2-13 الإسعاف الفوري

2-13 الإسعاف الفوري



خفاراتنا الليلية والتي تمتد من أول الليل وحتى الصباح في (الوحدة الباطنية الخامسة) كانت من ثلاثة أنواع : (خفر ردهة) وفيها نبقى على أهبة الإستعداد لكل الحالات الطارئة  التي تحصل للمرضى الثلاثين أو الأربعين الراقدين (والراقدات) في الطابق الثامن, وكان ذلك يعني الحرمان من النوم طوال الليل في كثير من الأحيان..

الخفارة الليلية الاخرى كانت (خفارة العيادة الخارجية) وتكون في مبنى (المستشفى الجمهوري القديم) وهي (واجهة الصد الاولى) و لقاءنا الأول مع المرضى المراجعين  لمستشفانا.  ويكون الطبيب فيها مسؤولاً عن التمييز الأولي بين المرضى ذوي الحالات البسيطة و المتمارضين والذين يمكنه التعامل معهم وعلاجهم بما يتوفر له من أدوية  في صيدليته الخافرة (ِِAPC وحبوب سلفا ومست كارمنتف).. أو مرضى الحالات  الأكثر حرجاً وشدّة والمحتاجة لعناية  دقيقة أو مراقبة لبضع ساعات ورقود مؤقت على أسرّة, وهؤلاء يقوم طبيب العيادة الخارجية بتزويدهم بقصاصة ورق يشرح فيها السبب الداعي لإحالتهم الى (الإسعاف الفوري)..

الخفارة الليلية الثالثة كانت (خفارة الإسعاف الفوري)  (تم تغيير اسمه في السنين اللاحقة  الى (الطوارئ الباطنية)). وتكون في الطابق الأرضي من (مدينة الطب).  وهذه كانت (حفلة) حتى الصباح وبإمتياز! سعادة مابعدها سعادة!.  نكون محظوظين ان توفرت لنا ساعة من الراحة وجلوس أعجازنا على كرسي (وليس النوم)! أولئك كانوا المرضى المصابين بجلطة قلبية أو دماغية أو شلل مفاجئ، نوبات ربو شديدة توشك ان تقتل المريض وقد ازرقت شفتاه وتوقف  عن التنفس،  غيبوبة مفاجئة مجهولة السبب, مغص شديد والآم شديدة غير مستجيبة للعلاج التقليدي، عجز رئة أو عجز قلب أو عجز كلى أو عجز كبد وحالات اخرى عديدة!. كان الثقل الأكبر في تلك الخفارات ملقى على المقيم الدوري، مع مشاركة و(إطلالة كريمة) في الساعات الاولى من الليل من قبل الطبيب المقيم الأقدم، أمّا بعد انتصاف الليل ف (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)..

تعلمت منذ الأسبوع الأول في مدينة الطب أن أفضل خدمة يمكن ان اعملها للمرضى الذين يعانون من أعراض أمراض القلب من ذبحة أو عدم انتظام دقات القلب أو ارتفاع ضغط الدم أو احتمال جلطة قلبية.. الخ جميع تلك المشاكل لها حل واحد اسمه (لؤي الحافظ). (لؤي) طبيب مقيم دوري مثلي وكان زميلي في (كلية بغداد) وتخرج في نفس دورتي من كلية طب بغداد. كان (لؤي) يعمل في شعبة (انعاش القلب Coronary Care Unit CCU) وتقع في الجانب الآخر من الطابق الثامن في مدينة الطب, كما كان بحكم هذا الموقع رئيس مجموعة (فرقة التحليق Flying Squad) وهي فرقة ثلاثية رائعة مكونة منه واثنتان من الممرضات. يكفي ان ارفع سماعة الهاتف على بدالة مدينة الطب كي ينادونهم بمكبرات الصوت المركزية: 

"على فريق إنعاش القلب التوجه فوراً الى الإسعاف الفوري". 

أحد مصاعد (المدينة) كان مخصصاً  لهم و كانوا يأتون بأقصى سرعة, يسحبون معهم عربة تحتوي على جميع تجهيزات القلب من جهاز (الصعقة الكهربائية القلبية) والمغذيّات الوريدية الخاصة والحقن التي تزرق مباشرة داخل القلب, وعادة تستغرق المدة بين  النداء ووصولهم الى  سرير المريض مدة لا تتجاوز الخمس  دقائق أو أقل من ذلك!.  صديقي وإبن دورتي (لؤي) وبحكم المدة التي قضاها في هذه (المهنة) صار خبيراً بها وكنت استشيره في كل مايتعلق بحالات القلب حيث يكون ساهراً حتى الصباح في (ردهة انعاش القلب) في الطابق الثامن, وكان لا يكلّ ولا يملّ ولا يتوانى في تقديم النصح والإرشاد بخصوص كل مريض, وتعلمت منه الشئ الكثير.

في إحدى المرات وصل مريض في حوالي الأربعين من عمره وكان يشكو من آلام مبرحة في صدره وتعرق شديد. ورغم إن علاماته توحي بأنه مصاب بالجلطة القلبية (او بالفصحى: احتشاء العضلة القلبية), لكن لم يكن هناك اي تغيير واضح من تخطيط القلب على ذلك, وبينما كنا في طور فحصه توقف القلب عن النبض تماماً. وتبين من تخطيط القلب حصول ارتجاف العضلة القلبية (Venticular Fibrillation) وجهت نداء ل(فرقة التحليق),  اعطاني (لؤي) توجيهات فورية حول ما أفعله, ثم كانوا جنبي في أقل من ثلاث دقائق واستغرقت مداخلاتهم حوالي الربع ساعة انتهت بصعق القلب بالكهرباء وعاد النبض للمريض, واطمأن الجميع عليه وغادرت تلك الفرقة..

بعد ساعة واحدة قضيتها في العناية  مع ثماني أو عشر حالات  مختلفة من عجز كلى، و ربو  شديد الدرجة, وفجأة علمت بتوقف قلب المريض ثانية, وخلال دقائق كان (لؤي الحافظ) وفريقه جنب المريض و انتهت مهمتهم بصعق قلب المريض وإعادته للنبض الطبيعي وعودته للحياة. مازالت ذكرى ذلك المريض ماثلة أمام عيني فقد قام (لؤي) وفريقه بجهود جبارة  عادوا فيها ست او سبع مرات في نفس تلك الليلة  الى جنب المريض لإسعافه, وفي النهاية باءت كل جهودنا بالفشل وتوفي المريض الى رحمة الله. لو كان المريض حيّاً الآن فربما كان سيستفيد من الأجهزة الحديثة المتطورة التي يزرع فيها سلك دائمي داخل إحدى حجرات القلب وبإمكان السلك أن يتحرّى أي خلل في كهربائية ونبض القلب لينقلها الى جهاز لايتجاوز حجمه علبة الكبريت العادية - يحمله المريض في حزامه- ويقوم بتحليل البيانات تلقائياً ثم بإعطاء الصعقة الكهربائية الى القلب في الوقت المناسب, وإعادة القلب الى عمله الطبيعي..

وطيلة فترة عملي في مدينة الطب, كان (لؤي الحافظ) أحد اروع الأشخاص الذين ساعدوني في أداء عملي وإسداء المشورة والنصح دون توانٍ أو منةٍ أو كسلٍ. بارك الله فيه وجعلها في ميزان حسناته.

من الحالات التي لن يمكنني ان امحوها من ذاكرتي هي تلك السيدة الأربعينية التي جاءتني في خفارة (الإسعاف الفوري) وهي تصيح وتستغيث من آلام شديدة في بطنها. فحص بطنها كان طبيعياً تماماً ورخاوة جدار بطنها طبيعية، مما جعلت الزملاء الجراحين يرفضون اي تداخل معها لإستكشاف بطنها, لأن العلامة الرئيسية التي يبحثون عنها لفتح البطن هي تصلب جدار البطن.. كذلك كانت الأشعّات التي أجريتها لها وهي نائمة وواقفة طبيعية وكذا التحاليل المتوفرة في ذلك الوقت.. ورغم جميع الأدوية المسكنة للألم بما في ذلك (المورفين والبثدين) كانت تهدئ من آلامها لوقت قصير ثم تعود للصراخ من شدة الألم!. لم يبق طبيب من زملائي من  مختلف الإختصاصات لم أستشره ولم يعرف  أي منهم  ماذا نفعل!. لاتزال صرخاتها ترّن في اذني (دكتور.. اشتريني)!.. وفي الصباح توفيت رحمها الله. 

كان السياق العام  في ذلك الوقت ان المرضى المتوفين لأسباب مجهولة يرسلون الى الطب العدلي للتشريح وإجراء الفحوصات  النسيجية عليهم لمعرفة سبب الوفاة.

في يوم السبت اللاحق وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً تماماً كان موعد  (إجتماع الوفيات Mortality Conference) وفيه تناقش اسباب وفاة كل مريض قد توفي في ذلك الأسبوع في مدينة الطب, وهو إجتماع مشترك يحضره أساتذة  الباطنية والجراحة والباثولوجي السريري, ويجلب فيه  جهاز خاص لعرض  الشرائح  النسيجية للمتوفين على شاشة  كبيرة ويقوم استاذ الباثولوجي السريري بشرح ما وجده من  أسباب لوفاة المريض. كانت المفاجأة كبيرة عندما كانت تلك أول حالة انسداد الشريان البريتوني (Mesentric Artery Thrombosis). ولم تكن  لدينا في ذلك  الوقت أية وسيلة  لتشخيص تلك الحالة كما هو الآن من اشعّات  مقطعية ورنين وغيرها. وبعد مرور أكثر من خمسة وأربعين عاماً لايزال نداؤها (دكتور..اشتريني) يؤرقني احياناً.

النظام في (الإسعاف الفوري) إنك يجب أن تحاول بأي ثمن إسعاف مرضاك, وإجلاء المرضى الذين تماثلوا للتحسن بأسرع فرصة كي تبقى عندك بضع أسرة فارغة تحسباً للطوارئ, كما إن من المهم تسليم جميع الأسرة فارغة تماماً في الثامنة صباحاً عند إستلامها من قبل الوحدة الباطنية الخافرة في اليوم التالي حتى لو إستدعى الأمر نقل كل من تبقى من مرضى الى اسرّة وحدتنا في الطابق الثامن. أهون المرضى  هم مرضى الربو الحاد فقد كانوا يتحسنون بسرعة على ابر (أمينوفيلين) بالوريد وبضع شهقات من  (الأوكسجين).  أما أصعب المرضى والذين كنا نصاب بالإحباط عند استلامهم فكانوا مرضى (عجز الكلى المزمن). لم نكن نعرف كيفية التعامل معهم كما لم يكن في متناولنا إجراء غسيل كلى  لهم, لذلك فقد كان همّنا أن نعرف في أي طابق كان المريض راقداً آخر مرة ثم نقوم بإحالته لنفس الطابق مع رسالة قصيرة تذكر (حسب العائدية). كان كثير من أولئك المرضى لايتذكر في أي طابق كان راقداً في المرة السابقة, ورغم أنه كان يزود عند خروجه من المستشفى ببطاقة يكتب فيها التشخيص والردهة ورقم التسجيل, الا انهم –وكالعادة- كانوا يفقدونها. لذا فقد برعت  الممرضات بأساليب إستجواب عجيبة، أين  منها (شرلوك هولمز)،  لكي يعرفن في أي طابق كان يرقد ذلك المريض!. منها الإستفسار عن الطبيب المقيم الذي كان قد قام بمعالجته.

ممرضتنا (كفاح)  كانت تستجوب أحد مرضى عجز الكلى..

س: الطبيب اللي چان يعالجك طويل ورفيع؟

ج: يمكن!

س: چان يلبس بنطلون (كاوبوي) ضيق وقميص ضيق وصدره مفتوح؟

ج: يمكن!

تستدير الممرضة لي وتقول "هاي اوصاف دكتور (م.أ) في الوحدة الثالثة!

س: چان يلبس حزام عريض وبي (قوبجة) حديد چبيرة؟

ج: يجوز!

س: چان دائماً بحلگه علچ (يعلك العلكة)؟

ج: أي

وتستدير (كفاح) منتصرة!  فقد (ثبتت الرؤية) والمريض كان راقداً  في الوحدة الثالثة عند زميلي (م.أ).. وفوراً نحيل المريض الى ذلك الطابق لمعالجته (حسب العائدية), ونترك للطابق ان يقوم بدوره في (إثبات نفي) أن يكون المريض عائداً له!!.

في الأيام التي تلت حصلت مشكلتان على الصعيد الشخصي: الأولى مشاركتي في قيادة إضراب المقيمين الدوريين في مدينة الطب والذي سبب حنق وسخط المسؤولين عن إدارة المدينة.

الأمر  الثاني كان اصطدامي مع الدكتورة الجميلة والأنيقة سهى رسام!.. ففي أكثر من مرة كانت تأتي لأخذ عينّة من كبد أحد المرضى, (لكونها بالدرجة الاولى اخصائية كبد),  وعندما لاتجد الادوات الخاصة بتلك العملية حاضرة ومعقمة فإنها كانت تصب جام غضبها على رأسي!, سكت لها مرة , وفي المرة التالية وعندما كنت مصاباً ب(متلازمة الإعياء الشديد) لكثرة الواجبات الملقاة على عاتقي, فقد تجرأت وصحت في وجهها بأن هذا ليس من واجبي!  وان عليها التنسيق مع ممرضة الردهة المسؤولة عن تعقيم  الأدوات وتجهيزها!, و ان عندي من الاشغال ما يكفيني!. فوجئت (سهى رسام)، الإنسانة الرقيقة بثورتي وتمرّدي و بالطريقة الحادة التي أجبتها!  ورغم انها كانت شديدة الأدب في تحاورها معي, الاّ انني متأكد ان ذلك الصدام معها كان أحد أسباب نقلي إلى الوحدة الباطنية الثانية!.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب