2-5 م الحميات (إخدم نفسك.. بنفسك)

2-5  م الحميات (إخدم نفسك.. بنفسك)  


 أ.د.  سامي سلمان

    عندما كنت أضع نفسي في مقارنة مع زميلي المقيم الدوري الثاني (م) اجدني أختلف كثيراً فيما يتعلق بحبي وإخلاصي لمهنتي..أحسها تجري في عروقي مجرى الدم... وامارسها بإخلاص وشغف لا حدود لهما, فأنا أهتم بمرضاي كأنهم أهلي وخاصتي.. ربما أختلف عن الكثيرين من زملاء المهنة في تعلقي ورغبتي في الإبداع وتعلم كل ماله علاقة بتلك المهنة..

  كنت مثلاً لا أقوم بالتوقيع على (شهادة وفاة) مريض, (وكان يتوفى عندنا واحداً أو إثنان كل يوم!), إلاّ بعد أن أذهب و أعاينه بنفسي, وأقوم بكل الإجراءات الرسمية للتأكد من وفاته, حتى إن اقتضى ذلك مغادرة دفء ومتعة فراشي في الثانية بعد منتصف الليل أو الثالثة صباحاً وفي عز نومي بعد نهار متعب. أما  زميلي فكان يضع توقيعه على استمارة (شهادة الوفاة) (التي تكون الممرضة الخفر قد ملأت جميع خاناتها), وهو مستلقٍ في فراشه دون أن يكلّف نفسه النهوض من فراشه والتضحية بنومته الهانئة, ودون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الموت والميت!, وفي احدى المرّات كان المريض والذي قد وقّع زميلي له (شهادة الوفاة) في حالة غيبوبة ولم يكن ميتاً! وعندما إكتشفت أن الميت قد عاد الى الحياة بعد أن تم إخبار  ذويه بوفاته, أخبرته بذلك وأنا أرتعد من شدة الغضب والهلع, تلقىّ صاحبي الخبر بالضحك والمزاح دون أدنى شعور بالذنب.. واعتبره (نكتة الموسم).. ثم أعقب قائلاً (هوه راح يموت يموت.. إذا مو اليوم باجر)!.

  ومع ذلك كان زميلي (م) ممتعاً جداً!. كنت استمتع برؤيته حين أراه يمر لأول مرة في حياته بعلاقة عاطفية مع امرأة تكبره سناً بكثير!, تعرف عليها صدفةً!. اظنها كانت مرافقة لأحد المرضى أو زائرة له. وكان يقضي الساعات يحكي لي عن تجربته الاولى في العلاقات الحميمة مع الجنس الآخر وأنا أستمع لإنبهاره ب(إكتشاف) تلك العلاقة!.

      وعندما أقبل شهر رمضان كان صاحبي صائماً مثلي, ولكنه كان لا يتورّع أن يخرج مع صاحبته في موعد غرامي بعد الإفطار, يجلسان على إحدى الأرجوحات الوثيرة في(نادي القوة الجوية) القريب من مستشفانا, يتسامران ويقضيان وقتاً ممتعاً! سارقاً منها... قبلات خاطفة!

كنت اقول له:

 "ولكننا في شهر رمضان"؟

"ولكنك... صائم النهار كله؟"

كان يجيب بضحكة بريئة تخرج من قلبه:

"بعد الفطور كل شئ حلال! كل شئ يصير حلال... وره الفطور"!

   الممرضات في م الحميات كن جميعاً من (القواعد من النساء)! الكبيرات السن! أصغرهن عمرها أربعين أو خمسين عاماً, ربما إستسهلن العمل في هذا المستشفى, أو تم (نفيهن) فيه كعقوبة. ولم يكن يشكلن خطراً علينا!. ثم تم تعيين ممرضتين متخرجتين تواً من مدرسة التمريض, كانتا الشابتين الوحيدتين –بين مجموعة العجائز من الممرضات, ربما لا يتجاوز عمر الواحدة منهن التسع عشرة أو العشرين عاماً- وأغلب ظني أنهما قد تم تعيينهما في مستشفانا أيضاً كعقوبة لهما!.. وتقاسمت الشابتان اهتمامهما بنا... كانت القصيرة الجميلة (جميلة نوعاً ما وبالمقارنة, فعندما تكون هناك اثنتان فقط, لا يكون لديك مجال كبير للاختيار)! كانـت هــذه قد حصرت اهتمامها بزميلي (م), ولاحظت إن الطويلة النحيفة الأقل جمالاً قد حصرت اهتمامها بي! وصارت القصيرة دوماً هي التي تأتي الى زميلي (م) عندما يكون هناك (توقيع طلبية) او ملء (إستمارة تجهيزات) او (إخبار عن حالة مريض). بينما صارت الطويلة النحيفة تأتيني للاسباب نفسها, محاولة كل جهدها جلب انتباهي لها!.

      كانت الايام تمضي مملة أحياناً في مستشفى الحميات, فنحن لدينا مرضى في أشد حالات المرض (اكتشفت فيما بعد أنه كان هناك اصلاً خطأ في تشخيص البعض منهم, و انه لم يكن يحتاج الدخول الى المستشفى اصلاً)!. 

         (أحد الأطباء المخضرمين العاملين في عيادة خاصة في علاوي الحلة, كان يرسل لنا مريضاً كل يوم بتشخيص حمى التايفوئيد, وعندما صارت عندي خبرة بهذا المرض وأعراضه وعلاماته من إعادة قراءتي للكتب الطبية, رفعت السماعة واتصلت به وناقشت معه حالة المريض.. عندها أخبرني إنه مقتنع أنه غير مصاب بالتايفوئيد, لكنه فقير ومن المحافظات وليس له مكان يبيت فيه!).. لم يكن هناك أيّ عِلم أو طب حقيقي يمكن أن نتعلمه من الأطباء (الاختصاصيين) (المنفيين) في مستشفانا, والذين كانوا دوماً مشغولين عّنا!. لذلك علمّنا (أنفسنا.. بأنفسنا) على غرار (إخدم نفسك بنفسك)!.

    تعلمت في فترة وجيزة جداً كيفية سحب سائل (النخاع الشوكي) من العمود الفقري بواسطة الإبرة الخاصة, وأن أجري التحليل المبدأي له فوراً, ثم تحديد نوع العلاج! بل وصرت أفضل من أي (طبيب اعصاب) في سرعة سحب سائل النخاع الشوكي!, أتمكن من إدخال الإبرة وإخراجها في ما بين  فقرات الظهر خلال بضع دقائق.. أفعلها وأنا مغمض العينين!. فقد كانت الردهتان الخاصتان بالتهاب السحايا بأنواعه الثلاثة: (الجرثومي) و(الفيروسي) و(التدرني) مليئتين بالمرضى!, وفي حالة الاخيرة يجب إجراء سحب السائل الشوكي بين فترة وأخرى لتحديد مدى استجابة المرض للأدوية العلاجية! (كان عندنا معينة نرسلها ومعها أمر شفاهي بأن ترسل لنا (الصيدلية الداخلية) حبوب (آي.أن.أجINH) وهي حبوب خاصة (بالتدرن) ولكنها في طريقها الى الصيدلية كانت تنسى-أو تتناسى بخبث- إسم الحبوب  وتدخل على الصيدلي وهي تتصنع الخجل وتغطي وجهها بفوطتها وتقول له: الأطباء يريدون حبوب ن.. (جماع!).

  تعلمت كيفية عمل (قص الوريدvenesection) بسرعة وبسهولة ويسر.

      ولكن أهم ما تعلمته هو كيفية طلب المساعدة من الزملاء العاملين في المستشفيات الاخرى. كنا نحتاج إلى جراحين من مستشفيات أخرى لتدريبنا على إجراء العمليات الصغرى مثل (قص الوريد) لإعطاء السوائل بكميات كبيرة وبسرعة  او لعمل (فتحة القصبة الهوائيةtracheostomy) عند المصابين ب(الخنّاقDiphtheria) والذي كان أحد الأمراض الشائعة في العراق آنذاك وقد يقتل خلال ساعات.

    رأيت كيف يمكن أن يموت الناس بسرعة وبسهولة وكيف يمكن أن يعيشوا! وهكذا تعلمت فن التعامل مع الأطباء زملائنا في مستشفى (طوارئ الرصافة), وملاطفتهم وتقديم فروض الطاعة والولاء,  وتقديم الرشا لهم بـ (عشاء) من المطعم المجاور لمستشفانا, بحاجتنا لأحد هؤلاء الأطباء للمجيء على وجه السرعة مع العدة الخاصة بإجراء (قص الوريد) لمريض مصاب ب(الكوليرا), أو شّق (القصبة الهوائية) ووضع أنبوب خارجي فيها.

    كان الطبيب المقيم الأقدم المرحوم (صباح حسن) يأتي دوماً وبسرعة وعن طيب خاطر, بوجهه البشوش, وإبتسامة دائمة على وجهه, خصوصاً عندما يعرف اننا سوف نستمتع, بعد إجراء تلك العملية البسيطة, بجلسة ممتعة  و بوليمة عشاء جيدة كنت أدفع ثمنها من جيبي الخاص!.

  وفي فترة أسبوعين أو ثلاثة من بدء إقامتي بمستشفى الحميات تعلمت الكثير إعتماداً على نفسي برغبة صادقة  وصرت أثق بقدراتي في مجال مهنتي التي أعشقها...

 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب