2-15 البحراني ..ذلك الاستاذ الرائع

 2-15 البحراني ..ذلك الاستاذ الرائع

ا د سامي سلمان

كل من يقرأ هذا سوف يفكر إن كان المقصود الاستاذ الشهير(زهير البحراني) او شقيقه الاستاذ الشهير (احسان البحراني) وكلاهما استاذان رائعان, وكان لهما الفضل علينا جميعاً عندما كنا طلاباً في كلية الطب جامعة بغداد, رحمهما الله.

ولكني اقصد بحراني آخر, إنه استشاري امراض الاطفال (محمود البحراني) اطال الله في عمره.

(محمود البحراني) كان يعمل طبيباً استشارياً في طب الأطفال في مستشفى (الكرامة) في جانب الكرخ عند محلّة (الدوريين). التحقت بالدوام عنده  في اثناء الاقامة الدورية, كان ذلك في ربيع عام 1974 وانا اخترت (طب الاطفال) بديلاً عن التدريب في (النسائية والتوليد)والتي داومت بها اسبوعين فقط شعرت بأنها لا تنسجم ابداً مع طموحاتي.

(محمود البحراني) لم يكن يعمل في الجامعة او كلية طب فهو على ملاك وزارة الصحة ولم يحمل لقباً تدريسياً,فلم يكن استاذاً أو استاذاً مساعداً. ولكني عندما داومت في الاقامة الدورية عنده رأيت فيه افضل تدريسي على الاطلاق.

 كان يصرف الساعات الطوال في أثناء الجولة الصباحية على المرضى يعلمنا فيها دقائق وأسرار علم طب الاطفال.لم يكن يبخل علينا باي معلومة واي سر من اسرار المهنة بعكس الآخرين من الاختصاصيين الذين لم يكن عندهم الرغبة للتعليم والتدريس وكانت جولاتهم الصباحية مملّة رغم انها تنتهي ببضع دقائق قليلة!. 

كان  (محمود البحراني) رئيساً لشعبة طب الأطفال في مستشفى الكرامة. وبحكم موقعه وبحكم حرصه على مرضاه فإن تعليماته كانت كالتالي: لا يسمح لأي شخص ان يضع ابرة داخل الوريد لاي طفل او وضع انبوب وريدي لاعطاء مغذي او دم او سوائل الا اذا كان طبيباً يحمل شهادة الطب!. لذا فكان واجبنا ليل نهار ان نمسك بالطفل الصغير جداً والذي كان لايزيد حجمه احياناً على الكف الواحد ثم تقضي الوقت الطويل احياناً الساعات في ايجاد وريد صالح لاعطاء السوائل للطفل في وقت لم يكن عندنا غير الابرة التي على شكل (فراشة ) ولها جناحان من البلاستيك. كان علينا بتثبيتها بالاشرطة اللاصقة بعناية ودقه ثم تثبيت الذراع كله على لوح صلب بالاشرطة اللاصقة, ثم ربط الذراع بالسرير. ورغم ان هناك العديد من الممرضات الا انه كان من الممنوع ان نسمح للمرضات بمحاولة ايجاد الوريد, وبذلك تعلمت أن أعطي السوائل للطفل وتعلمت ان احرص على حماية ورعاية (اوردة) مرضاي مخافة ان احتاج اليها في اليوم التالي!. كان لا يسمح لاي شخص ان يسحب الدم من الأطفال مهما كان عمرهم سواء كان يوم واحد او خمسة عشر سنة إلا من قبل الطبيب فقط!, وبذا تمكن من السيطرة على الامراض الانتقالية وعلى النظافة, والحرص على ان جميع مرضاه هم بإشراف مباشر ومستمر من قبل الأطباء.

كانت ردهة الاطفال كبيرة جداً اذكر انها قد تستوعب اربعين طفلا ان لم يكن أكثر وكان هناك غرفة جانبية عند مدخل الردهة. في الغرفة الجانبية  كان من واجبي كطبيب دوري ان أقوم باجراء سحب (السائل الشوكيCSF) من العمود الفقري للطفل المشتبه بإصابته ب(التهاب السحايا meningitis) فور وصول الطفل الى الردهة!, ثم القيام بوضع السائل تحت المجهر الموجود على طاولتي وبعدها حساب عدد الكريات البيضاء ومن بعدها تلوين الشرائح بصبغة (گرامGram) الخاصة بالجراثيم, ثم البحث عن الجراثيم تحت المجهر, وفي النهاية  كتابة ذلك بتقرير نهائي, و كل ذلك فور وصول الطفل, ثم بدأ العلاج فوراً!.

كان من واجبي وانا طبيب دوري قد تخرجت قبل تسعة شهور فقط. ان اضع الطفل في الوضعية الخاصة على جنبه تمسك به احدى الممرضات,ثم اقوم بغرس الابرة الخاصة بسحب  نخاع العظم من عظمة الحوض,ثم اقوم بفرش الدم على الشرائح الزجاجية التي عددها عشرة او اكثر, ثم تجفيفها وترقيمها ثم تغليفها بشكل فني وإرسالها الى المختبر في الصباح التالي, وذلك لكل طفل مشتبه بإصابته بال(كالازارKala Azar) وهو طفيلي يعيش في داخل خلايا نخاع العظم وفي أجزاء أخرى من الجسم مسبباً فقر دم وتضخم في الطحال والكبد, وكان منتشراً في مناطق المحمودية واللطيفية وفي الاقضية والنواحي الاخرى المحيطة ببغداد.

 كل تلك كنا نجريها اضافة الى الفحوصات الاخرى المختبرية مثل فحص الادرار والخروج والسكر في الدم وغيرها في وقت لم تكن هناك الاجهزة المختبرية الاوتوماتيكية السريعة متوفرة في اي مكان.

كانت هناك معينة قصيرة وبدينة كأنها الكرة كانت كنيتها (ام علي), كنا نطلب منها ان تساعدنا بالإمساك بالطفل عند إجراء سحب السائل الشوكي او الدم من نخاع العظم.كانت تدخل الصالة الجانبية مرتدية زيها الذي يشبه (البيجاما) الرصاصية اللون متلفعة بالفوطة البيضاء وهي تتدحرج  هازّةً ذراعيها يميناً وشمالاً استعداداً للواجب الذي تتقن القيام به, وهو الامساك بالطفل بالوضعية الصحيحة الخاصة بالتحليل المطلوب!. فوضع الطفل أثناء سحب السائل الشوكي غير وضع الطفل أثناء سحب دم نخاع العظم, وكانت تتقن الامساك بالطفل وتقييد حركته تماماً في كلتا الوضعيتين دون أن تسبب له اي اذى! كانت تقف في الجهة المقابلة لي من سرير الفحص, وتهم بالإمساك بالطفل وهي تسألني (گيمرو؟ لو سيسبان؟) فأجيبها (گيمرو) تضع الطفل فوراً في الوضعية المناسبة. (گيمرو=قيمر) هي الاشتقاق الذي اهتدت إليه (أم علي) لكلمة (بون ماروBone marrow) وسيسبان (سي اس افCSF)! وعودتّنا نحن ان نتواصل معها على ان التحليل هو اما (كيمرو) او (سيسبان)!

كان (محمود البحراني) يتفقد ويتأكد بنفسه ان جميع تلك الإجراءات قد قمنا بها نحن أطباء الردهة وفور وصول المريض الى الردهة وفي كثير من الأحيان كان العلاج الكافي والصحيح قد بدأنا به خلال نصف ساعة من وصول الطفل الى الردهة, وبذا كنا –في بغداد و بالإمكانيات البسيطة المتاحة لنا- متفوقين حتى على بعض اكثر الاماكن تطوراً في العالم.

أثناء جولته الصباحية والتي تبدأ في الثامنة صباحاً وقد لاتنتهي قبل العاشرة صباحاً كان لا تضيع الفرصة من اعطائنا موجزاً عن آخر المستجدات والتطورات في علم طب الأطفال والتي كان قد قرأها في اليوم السابق.علمّنا (محمود البحراني) كيف نقرأ بشكل سريع فهو احد أمهر الناس الذين التقيت بهم في القراءة السريعة كانت تصله المجلة الطبية باللغة الانكليزية فيقرأها بمعدل صفحة كاملة في الدقيقة اي ستين صفحة في الساعة الواحدة.حاول تعليمي على تطوير إمكاناتي في القراءة السريعة وقام بتدريبي عليها وهو أمر لم نتعلمه من أحد طيلة مكوثنا في الكلية الطبية في السنوات الستة الماضية! كان يحدثنا ان الانسان عندما يقرأ سريعاً وذلك بتدريب نفسه على ان يمرر عيناه من الاعلى الى الاسفل فقط وليس بتحريكها على طول السطر من اليمين الى اليسار (او العكس حسب ان كنت تقرأ مجلة عربية او انجليزية), فإنك سوف تتمكن من الانتهاء من صفحة كاملة في دقيقة واحدة ووفق الدراسات فإنك تكون فعلاً استوعبت 70% سبعين بالمائة مما هو مكتوب فيها من معلومات وبسرعة صفحة واحدة بالدقيقة.اما اذا كنت تقرأ بالطريقة التقليدية بتمرير عيناك على كل كلمة وكل حرف فانك سوف لن تنهي الصفحة الواحدة في أقل من خمسة دقائق ووفق الدراسات فإنك تكون قد استوعبت 75% خمسة وسبعين بالمئة مما هو مكتوب فيها من معلومات اي ان المحصلة في النهاية هي تحسن بنسبة 5% خمسة بالمئة فقط في معلوماتك مقابل صرف خمسة أضعاف الوقت! اي أنك سوف تنهي الستين صفحة بخمسة ساعات بدلاً من ساعة واحدة!.وبما أن الكثير من الناس الأكاديميين والاختصاصيين لا تتوفر لهم ساعات طويلة من الفراغ فإنهم بالضرورة سوف لن يتمكنوا إلا قراءة جزء صغير جداً من المجلات التي تصل الى ايديهم!

     جزى الله (محمود البحراني ) خير الجزاء عني وعن الاخرين فقد انفق الكثير من الجهد والوقت في محاولة تدريبنا على القراءة السريعة, وبقيت انا بين مد وجزر حيث انني كنت اطبقها لفترة واتركها لفترة ولم استمر عليها. لكنها نفعتني كثيراً جداً عندما كنت احضر لامتحان الجزء الاول من شهادة الاختصاص في الطب الباطني ال(ام ار سي بيMRCP) حيث كنت أعمل كطبيب مقيم في المستشفى في انكلترا ولم آخذ أي اجازة من العمل حتى ولا يوماً واحداً, ولكني كنت وبواسطة طريقة القراءة السريعة التي يعود الفضل في تدريبي عليها الى استاذي الكبير (محمود البحراني) فقد وصل بي الرقم القياسي عندما كنت أتمكن من الانتهاء من كتاب طبي ( ذو الثلاثمائة صفحة) في اليوم الواحد! ولكني الان عدت الى الصفر وعدت الى طريقة القراءة البطيئة غير المجدية وياليت انني تدربت عند (محمود البحراني ) أكثر فأكثر على طريقته الرائعة في القراءة السريعة.

 هل يوافقني من يقرأ ما كتبته لحد الان عن ان مثل هذا الشخص لا يمكن وصفه إلا بكونه انساناً رائعاً؟

         الامر الاخر الذي تعلمته منه وترك بصمته على حياتي الطبية وعلى مهنتي كلها هو كيفية التعامل مع الناس. كان انساناً رائعاً جداً في ذلك  بل هو الافضل على الاطلاق! كان يبذل الساعات في تعليمنا كيفية التعامل مع ذوي الطفل في أثناء علاج الأطفال وكان ممثلاً من الطراز الاول! فقد كانت تأتيه المرأة من المناطق الفقيرة المحيطة ب(مستشفى الكرامة)وطفلها يعاني من التيبس بسبب التقيؤ  والإسهال الشديدين. عادةً ما يكون الطفل قذراً جداً لم يحصل على اي استحمام منذ مدة طويلة وشعره الطويل واضافره الطويلة والمخاط المتيبس حول منخريه تفضح كونه مهملاً تماماً.ولكن (محمود البحراني) كان يقول للام "جزاك الله كل خيراً, أنت أحسن اُم! وانت معتنية بطفلك احسن عناية!, انت ام ممتازة, لكني أريد منك فقط ان تغلي الماء عندما تعطيه للطفل بالطريقة كذا, واريد منك ان تحمميه بالماء والصابون بالطريقة كذا, وان تعطيه الدواء بالطريقة كذا, وبارك الله فيك فانت أم جيدة جداً)!. في البداية كنا ننظر الى ذلك ونحن غير مصدقين مانرى وما نسمع! ماذا يقول هذا الرجل؟ هل هناك اسوأ من هذه الام؟ وهل هناك اكثر منها اهمالاً؟ ولو كان الأمر متروك لي لكنت خلعت حذائي وضربتها على رأسها حتى أدميه ماهذا النفاق؟ وما هذا الكذب؟.

     لكن (محمود البحراني) كان يستدير إلينا ويكلمنا بالانكليزية, و يقول "لا تصدقوا أن هناك في الارض كلها ام لا تحب ابناءها, كل الامهات يحببن ابنائهن ولسنا اكثر شفقة منها على ابنها ولا يمكن ان نكون اكثر حناناً عليه منها.إنها اهملت ابنها ربما بسبب الجهل وبسبب الفقر وبسبب الجوع, ربما كانت تعمل للاخرين, وربما كانت المعيل الوحيد لأسرتها. بدلاً من توبيخها وأهانتها وخلق منها عدوةً لنا, فان الافضل ان نمتدحها كي نشعرها بكرامتها, ان نشعرها باننا نحبها ولا نكرهها! وبذلك نكسب ثقتها وتعاونها معنا ثم نبدأ بتعليمها أصول الصحة والعناية بابنها وبذلك نصل الى الهدف الذي نريده في النهاية منها, وهو العناية بالطفل والوصول به إلى أفضل وضع ممكن!".  

تعلمت منه اذاً كيف اتعامل مع الناس ومع المرضى,كيف انني اذا كسبت الام فانني اكسب الطفل وربما انعكس ذلك على كل تصرفاتي مع المرضى فيما بعد سواء في (الاطفال) او في طب (الباطنية) او (طب المفاصل), ان اتعامل مع البشر بعطف وتفهم لضروفهم. أن لا أطلق احكاماً مسبقة متهورة, أن لا اتصرف معهم وكأنهم كلهم خطاة وكأني معصوم من الخطأ!. هل هناك من علمني ذلك أفضل من (محمود البحراني)؟ لا أتذكر.

هل أطلت في مدحه ربما! ولكني ولحد هذه اللحظة وانا اكتب هذه الكلمات فانني اشعر انني لم أوف الرجل حقه ولم اتحدث بما يكفي عن كم كان ذلك الرجل رائعاً وكم تعلمت منه الكثير..الكثير.



تعليقات

  1. كل كلمه وردت هنا رائعة جدا وتحمل الكثير من القيم والأخلاق والأهداف النبيله التي نفتقدها اليوم.. حقيقة استاذنا العزيز ان مدونات ماهي إلا دروس لهذا الجيل من الأطباء وكل أمنياتنا ان يتمعنوها ليروا كيف كان الطب رغم بساطة الامكانيات وكيف أصبح رغم كل ماهو متاح اليوم.

    ردحذف
  2. صباح الخير
    الله يحفظكم ويحفظ العراق معكم لما يحبه الله ويرضاه أحسنت النشر دكتور

    ردحذف
  3. مهما بلغ العلم من التطور..لااعتقد انه سوف يكون بديلا للطبيب..فالطب حرفة وليست مهنة. تحياتي لحظرتك والى الدكتور الرائع البحراني..

    ردحذف
  4. عاشت الأيادي استاذ والله يوفقك ويسعدك ويوفق الدكتور البحراني وكل الكلام الذي ذكرته بحقه يدل على انه انسان راقي جدا والله الموفق

    ردحذف
  5. اكثر من رائع أسلوب السرد اللطيف وان الأستاذ محمود البحراني كان مثلك .نأمل أن يؤخذ عنه أجيالنا المعاصره..وفقك الله وأطال عمرك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب