7-النقيب عزت

هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 

7-  النقيب (عزت)

اد سامي سلمان

      النقيب (عزت) كان انحف شخص في هذا الفوج!  لم يكن يتعدى وزنه الخمسين كيلوغرامًا , أبيض-أحمر الوجه, أشقر الشعر مع الكثير من الشيب, له شارب رفيع. جميع ملامحه توحي بكونه من  مناطق غرب العراق, ثم عرفت فيما بعد  أنه (فلسطيني). كان هو الضابط الفلسطيني الوحيد الذي تعرفت عليه أثناء خدمتي العسكرية. كان يشعرنا ويذكرّنا دوماً بأن له أهمّية خاصّة لكونه يأتي بعد الرائد عبدالجبار (المساعد) في القدم العسكري, أي إنه سيكون (وكيل الآمر), يحل محل الآمر والمساعد في حالة عدم تواجدهما في المقر, وهو  ما كان يحصل بالفعل أحياناً. لذا فهو يمنح نفسه (أهمية متميزة) رغم ان رتبته (نقيب). 

       (القِدَم العسكري له أهمية كبرى في الجيش فهو يحدد تلقائياً وفوراً (مَن سيقود مَن)!. فمَن رتبته أعلى هو من يقود: (الرائد يقود النقيب). وإذا  تساوت الرتب, فمن هو أقرب الى جدول الترقية يكون من يقود (فمن سينال الترقية في العام المقبل هو أقدم ممن سيترقى بعد عامين), وإذا تساوى القرب الى جدول الترقية,  فإن  من ورد إسمه أولاً في جدول الترقية السابق يكون هو من يقود, لذا تكون هناك افضلية لمن إسمه (أحمد) على من إسمه (محمد) بسبب  تسلسل الحروف الهجائية العربية!) وهذا يعني ان وبالرغم من كون (أحمد ومحمد) قد حصلا على الترقية في نفس الجدول ونفس اليوم إلا إن (محمداً) يجب أن يحيّي (أحمدَ) بالإستعداد والتحية العسكرية وأن يناديه بلفظة (سيّدي)!. ومن القصص التي لاتنسى في الطبابة العسكرية العراقية إن في سنة 1974 قررت الجهات العليا أن تمنح رتبة (ملازم أول) لمن يتخرج من كلية الطب بعد يوم عيد الجيش (6 كانون الثاني ) من تلك السنة, (للمتخرجين الدارسين على نفقة وزارة الدفاع), وكان السياق السابق أن يمنح خريج كلية الطب رتبة (ملازم) مع قِدَم سنتين. هذا القرار كان فرصة ذهبية وهدية من السماء لمن  كان منهم راسباً في إمتحان الدور الأول في كلية الطب!, اذ وبعد نجاحهم في الدور الثاني فإنهم منحوا رتبة (ملازم أول) مباشرةً وصار زملاؤهم من المجتهدين والمتفوقين الذين  نجحوا من الدور الأول, صاروا ينادونهم ب(سيّدي) ويؤدون لهم التحية العسكرية بالاستعداد!).

      النقيب (عزت) كان ايضاً يتباهى بكونه (بعثيّأً) مؤمناً بأهداف الحزب والثورة (الوحدة والحرية والاشتراكية), كما يتباهى بكونه (ملحداً) لا يؤمن بالله او بالدين, كل ذلك كان يمكن أن  يكون مقبولاً لدى البعض, ألاّ إنّ خطيئته الكبرى التي لاتغتفر كانت هي إدمانه على الكحول.. فمن غروب الشمس وحتى منتصف الليل  كان يتناول الكحول بإفراط.. فهو يحصل على العرق الشعبي الرخيص الذي تصنعه قرية (عين كاوة) خارج أربيل, وربما كان الكحول  وعدم تناوله طعامًا مفيدًا سبباً لنحافته الزائدة, ورغم كوني والنقيب مهدي لا نشرب الخمر, وبما إننا لم يكن لنا ملاذ بعد الغروب سوى الجلوس في (بهو المقر), فقد كنا مجبرين على مجالسة ومسامرة (نقيب عزت) في  جلسات الخمر هذه, وهو لم يكن بذلك المتحدث الجيد او الممتع, لذا كان (النقيب مهدي) هو من يتولى زمام الحديث بأن يخوض في موضوعه المهم والذي هو ضليع فيه: انواع الجنس وأنواع النساء  واحجام  وتفاصيل أجزاء أجسامهن!.

      وفي إحدى الليالي المظلمة,  الشديدة البرودة, كان  كل من ال(آمر) و(المساعد) غير متواجد في معسكرنا, أحدهما في إجازته الدورية والآخر في إجازة مرضية, وبذا  صار (النقيب عزت)  آمراً للفوج بالاستعاضة (وكيل الآمر).  وفجأة تعرضنا لوابل من القنابل في قصف (مدافع هاون) تساقطت على أماكن مختلفة من مقر الفوج أثارت الذعر بين صفوفنا, كان من هو (خبير) من افرادنا قد أكّد لنا بأنها قد أطلقت من اتجاه قرية (قشقة) القريبة من مقرّنا, إذ يبدو أن من الممكن ان نحدد مصدر قنابل الهاون التي يمطرنا بها (العصاة).. وكانت من النوع الثقيل الذي أدى الى بعض الأضرار في مقر الفوج. أحد الذين أصيبوا بالهلع هو اوكيل لآمر (النقيب عزت) والذي كان في أشد حالات السكر. وبصعوبة أدار العتلة الجانبية للهاتف الميكانيكي عدة مرات ليتصل ب(فصيل الدروع) المتجحفل مع (السرية الثانية) المحاذية للمقر..  كنت استمع له وهو يتكلم مع ضابط الدرع (الملازم) الشاب  ويعطي أوامره بأن يوجه مدفع دبابته بإتجاه (قوشتبة) وأن يمطرهم بقصف من قنابل  الدبابة!. استوضح الضابط مرتين .. "سيدي (قوشتبه)؟ أنت متأكد (قوشتبه)"؟... صاح به الآمر "نفذ الاوامر دون نقاش, خذ إحداثيات (قوشتبه) التي عندك,  وابدأ بالقصف"!

      كان لا يزال يوجه أوامره بالقصف عندما قاطعته  قائلاً "سيدي .. قصف الهاونات  جاءنا من (قشقة) وليس من (قوشتبه)"!!.. (المنطقتين في اتجاهين متعاكستين تماماً، إحداهما في أقصى الشرق والثانية في أقصى الغرب!). إنتبه النقيب عزت -المخمور دوماً- الى خطئه وصحّح  أوامره .. وخلال دقائق كان المقر كلّه يهتز بأصوات القنابل التي تنطلق من الدبابة القريبة! أصوات تصّم ألآذان وتعصف بالجو...

     بعد هدوء وصمت ساعة,  أوشك الليل على الانتصاف  وبلغ مني التعب والنعاس مبلغاً.. أديّت  التحية العسكرية إستئذاناً.. وغادرت (بهو المقر) وأنا ارتجف غضباً من وكيل الآمر (الغبي السكّير).. الذي ولشدة سُكره كاد ان يتسبب بكارثة اخرى, بقصف منطقة (قوشتبه)  الآمنة.. والموالية لقواتنا.. ويروّع أهاليها في هذا الليل!. 

      وصلت الى خيمتي وما إن دخلتها حتى وجدت مصيبة اخرى تنتظرني!.. مدفأتي العزيزة (علاء الدين) التي كنت اتركها دوماً متقدة لإبقاء الخيمة دافئة.. كانت قد لهبت فتيلتها بسبب عصف قنابل الدبابة. وعندما تلهب فتيلة المدفأة فإنا تخرج لك دخاناً أسوداً كثيفاً قد انتشر في كل أرجاء الخيمة وصبغ جدران الخيمة وملابسي وفراشي وبطانيتي وجميع أجزاء الخيمة  بالسخام الاسود!.. وكانت مأساة أخرى بالنسبة لي في هذه الساعة المتأخرة من الليل.. ان اتعامل مع لهب ال(صوبة) وأن انظف ولو فراشي فقط .. كي اتمكن من النوم .. وأنا أتذكر المثل العراقي (منين ما تديرها,  سودة  مصخّمة)!..

        في صباح اليوم التالي كان فصيل من الفوج قد جلبوا صناديق خشب فارغة وبعض الأجزاء الخاصة بغطاء  فتيل قنابل الهاون.. جلبوها من موضع قريب من  قرية (قشقة).. وبذلك تأكد لنا إن القصف قد  جاءنا فعلاً من (قشقة). 

        ويبدو إن الناس  البسطاء في تلك القرية المسالمة قد أحسّوا بما عرفناه عن مصدر القصف, إذ بعد ساعة جاء رجال يرتدون الزي الكردي لإلقاء التحية على وكيل الآمر.. كانوا مختار وأعيان (قشقة),  ارعبهم قصف دباباتنا وسبب لعوائلهم ذعراً  شديداً.  جاؤا يجددون ولائهم,  وإن من قام بالقصف اناس خارج القانون ورغماَ  عن أهل القرية, وكان أعيان القرية قد جلبوا معهم بعض سلال الفاكهة وبعض (الدجاج)  الحي, معلنين انهم مسالمين ولا دخل لهم بمن قام بـقصفنا.. رحب بهم الآمر وطيّب نفوسهم. وبعد مغادرتهم, أرسل (الدجاج) الى (عريف المطبخ) كي يعدّه لغدائنا ذلك اليوم…

      تأخر غدائنا قليلاً ثم جائني (عريف المطبخ) والذي كان يحبني ويحترمني, كعادته كل يوم, جائني بصحن تشريب رائع وقد وضع عليه قطعة كبيرة من الدجاج.. وأخبرني إنه من (الهدية)  التي جلبها أهالي (قشقة).. دجاج طازج تم ذبحه اليوم.. أمرته أن يأخذ صحنه ويعود.. فأنا لا آكل طعاماً قد جاء بدافع الخوف او بنوع من الأتاوة (الخاوة), فهؤلاء الفقراء لم يكونوا سيجلبون هديتهم لولا  خوفهم من بطش دباباتنا!. وفي يومها بقيت على أشد حالات الجوع. (وفي نفسي بعض الحسرة) على تلك الوجبة التي رفضت أن أتذوقها.. من (ثريد الدجاج)!



تعليقات

  1. استاذ هذا عمر وتاريخ اتمنى ان يكون ضمن كتاب يخلد جميع هذة التفاصيل بحلوها ومرها

    ردحذف
  2. تفاصيل رائعه تسطرها باسلوب مشوق استاذنا الفاضل تؤرخ فيها حقبه مهمه من تاريخ العراق المعاصر أحسنت وابدعت وننتظر القادم

    ردحذف
  3. الاخ العزيز د سامي المحترم اهنئك على موهبة الكتابه هذه وبراعتك فيهاكبراعتك في الطب

    ردحذف
  4. سرد رائع وجميل جدا احسنت دكتورنا واستذنا العزيز

    ردحذف
  5. حبيبي عمو والله حقّك متاكل تشريب الدجاج الجاي بسبب الخوف لان اكيد چان ما بيه بركه حتى لو طيّب..و شكرا على المقال المفيد و الممتع كالعادة..صبا ام سامي الصغيروني

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب