2-6 مستشفى الحميّات.. رعب في بغداد.. وجلسات سمر

    2-6 مستشفى  الحميّات..رغب في بغداد.. وجلسات سمر

 أ.د.  سامي سلمان

            في تلك الاشهر من صيف عام 1973 مرّ العراق بأحداث خطيرة. فبعد مدة من تواجدنا في (مستشفى الحميات) دخَلتَ بغداد كلها بحالة من الفزع و الرعب الجماعي والهستريا العامة بسبب ذلك السفّاح الطليق وانتقاله من منطقة الى اخرى بجرائمه البشعة التي ارعبت العوائل العراقية وقضت مضاجعهم, ومما زاد الأمر سوءاً ان وسائل الاعلام العراقية  صورته (عمداً أو غباءً), انه يمتلك قدرات خارقة على اقتحام البيوت و تسلق اسوارها وقتل أصحابها بطرق وحشّية لم يسبق لها مثيل, و أسموه (ابو طبر) فهو يقتل باستعمال (الطبر- البلطة).

        وأصيبت بغداد بحالة من الرعب والهلع اقض مضاجع أهلهاو  وصار الأهالي في جميع محلات بغداد يتناوبون على الخفارات دون ان يناموا طوال الليل, خوفاً من تسلل ذلك السفّاح!. وأعلنت الحكومة إيقاف الطيران من وإلى بغداد و(حظر التجوال) لمدة يومين لتفتيش البيوت بحثاً عن أدلّة تمكنهم من القبض عليه. كما قامت الحكومة بطلب العون من بعض الدول الأوربية للنصح وإيجاد الطرق للبحث والقاء القبض على  السفاح (أبو طبر).

       أهلي كباقي الناس في بغداد مرّوا بحالة الرعب التي اجتاحت العاصمة, وامتلأت شعب الطوارئ في المستشفيات بمختلف حالات الهستيريا وبعض الحالات المؤسفة التي حصلت للناس بسبب الخوف والرعب والذعر وتصور إن (السفاح) مختبئ في حديقة كل بيت او كل زاوية من بيت!.

        انسحبت تلك الحالة المرعبة إلى مستشفانا!.  ممرضاتنا الخافرات  كن يخشين من النوم من شدة الرعب ولذلك كنا نجلس الساعات الطوال ليلاً ونحن نسهر, والكل يخشى ان يخلد للنوم خوفاً من مجئ السفّاح (ابو طبر). وبذا كانت (رب ضارة نافعة) فقد صرنا نستمتع بأحلى جلسات سمر في ليالي الصيف الحارة , وبعد نهار من التعب ومساء نكون قد أتممنا فيه علاج مرضانا وانتهينا من الدورة المسائية وتوزيع الأدوية, كان يحلو لنا انا و(م) الجلوس مع خفراء المستشفى من ممرضات وعاملات (معينات) وسائق سيارة الإسعاف ووالده حارس المستشفى, حيث الجو البارد في حديقة المستشفى, وأقداح الشاي (المهيّل) تدور علينا.

      إحدى الممرضات كانت تتمتع بصوت رائع وأداء اروع, مطربة حقيقية! .. وكان اختصاصها هو أغاني (أنوار عبدالوهاب).. ورائعتها التي تغنيها يومياً نزولأ عند رغبتنا بتكرارها, والتي صرت احفظها عن ظهر قلب.. (داده حسن)..

(كل الوجوه ثكال من يكبل هواي..

لا ام تحن لبجاي.. لا خالة وياي)..

 

طبعاً تغنيّها مع بعض ال(هزّات) الخفيفة للكتفين!..وهي ضرورية لضبط الإيقاع و الدخول في حالة الإنسجام مع اللحن!..

        ومن الطرائف ان إحدى المعينات كانت شديدة السواد.. لكنها لثقتها المطلقة بنفسها كانت تتغزل بسوادها..ورأيها أن المرأة السوداء مطلوبة في مجتمعنا! وإن (سوقها رائج)! لأنها (سوداء.. دواء للظهر)!!.. تقولها بقناعة وثقة مع الكثير من الغمز واللمز!!. ربما تكون قد تأثرت بالبيت الشعري لذلك الشاعر الكذاب المنافق  القائل:

الناس تعشق خالاً في وجه حسناءِ

فكيف لا أهوى حبيباً كلّهُ خالُ

         وبعد ذلك بسنين  طويلة  عندما صرت طبيباً للمفاصل, كنت احياناً  أمزح مع مرضاي المصابين بآلام مزمنة في الظهر وقد أعيتني الحيل في علاجهم ولا أجد اي  وسيلة للتخفيف من معاناتهم.. سوى نصح المريض بأن عليه الزواج.. من إمرأة سوداء!..

        وكان التسامر والحديث احياناً يتعدى حدود الممنوع!. حيث تبدأ كل مُعينة بالتباري مع الأخرى لتحكي لنا عن تجربتها (المريرة)!! في (ليلة زواجها) (ليلة الدخلة)! إحداهن قصّت لنا وبالتفصيل كيف هربت مرعوبة من (الرجل الغريب) الذي (دخل غرفتها), وكيف أنها إختبأت  تحت السرير, و إن عريسها اضطر لسحبها من قدميها حيث كانت متشبثة بأرجل السرير وهي تصرخ مستغيثة من شدة الخوف!.  

         والاخرى تحكي كيف ان زوجها كان ينام على سطح البيت في ليالي الصيف الحارة بينما  تنام هي والاطفال أسفل منه في باحة البيت, وعندما يرغب زوجها  فيها, فانه يبدأ بالقاء نوى التمر أو حصى صغيرة عليها لإيقاظها, وكيف إن الحصى كانت أحياناً تخطيء هدفها و تسقط على رأس أحد أطفالها النائمين, فيستيقظ الطفل مالئاً  الدنيا عويلاً و صراخاً والدم ينزف من رأسه, وينهي احلامهما بالحصول على (ليلة رومانسية) ممتعة..قد أفسدها عويل طفلهما!.

        كانت العاملات (المعينات) واكثرهن قد تجاوزن الخمسين من عمرهن أكثر الناس جرأة في طرح تلك المواضيع, ولا يتحرجن من الدخول ب(التفاصيل), كنا نستمع لتلك القصص وقد إحمرت وجوهنا خجلاً من تلك الجرأة  و (الشفافية) الزائدتين التي تتمتع بها العجائزالخمسينيات  وهن يتحدثن عن ليلة الزفاف..!!  ونبدأ بالضحك ملء أشداقنا, خصوصاً صاحبي (م) والذي فيما يبدو كان يكتشف المراهقة.. لأول مرّة في حياته!.

         إستمّر رعب البغداديين من (ابو طبر) لعدة أسابيع حتى انني عندما كنت ازور اهلي مرة في الاسبوع (لمدة نصف يوم!) , وابيت ليلتي هناك, وجدت انهم قد غيّروا المكان المعتاد لسريري فوق سطح البيت. كنا ككل العراقيين ننام صيفاً فوق السطح, ولأول وهلة لم اشك بسبب تغيير  مكان سريري الى مكان جديد, ولكني فهمت في الصباح التالي ان المكان الجديد يسّد الباب على مدخل السطح, وأنهم قد وضعوني مع سريري في مكان لحماية باب السطح دون ان يعلموني! أي إنني كنت (درع بشري) دون علمي!.  كان أبي من الناس الذين جهزوا انفسهم لملاقاة (ابو طبر) وكان يقضي الليل مستيقضاً, وهو يضع المسدس الكبير القديم من نوع ال (ويبلي-أبو البكرة) تحت مخدتّه جاهزاً للإطلاق!.

         انتهت محنة (ابو طبر) بنشوب حرب (تحريرقناة السويس) او مايسميه اخواننا المصريون ب(حرب اكتوبر) أو (ألعبور), وهي في السادس من الشهر العاشر, حيث قامت الدنيا وقعدت والاذاعات تبث الاناشيد الحماسية (ام كلثوم) و(عبدالحليم حافظ) و(محمدعبدالوهاب) (يا أهلاً بالمعارك يابخت من يشارك), (والله زمان ياسلاحي),(اضرب لأجل الولاد اضرب لأجل البلاد), (أخي جاوز الظالمون المدى), تلك الأناشيد الحماسية التي تبلهب مشاعرنا الوطنية وتبعث النخوة في نفوسنا. معارك على جبهة (القناة) والكل متحمس والكل يتحدث عن المعارك.

        الكل كان متحمساً يتابع أخبار الحرب, عداي أنا!, إذ لم اكن– ولست ادري لماذا- مقتنعاً ان هناك حرب حقيقية!. كنت اراها كما لو كانت مسرحّية تمّثل على رؤوس الناس البسطاء. وحتى عندما اُعلن النصر وتحرير قناة السويس ومعها جزء كبير من صحراء سيناء, فإنني بقيت اشكك في جدية ما يقولون وانظر الى كل الامر على انه دعاية اعلامية ليس الا!. ولكن احدى نتائج تلك الحرب الخطيرة والمهمة لحرب أكتوبر وعبور(خط بارليف) انها شغلت العراقيين تماماً عن قصة (ابوطبر) فقد صار فجأة على هامش الأحداث لا احد يتكلم به واختفت اخباره تماماً ولم يعد احد يهتم بها (حتى إن بعض الظرفاء من العراقيين أطلقوا نكتة بأن (أبو طبر) قد تطوع في القتال على الجبهة)!...      

        إنتهت تلك الأيام المخيفة.. وانتهى ذلك الرعب بإلقاء القبض على (ابو  طبر)! وظهر على تلفاز العراق وهو يحكي بالتفصيل كيف كان يقوم بجرائمه البشعة في قتل الناس وإغتصاب السناء بعد قتلهن حيث هو مصاب بمرض نفسي نيكروفيليا      necrophilia   وهو مضاجعة المرأة بعد موتها, وسرقة محتويات منازلهم بمساعدة أخويه وشقيق زوجته, بينما تقوم أمه و وزوجته ببيع المسروقات من الذهب الى صائغ تعرفانه. حوكم بمحاكمة سريعة ونفذ به حكم الإعدام وبالسجن على شركاءه, وبذا انطوت صفحة رعب رهيب هز جميع أهالي (بغداد).. وكذلك (الخافرين) في م الحميّات.. ولكنه منحنا فرصة الاستمتاع بامسيات جميلة جداً جعلتني أعشق أغاني انوار عبد الوهاب.. وخصوصاً (داده حسن)!!.

 

للإستزادة من المعلومات حول (ابو طبر) يمكن الإستعانة ب الويكيبديا العربية:

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%B7%D8%A8%D8%B1

 

التعقيب التالي وصلني من زميلي وإبن دورتي الأخ الدكتور دخيل سعيد- جراح استشاري في أربيل..

 

الاخ د.سامي عاشت ايدك على هذه المدونات اللطيفة تذكرنا بايام جميلة لاتنسى 

اود ان اذكر لك قصة ظريفة حدثت معي في تلك الظروف التي عشناها ايام رعب ابو طبر حيث لم نكن نعرف هل ابو طبر هو رجل او امراة او حيوان ولكن كما قلت الاعلام الكبير بحقه احدث خوفا كبيرا وقيل ان من يرى ابو طبر فهذا اخر لحظة في حياته ولا داعي للمقاومة!

          في تلك الايام كانت الحركة بعد المساء في بغداد قليلة فكل يذهب الى بيته ويترقب ما يحدث ويسهر على امنه ولكن الطبيب الخفر يبقى في خفارته حتى الصباح.  وكانت غرفة طبيب الخفر في (مدينة الطب لازالت في بناية المستشفى الجمهوري القديمة مقابل مدينة الطب.  وكنت انا طبيب خفر ولم يكن معي غير المعين الذي كان يضع المصطبة على باب الطبيب وينام حتى لو جاء مريض يقوم بايقاظه, ثم يدخل على الطبيب. ولكن بعد ايام ابو طبر كان يذهب الى الصيدلية وينام هناك! اما مركز الشرطة القريب فكان ياتي المفوض (مأمور المركز) ويقول للطبيب نحن هنا للحماية ولا يهمك ولكن ما ان اظلمت الدنيا يذهب الى غرفته ويقفل الباب الحديدي الذي لا يمكن فتحه الا من الداخل!!

      وفي احدى الايام وانا في غرفتي طبيب خفر والدنيا في هدوء تام انفتح باب غرفتي واذا بفتاة طويلة تدخل,  وجهها ملطخ بالطين والعباءة على كتفها وبيدها خشبة مملوءة بالمسامير الطويلة خارجة من الجهتين!!  انا جمدت في مكاني ولم استطع الحركة او التكلم, حيث تصورت ان ابوطبر دخل علي او (ام طبر)!. ولكن هي قالت:

"دكتور الحقني انا فتاة عمري ١٧سنة.. أرجوك انقذ حياتي"!

 وهنا دخل الغرفة رجل وامرأة واطفال تبين انهم أهلها. وهنا سالتهم " شكو؟ شنو؟" فقال والدها: "دكتور هذه بنتي وكانت تكنس في البيت ووقعت على الپنكة, والپنكة نتلتها! وانا سحبتها وايضا انتلت! وبيتنا قريب وماكو سيارات بهالوقت فهي ركضت الى المستشفى ونحن وراءها.. ارجوك دكتور بلكي تعالجها وتسويلها شي"

 فقمت بفحصها بالسماعة واخذت ضغطها وكل شي طبيعي ما عدا تسارع في ضربات القلب فقلت لهم "اطمئنوا ماكو شي, واعتيادي من تمسك الكهرباء الشخص اما تقتله او ماكو شي يخوّف بعدها!. ولكن انا أسأل ما هذه الخشبة المملوءة بالمسامير؟"   فقالت "دكتور مو يقولون اذا لزمك الكهرباء امسك خشب زين!"

 وانا فاكر هذه خشبة (ابو طبر)!

 والسلام.  د.دخيل

 

           

تعليقات

  1. المخابرات تخلصت من بعض المعارضين المزعجين للنظام

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب