2-14 ما أحلى النصر بعون الله

2-14 ما أحلى النصر بعون الله


         زميلي (جواد).  كان انساناً متميزاً ومن نوعية خاصة من البشر,  محبوباُ طيبا الى ابعد حدود الطيبة،  لكن هذا الانسان اللطيف يمكن أن يتحول إلى إنسان عنيف  إذا أزعجه أحدهم!. وكنت اسمع عنه بعض الأخبار عندما كنا طلبة في الكلية,  وكيف أنه يدخل في مشاجرات (عرٌاك) ولا يتوانى بضرب من يخالفه الرأي أو يستفزه، رغم انه متوسط الحجم والطول. كان فكّه الاسفل بارزاً قليلاً و ذا حواجب كثيفة وشارب كثّ..

             ورغم انه زميلي وابن دورتي إلا ان معرفتي به عن قرب كانت في ربيع 1974 في اخر ثلاثة اشهر من الاقامة الدورية في مستشفى الكرامة. فبعد أن تم نقلي من (مدينة الطب) بعد قيامي بدور قيادّي في إضراب المقيمين الدوريين فيها,  تم اصدار امر مباشرتي في مستشفى (الكرامة) ضمن قسم (النسائية والتوليد).  هناك وجدت (جواد) قد باشر في ذلك القسم في نفس ذلك اليوم. خلال إسبوعين اقنعني (جواد) ان إختصاص (النسائية والتوليد) ليس لنا فيه (ناقة ولا جمل)!. هو ليس ما نصبو إليه، وليس مانحّب أن نستمر بالعمل فيه خلال الأشهر الثمينة المتبقية.  وتولدت لدينا  قناعة بأن الأسبوعين الأوليين لنا في هذا الاختصاص قد علمتنا ودربتّنا على (كل شئ)! في عِلم (النسائية والتوليد), فقد  صرنا ماهرين في فحص الحوامل وسماع قلب الجنين  بال(مسماع القمعي), وأجرينا لوحدنا عدة عمليات (كرتاج)، كما قمنا وبسهولة إجراء (بضع الفرج episiotomy) وخياطته, وليس هناك أكثر ما يمكن تعلمه!.

       زميلي (جواد) كان يحلم بأن يتدرب على (جراحة الكسور) في الشهرين المقبلين, أما انا فكنت أرغب وبشدة بالتدريبّ على (طب الاطفال). وبما أننا في آخر ألأشهر الثلاثة من الإقامة الدورية, وسيتم تسويقنا بعدها للخدمة العسكرية, فهي فرصتنا الوحيدة المتبقية لتحقيق أحلامنا.

       إقناع المعنيين في المستشفى أمر غير وارد ولن يحصل ابداً, لأننا مهما تكلمنا وتوسّلنا فلن ينقلونا من (النسائية), لذا فقد كان علينا التصرف بسرعة (واتخاذ استراتيجية اخرى)!

        نظام العمل بعد الدوام في المستشفى لجميع الاختصاصات هونظام هَرَمي, فأول من ينزل الى الردهة ,عندما يتم استدعاء طبيب, هو الطبيب الدوري.  عليه الذهاب فوراً للقاء المريض, ثم يقوم بفتح إضبارة دخول جديدة للمريض, ويستمع الى قصّته مع المرض وتاريخه ويدونّه, ثم يقوم بملء الاستمارة الخاصة بالدخول. بعدها يجري الفحص الأساسي الأولي, وإن تمكن من علاج الحالة من ألفِها الى يائها, وحل كل المشكلة بنفسه فهو خير, أما إذا لم يتمكن من معالجة المريض, فعندها (وعندها فقط), يسمح له  بالاتصال بالطبيب المقيم الأقدم, والذي يكون عادة مستمتعاً بالراحة والهدوء ومشاهدة برامج  التلفزيون في دار الأطباء. المقيم الأقدم يستفهم عن حالة المريض ويقوم بفحصه, و يبقى الطبيب الدوري معه لمساعدته  والتعلم منه. في حالات (نادرة جداً), (وغير مرحّب بها), يقوم المقيم الاقدم باستدعاء الطبيب الإختصاصي الخافر في ذلك اليوم للمجئ والمساعدة.

       ما أن يرن جرس الهاتف في (دار الاطباء) في مستشفى (الكرامة), ونعرف أن ردهة (النسائية والتوليد) تطلب من احدنا الحضور, كنا انا و(جواد) نذهب سويةً الى (الردهة النسائية). الحالة المرضية التي تأتي بعد الدوام هي عادةً إما إمرأة قد اشتد بها ألم الطلق وأوشكت على الولادة, أو أن الحالة هي نزف و(اسقاط مهدد) لحمل مدته اثنان أو ثلاثة أشهر. عندها وقبل ان يكتب (جواد) كلمة واحدة او يتركني أكتب كلمة واحدة, يقول لي:

 "سامي.. أنت لتفكّ حلگك" 

ثم يتوجه بالخطاب الى المرأة وأهلها قائلاً بلهجة أقرب الى التهديد:

 "تريدين احنا نفحصچ؟".

         وكان منظرنا ب (زلوفنا)  وشواربنا الكثيفة (كان جواد صاحب أكثف حاجب واكثف شارب في دورتنا), و قمصاننا المفتوحة, و تعمدنا إبراز شعر صدرنا, منظرنا كان مصدر شك وريبة وتهديداً لكل امرأة وزوجها الذي يرافقها! ثم وبدون انتظار اجابة المريضة او ذويها يضع (جواد) الحل الامثل والاكثر قبولاً امامهم:

 " تريدين أخابر الطبيبة تجي هي تفحصچ؟.. مو أسترلچ؟!) (أي= أكثر ستراً لكِ)!.

 طبعاُ لا يبقى هناك مجال للاختيار وفي كل مرة كانت المرأة وزوجها (يصّرون) على استدعاء الطبيبة!.

        وهنا يرفع (جواد) سماعة الهاتف ويتصل ب(دار الطبيبات) طالباً التحدث الى الطبيبة القدمى المستمتعة براحتها أمام شاشة التلفاز قائلاً لها بالانجليزية: 

"دكتورة المريضة وذويها يرفضون وبشدة أن يفحصها طبيب ذكر"!.

       تأتي الطبيبة القدمى المسكينة  بينما ننسحب نحن الى نعيم وراحة دار (الاطباء) نستمتع بمشاهدة التليفزيون!. والحق يقال فإن البغداديين والبغداديات في ذلك الوقت وحتى في تلك المنطقة الشعبية (الشيخ معروف والدوريين), حيث يقع (مستشفى الكرامة),  لم يكن لديهم مانع أن يقوم رجل بفحص النساء. وحتى الفحص الداخلي النسائي لم يكن الناس يمانعون فيه, أو أن يساعد الطبيب الذكر في التوليد, بالنسبة لهم الطبيب هو (أب ثاني), وهو يحمل قدسية الانبياء,  بل وإن النساء كنّ يفضلّن الطبيب الذكر على الطبيبة الانثى في فحص وعلاج ما يتعلق بالنسائية والتوليد, لأنهن يجدن منه تعاطفاً وحناناً أكثر من الطبيبة, وهذا مايفسر النجاح الكبير لكل من تخصص ب(النسائية والتوليد) من زملائنا الذكور.

      (وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني كم تتعرض النساء للإهانات والاستخفاف, واحياناً الاساءة المفرطة, -وللاسف- من قبل بعض الطبيبات المحسوبات على النسائية (في إحدى المرّات وعندما كانت احدى المريضات تتلوى من شدة الالم وتصرخ وتستغيث اثناء الولادة  لم يكن للطبيبة من تعليق الا ان تقول لها: "انچبّي واسكتي.. لَعد شچنتي تعرفين من نمتي جوّه الرجٌّال)! ظلم وإساءة وبذاءة.

       في يوم آخر تم إستدعاؤنا إلى ردهة النسائية. نفس القصة.. شابة مصابة بنزف (إجهاض مهدد) يرافقها زوجها.. رجل قصير (مدحدح).. له كرش يجعله اشبه بالكرة يرتدي  دشداشة ونعال.. سألها صاحبي:

"چم مرة حبلتي؟ چم مرة جبتي؟"

كان ردها "خمس مرات حمل زائد ولادة"..

نظر لها متعجباً : "انتي شكد عمرچ"؟

أجابته " تلاثة وعشرين!"

سألها مستغرباً "بعدچ عمرج تلاثة وعشرين وعندج خمس جهال؟"

وهنا تدخل زوجها بالإجابة مبتسماً وهو يمسح بشكل دائري على (كرش) كبير تحت (دشداشة) كانت في يوم ما بيضاء!

" دكتور.. إحنه انتاجنه قوي!"

وفوجئت ب(جواد) وهو يقول له  ناهراً

" من خُفى هل إنتاج! متباهي بإنتاجهم! هسه كلهم يطلعون انشتاين!"

بلعها الرجل وسكت فمنظر شوارب وحواجب (جواد) تنذره بأنه سيخسر المعركة! بينما كنت أضحك في داخلي على جرأة صاحبي!

أعاد (جواد) الاقتراح على زوجها.. تريدون أخابرلكم الطبيبة تجي تفحصها؟

أجاب الرجل "دكتور.. ميخالف.. انته إفحصها!"

إقترح (جواد): "لو تفحصها طبيبة.. مو أسترلكم؟"

       صارت ظاهرة (رفض المريضات أن يفحصهن طبيب ذكر) القاعدة العامّة في ردهة (النسائية) في مستشفى الكرامة!, فجأة جميع النساء صرن يرفضن الفحص من قبل (طبيب ذكر), وبدأ المسؤولون في قسم النسائية والتوليد يتململون ويضيقون ذرعاً بنا, وكانت  القشّة التي قصمت ظهر (النسائية والتوليد في مستشفى الكرامة) عندما رفضنا أنا و (جواد) القيام بتغطية العمل في العيادة الخارجية في (النسائية), بحجّة أننا  لم نحصل على العلم والتدريب الكافي لتمشية امور العيادة الخارجية الاستشارية، ورغم تهديد ووعيد رئيسة قسم النسائية، إلا أننا لم نرضخ للتهديد إذ من غير الإنساني ان نقوم بواجبات العيادة  الخارجية ولم يمض على دوامنا في هذا الإختصاص غير اسبوعين.

      اقتنع جميع المعنيين ان لا فائدة ترتجى منّا للنسائية, واننا اسوأ مقيمين (نسائية وتوليد) في تأريخ الاقامة الدورية!. وبعد بضعة أيام جلس (رئيس الاطباء المقيمين) للتفاوض معنا, يرجونا ويخيّرنا أن نطلب أي اختصاص آخر للانتقال إليه!.

       كان رئيس المقيمين يعرف جيداً مانريد,  وكان لنا ما أردنا, حيث نسب  (جواد) الى (الكسور),  وذهبت انا الى (الأطفال) كي نقضي فيهما حوالي شهرين ونصف!

        و(ما أحلى الصمود الذي يصنع النصر)!.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب