2-4 مستشفى الحميّات وتعلم السباحة!

 

2-4 تعلم السباحة في مستشفى الحميّات

 أ.د.  سامي سلمان

       في حزيران 1973 تخرجت من كلية طب بغداد, وتم توزيع الخريجين على مستشفيات بغداد اولاً حسب درجات المعدّل العام, ثم تليها المحافظات. مستشفيات (بغداد) كانت حصتها الستين الاوائل من مجموع المئتين وثلاثين الذين تخرجوا ذلك العام.  ولحسن حظي فإن إسمي كان ضمن الستين الأوائل الذين تم توزيعهم في بغداد. استلمت الكتاب الرسمي من (مديرية الخدمات الطبية) في وزارة الصحة الذي ينص على كوني قد صرت ألآن وبصورة رسمية (طبيباً).

       (طبيب دوري) هي الدرجة التي نبدأ فيها مهنتنا الطبية الحقيقية. كلمة (دوري) تعني ان علينا ان نتنقل للتدريب على أربعة أنواع من  الإختصاصات خلال سنة واحدة, كل واحد منها لمدة ثلاثة أشهر. وهي (الباطنية) و (الجراحة) و (النسائية والتوليد) ثم ثلاثة أشهر نقضيها في واحدة من إختصاصات متفرقة تعرف ب(الفرعيات).

      الكتاب الذي إستلمته كان ينص على أن تكون إقامتي الأولى في (مستشفى الحميّات) ويجب  أن اباشر في اليوم التالي لإستلام كتاب المديرية.

سألت عن هذ المستشفى أين يقع؟

أخبروني في (تل محمد)!

سئلت أين (تل محمد) هذا؟ اإذ إنني (كرخي) أصلي!, لا أعرف شيئاً عن جانب (الرصافة), عدا منطقتي (الباب المعظم) و(الباب الشرقي)!.

أخبروني إنّ (تل محمد) والمستشفى الذي تعينت فيه يقع مقابل (كراج الأمانة)!!

لم أعرف أين (كراج الأمانة)!

قالوا:   في (كمب سارة)!.

(كمب سارة) ؟؟ وهل أنا أعرف أين (تل محمد) حتى أعرف أين (كمب سارة)؟

ثم من هي الأخت (سارة) هذه؟ التي عندها (كمب) سمي بإسمها؟!

((كمب) باللهجة العراقية تعني نفس (كمبcamp) بالإنكليزية أي (المعسكر).

       في النهاية عجزت أن أتصور مكان المستشفى, فركبت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يأخذني الى (مستشفى الحمّيات) في (كمب سارة)!.

       وصلت هناك.. حائط طويل ركن يحيط بمباني ثلاثة قديمة من الطابوق.. ربما مبنية منذ الأربعينيات.. سلّمت (الامر الاداري) الى المدير الذي نسيت اسمه, وتبين فيما بعد انه خريج (روسيا), أرسل معي من يوصلني الى(دار الاطباء)..  المكان الذي اسكنه في الأشهر الثلاثة القادمة, هناك ألقيت بحقيبتي وحاجياتي. لم يكن المكان فعلاً (داراً) وانما (غرفتين) من طابق علوي في نفس بناية الادارة, سميّت مجازاً (دار الاطباء)!.

       هناك التقيت ب (م.ه) وهو احد طلاب دورتنا إلا أنني تعرفت عليه لأول مرة عند لقائي به في هذا المستشفى, وربما هوالاخر لم يكن يعرف اسمي قبلاً! لم يكن في المستشفى أي اطباء (مقيمين أقدمين).. فقط  نحن الإثنان من الأطباء ال(مقيمين الدوريين).

       (نظام التدريب والإقامة  في المستشفيات تقسم المقيمين الى (مقيم دوري) وهو المتدرب  في سنته الاولى, و(مقيم أقدم) وهو الذي قد أكمل سنة في الإقامة الدورية وسنة ونصف أو أكثر في الخدمة العسكرية وسنة في الأرياف ثم عاد ليتدرب بشكل  مفصّل وموسّع  في المستشفى وعلى إختصاص واحد ولمدة سنتين.  لذلك فهو أكبر سناً من المقيم الدوري بثلاث سنوات على الأقل, وأكثر خبرةً بالحياة و الطب و الأمور الإدارية, وهو عادةً أفضل من يقوم بتدريب (المقيم الدوري)). ولو شبهنا الأمر بعمّال البناء.. ف(المقيم الدوري) هو (العامل البسيط) أما (المقيم الأقدم) فهو (ألخَلفَه)!

       ومن اليوم الاول كنت انا (الطبيب الخافر) بعد الدوام! هكذا... بدون أي تدريب أو إرشاد أو وجود (مقيم اقدم) يشرف على عملي ويوجهّني!. كان هناك طبيب (مقيم دوري) واحد من الدورة التي تسبقنا, كان ينتظر مجيئنا بفارغ الصبر, لاّن عليه الانفكاك للالتحاق بالخدمة العسكرية! لهذا فقد شرح لي بإختصار شديد و على عجل مما يتوجب علي فعله أثناء الخفارة, ثم تركني لوحدي, ولسان حاله يقول (اذهب أنت وربك فقاتلا)!.

       كانت أول خفارة لي كارثة بمعنى الكلمة! تجربة مرعبة لن انساها! كنت قد نسيت كل شئ! كل ما درسته وتعلمته في (كلية الطب)!. يا إلهي انا لاأعرف شيئاً!.جاءت سيارة الإسعاف وقد سلمتني رسالة (إحالة من عيادة خاصة) ومعها مريض مصاب ب(التهاب الكبد الفايروسي), أدخلته المستشفى وقد غاب عن ذاكرتي كيفية البدء بمعالجته!,واستلمت آخر مصاباً بالتهاب السحايا! وكنت قد نسيت تمامأً ما درسته و ما هو العلاج الذي يتوجب اعطاؤه له!.

       ردهات المستشفى موزعة بشكل غريب لا تجده في أية مستشفى في العالم! هناك ردهة كاملة (سحايا رجال) وردهة (سحايا نساء), و ردهة (التهاب كبد فيروسي-رجال) ومثلها للنساء!, و ردهة (التيفوئيد) و اخرى (خنّاق)!. مستشفى ابنيته قديمة مهترئة, وممرضاته أوشكن على سن التقاعد, أو (المنفيّات) المغضوب عليهن في وزارة الصحة!. وبعد أيام إنتابني إحساس بأن المستشفى بأطبائه وممرضاته والعاملين فيه هو (منفى) لكل مغضوب عليه أو معاقب من قبل وزارة الصحة!.

       في البداية كنت لا أزال ساذجاً!.لايمكن ان انسى الساعات الطوال جداً التي كنت اضع فيها كمادات ثلج لطفل مصاب بحمى عالية جداً دون ملل أو كلل. وأنا أضع الكمّادات واراقب  الطفل برُعب مخافة أن تقتله الحمى,  كما لو كان إبني انا!.. وأبقى معه حتى يصيبني الإعياء.  ولكني بعد أسابيع قليلة تعلمت ان اكون اكثر واقعية, وان الموت والحياة بيد الله.. وليست بيدي!..

       مررت بأيّام وليالٍ مريرة تعلمت فيها الكثير!. أظن أن أفضل طريقة لتعليم أي انسان مبتدئ السباحة هو إلقاؤه في الماء بدون أي تعليمات, ثم إلقاؤه  ثانية وثالثة وتعريضه للغرق عدة مرات!. فيكون امام خيارين إمّا الغرق, او تعلم السباحة لإنقاذ نفسه!. وهذا ما حصل معي بالضبط!

        من الحالات التي يصعب نسيانها في ذلك المستشفى ذلك الطفل المصاب بالتهاب الكبد الفيروسي, وكان الاصفرار يزداد عنده بشدة, وكان (الطبيب الاختصاصي) العبقري الذي يأتي في النهار, يزيد ويزيد من جرعات (الكورتيزون) الذي نعطيه للطفل بحجة ان هذه هي حالة التهاب كبدي شديد الإلتهاب (فالمننت هيباتايتزFulminant Hepatitis). وفي عصر أحد الايام نادتني الممرضة لرؤية ذلك الطفل على وجه السرعة كان قد وضع رأسه في (سطل معدني) وأخذ يتقيأ بشدة ودون توقف حتى خرجت آخر واحدة من كتلة كبيرة من (ديدان الاسكارس) العملاقة! وبعد يوم واحد أخذ اللون الأصفر يتلاشى ويزول تدريجياً من جسمه وعينيه, وتعود العافية بدون (كورتيزون)! فقد كان السبب في مرضه هو انسداد (قناة الصفراء) الرئيسية عندما استقرت بها إحدى تلك الديدان التي يزيد طول أنثاها عن الشبر احياناً.

       وفي نهار أحد الأيام كنت اجري الدورة المعتادة على المرضى ودخلت إحدى الغرف التي تخصص لعزل المرضى شديدي العدوى.. كان يرقد فيها طفل لايتجاوز عمره الأربع سنوات.. وكانت الغرفة شديدة الظلام بسبب غلق الستائر والضوء الكهربائي.. وما ان فتحت الضوء فيها حتى رأيت الطفل وقد غطى محجر كل عين من عينيه النمل! لا يمكنك ان ترى عينيه من خلال تلك الكتل من النمل.. وقد جلس جنبه المرافق الشاب (خاله) والذي لشدة غبائه لم يلحظ النمل الذي التهم جزءاً من جفني الطفل.. اصبت بذعر اوشك بي على فقدان وعيي! ثم وبسرعة وبإستعمال الكحول المطهر والقطن أخذت امسح النمل وابعده عن عيني الطفل وأنا العن الخال المتخلف الجالس دون حراك!

      وفي احد الايام ادخلنا طفلاً لايزيد عمره عن العشر سنين كان قد عضّه كلب مصاب ب(داء الكَلَب) وبدأت أعراض المرض واضحة على الطفل.  كنا و لغرض التأكد من التشخيص نضع بعض الماء في راحة يدنا ثم نقربه من وجه الطفل وكان الطفل المسكين يصاب بالرعب الشديد ويبدأ بالتشنج والصرع كلما رأى الماء يقترب منه!.. وحينما ازدادت حالته سوءاً رغم كل المهدئات التي كنا نعطيها اياه.  صار يصاب بالتشنج والصرع كلما قمنا بتشغيل مروحة الغرفة, أو كلما مرت به نسمة هواء رغم شدة حر تلك الأيام. وبدأ يموت شيئاً فشيئاً هكذا أمام اعيننا.. دون ان نتمكن من عمل اي شئ لايقاف التدهور السريع  في مرضه.

 كان طفلا طيباً جميلاً جداً قد جئ به من إحدى قرى كردستان وشيئاً فشيئاً أصيب بالإعياء وغاب عن الوعي.. وكان يوم موته يوماً حزيناً مؤلماً ابكاني وابكى كل من في المستشفى من أطباء و ممرضات وعاملات..

        وبعد ذلك بعدة سنوات وبعد حصولي على اجازة دراسية في فرنسا لدراسة طب المفاصل, كنت العربي الوحيد ضمن مجموعة من ثمانية أطباء.. وكنت أتباهى أمام أقراني من الاطباء الفرنسيين واتحداهم ان كان احد منهم قد مرت به حالة مرضية لم ارها سابقاً.. فبعد سنة إقامة دورية في مستشفيات بغداد, ثم فترة الخدمة العسكرية, فالخدمة بالأرياف ثم الإقامة القدمى كانت كلها كفيلة بمنحي خبرة بكل الحالات المرضية حتى النادرة منها..  ثم كنت اقوم انا بدوري بتحّدي زملائي الفرنسيين ان كان احد منهم قد رأى أو مرت به حالة مريض مصاب بداء الكلب! (يسمونه بالفرنسية Le Rage).. وكان يصيبهم الوجوم فوراً و يعلنون إستسلامهم.. إذ لم يكن احد منهم قد رأى ذلك ابداً.. وكنت افوز دوماً بالرهان ويبدأوا بالإنصات والإستماع لي بإهتمام بالغ وانا منهمك بتعليمهم أعراض وعلامات ذلك المرض!.

         في ذلك المستشفى رأيت المصائب من الأمراض الصعبة والمستعصية رأيت التهاب الدماغ عند الأطفال, كأحد مضاعفات مرض (الحصبة).. وبقيت مرعوباً من مرض (الحصبة) بعد زواجي بحيث انني كنت اسارع الى تلقيح اولادي ضد الحصبة باسرع ما كان يمكنني ذلك وذكرى  مؤلمة لأطفال رأيتهم يعانون من موت بطئ من ذلك المرض الشائع.

تعليقات

  1. ذكريات جميلة مررت بمثلها تقريبا..اطال الله بعمرك استاذنا الفاضل ان شاء الله..

    ردحذف
  2. في سبعينيات القرن الماضي يتجه بعضنا للاختصاص في مصر، وبالاخص فروع طب الاطفال، وجراحة المسالك البولية وتخصص الجلدية. وكان هؤلاء الاختصاصيين يتجاوزون زملائهم المختصين في اوروبا في تشخيص الامراض، والسبب واضح: انهم شاهدوا وتعاملوا مع كافة الامراض تقريبا الموجودة في كتب الطب عن تلك الامراض!، وبسبب عدم توفر الكثيرمن اجهزة التشخيص يتدربون على التشخيص وكانهم في الريف وبدون اجهزة متطورة. رمزي برنوطي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب