي! كنت اسعد انسان في الدنيا! فانا اشعر انني أعمل شيئاً بدقة وبجودة عالية وانني أنفع الناس وانقذ ارواح اطفال صغار ابرياء, وكنت أشعر بالفخر مما تعلمته من أستاذي المحبوب (محمود البحراني).

في أحد الأيام دخل الردهة احد الاطفال وهو يسعل بشدة ومصاب بضيق نفس شديد وبنفس القصة التي تحصل كل مرّة كان الطفل قد شرب (النفط الابيض) بدلاً من الماء!. كان مستشفى الكرامة يدخله الأطفال بموجب وتيرة شبه ثابتة!. في الصيف كان كل الأطفال يدخلون اما بسبب الاسهال والتيبس او بسبب لدغ العقارب التي تعشعش في هذه المحلةّ الشعبية ذات البيوت القديمة, والتي قد تأتي من مقبرة (الشيخ معروف) و تلدغ الاطفال عندما ينامون على سطوح بيوتهم بسبب الحر الشديد صيفاً. أمّا في الشتاء فكان الكثير ممن ندخلهم المستشفى كان بسبب شرب (النفط الأبيض) وهو الوقود الذي تستعمله العوائل في الطباخات النفطية او في اجهزة التدفئة البدائية (الصوبات), 

الناس الساكنون في البيوت المحيطة بمستشفى الكرامة معظمهم فقراء الحال يشترون النفط من العطار القريب بوضعه في قناني المشروبات الغازية (البيبسي و السينالكو), وطبعاً يأتي الطفل الصغير ذو السنتين فيشرب منه ظناً منه انه مشروب غازي, ويصاب بذات الرئة الكيماوية الشديدة.

المهم من قصتنا أنني أدخلت احد الاطفال الى الردهة بعد شربه للنفط, وبعد بضعة ايّام من الاوكسجين والمضادات الحيوية تماثل الطفل للشفاء واخرجناه من المستشفى. بعد بضعة أيام كانت والدة الطفل والتي اذكرها جيداً والتي كانت ترافق الطفل طيلة الأيام التي رقد فيها في المستشفى, كانت تحمل الطفل وتنتظر في غرفتي في العيادة الخارجية. كانت شابة في حوالي الخامسة والعشرين من العمر, متوسطة الجمال,  و ككل نساء المنطقة كانت سمراء اللون و ترتدي العباءة العراقية السوداء. سألتها عن الطفل عن صدره وعن السعال ان كان قد توقف؟ وقمت بفحصه بالسماعة قالت "هو الآن بخير ولا يسعل, ولكن لونه شاحب". اجريت له فحص الدم وكانت النتيجة أنه مصاب بفقر الدم من نوع نقص الحديد. في تلك الفترة كان العلاج الوحيد المتوفر مجّاناً لعلاج فقر الدم عند الأطفال هو إبر الـ (إمفرون) تحتوي على مركبات الحديد, لـون السائل الذي فـيها شديد السواد كأنه القير, تعطى بزرقها(سنتيمتر أو نصف سنتمتر مكعب واحد) بالعـضل مرتين اسبوعياً. هكذا ببساطة وبدون داع للفحوصات او التحريات المعقدة, فقد كانت معظم حالات فقر الدم هي بسبب نقص الحديد. 

رغم ان الإبر كانت تعطى في العضلة وانها مؤلمة وتترك نقطة سوداء داكنه في محل الزرق لاتزول لعدة اسابيع, الا انه شئنا ام ابينا كانت تلك الإبر هو كل ما كان متوفراً في المستشفيات آنذاك.  كتبت له على التذكرة التي قطعتها أم الطفل (نصف سي سي إمفرون بالعضل) وخرجت المرأة تحمل طفلها الى (المضمّد) في الغرفة المجاورة حيث قام بزرقه حسب الوصفة.

بعد ثلاثة ايام لمحت المرأة وهي تحمل الطفل, ورغم أن بقية الأمهات كن يتدافعن ويحاولن أن يجرين الفحص قبل الآخرين, إلّا هذه المرأة! كانت صبورة على غير العادة. كانت تقف بصبر شديد ودون أن تتدافع مع احد تنتظر الى أن أنتهي من جميع الأطفال مهما طال الوقت, ثم تضع طفلها أمامي، حيث اقوم بفحصه بسرعة ثم اكتب له (نصف سي سي إمفرون بالعضل) تزرقه في الغرفة المجاورة وتنصرف.

بقيت هذه المرأة على هذه الحال أكثر من شهر وبنفس الصبر, تقف حاملة طفلها خلف كل المرضى, لاتتدافع مع احد, تنتظر الى ان انتهي من آخر مريض. خلال تلك الفترة كنت قد أجريت له تحليل دم مرتين، وفي كل مرة كان لايزال مصاباً بفقر الدم!, وبدأت اقلق فالطفل الان حصل على أكثر مما مقرراً له من إبر الحديد.كنت اتأكد بنفسي بفحص منطقة (الإلية) للطفل انه فعلاً يستلم ابر الحديد, حيث كان كل الزرق يتم في اعلى الفخذ من الخلف (الإلية).كانت إلية الطفل منقطة بنقاط سوداء كما لو كانت منخل!. بعدها قررت ان اتوقف عن اعطائه الابر وقلت لها:

 "اعتقد انني اعطيته من الإبر مايكفي ولا أظن أن من الصحيح ان ازرقه بإبر المقوي أكثر مما أعطيناه, واظن ان لا داعي لك لان تجلبيه بعد اليوم!". 

نظرت في عيني, ثم قالت بإنكسار واضح:

 "انا ايضاً قررت ان لا اجلب ابني أو آتي إلى هنا بعد الآن!, فقد بدأت الألسن تتحدث عني!"

 فوجئت بكلامها فسألتها مستغرباً:

 "تتحدث عن ماذا"؟

أجابت: "يقولون انني أتي هنا بحجة الطفل, وانني في حقيقة الحال.. احبك!" 

قلت مستنكراً ومتعجباً: "ما هذا الكلام ؟ ما الذي تقولينه؟"؟

قالت و بجرأة عجيبة جداً اذهلتني:

 "إنه الكلام الصحيح! انا فعلاً أحبّك وأجيء في كل مرة اريد فقط ان اكتفي بالنظر إليك ولست أطمع بأي شئ آخر"! 

ثم اعقبت بإنكسار:"أمّا الآن وقد كثرت الأقاويل عني فسوف اتوقف عن المجيء!". 

نظرت وانا غير مصدق الى الطفل الصغير ذي السنتين وقد صارت إلية المسكين كالمنخل من كثرة ابر الحديد! اذاً ليس السبب فقر الدم؟ أو  الشحوب؟ أو فقدان الشهية؟ طيب لماذا لم تقولي لي ذلك من الاول! ابديت تعجبي من صراحتها الشديدة والتي اذهلتني لكونها متزوجة, وام لطفل, ومن وسط محافظ جداً, و لكنها أوضحت أنها تعيسة جداً و ان حبها لي هو حب (افلاطوني) فقط!. هي راضية بأن تنظر لي من بعيد ولا تريد, او تحلم, بأي شيء عدا ذلك!.

وفعلاً لم أرها أو أر ذلك الطفل المسكين بعد ذلك اليوم!. كانت تلك آخر مرة رأيتها فيها بعد أن باحت بحبها لي, حيث اختفت من مسرح الأحداث!

(سامحك الله يا أفلاطون!!) إذاً هذا هو الحب الأفلاطوني؟! هل كان المرحوم (أفلاطون) يقصد مثل هذه الشابّة, عندما كان يصف هذا النوع من  الحب؟ 

وهل هو كما تغنّى به المرحوم (فريد الأطرش):

"الحب من غير أمل… أسمى معاني الغرام"!.

اختفت المرأة منذ ذلك اليوم.. ولم انسها ابداً!.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب