19- قف!..سر الليل؟

هذه المدونة تحكي عن فترة خدمتي الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية.  


19- قف!.. سر الليل؟

 أ.د.  سامي سلمان

       أحد أكثر الضباط إزعاجاً وكنت انا والآمر نمقته بشدّة كان (ضابط التوجيه المعنوي), وهو (بعثي)  (برتبة ملازم), ورغم رتبته الصغيرة التي تشابه رتبتي, الا إنه كان يتصرف بعنجهية وغرور, ويحاول أن يملي ارادته على (آمر اللواء)- وهو  المستقل-, الذي كان يحير في أمره فهو لايعرف بأي أسلوب يتعامل  مع هذا الشخص وكيفية التصرف مع إبتزاز التهديد بإبلاغ (المكتب العسكري) او (تنظيم الحزب)!. ولو كان (ضابط التوجيه) هذا يفهم فعلاً في الحزب وأدبياته لكنا رضينا بذلك, ولكننا لم نر فيه إلاّ شخصاً متملقاُ متزلفاً لايفقه في الحياة شيئاً ولا يفقه حتى في امور الحزب الذي ينتمى اليه!.. كان يظهر فجأة أمام الآمر بين الحين والآخر بينما كنت في جلساتي الطويلة الثقافية مع الآمر, ثم يبدي ملاحظاته الساذجة وأحياناً السخيفة التي تمليها عليه رعونته وغبائه!.

    في إحد الإيام أخبرنا (ضابط التوجيه) أنه ستقام إحتفالية للترفيه عن الجنود وسوف تأتي فرقة (غجر) للغناء الشعبي من (بغداد) لإحياء الحفلة.. أعطى الآمر موافقته لضابط التوجيه بالتصرف المطلق للإعداد لتلك الحفلة.  ويبدو إن إقامة الحفلات هي الشيء الوحيد الذي يتقنه هذا الضابط المتعجرف التافه!..  حيث عمل بهمة ونشاط لإعداد (خشبة مسرح) على الهواء الطلق, والعشرات من الكراسي المنضًدة بشكل جيد تتسع لبضع عشرات من الجنود مع مقاعد وثيرة في المقدمة لجلوس الآمر والضباط.... لايفصلهم شئ عن المنصة العالية والسماعات وال(ميكروفون).

      وفي اليوم الموعود وبعد غروب الشمس كنت والآمر والمساعد وبقية الضباط نجلس في الصف الأمامي للمسرح وتجمع الجنود بعضهم جلوساً والأكثرية وقوفاً.. ثم صعدت إحدى الفرق الغجرية الشهيرة على الخشبة.. أظنها كانت (حمدية صالح).. وإبتدأ الغناء المحبب إلى قلوب جنودنا.. "الهجع" و"قريشن ببا" و"أونّن".. وكانت قلوب الجمهور من الجنود تتطاير  فرحاً وسعادة وهم يتفاعلون بشدة مع تلك الأغاني الريفية والغجرية المحببة إلى قلوبهم… وكنت من بين الأناس السعداء لسعادة ذلك الجمهور من جنودنا البسطاء.. وبين الحين والآخر اصفق بخجل عندما أرى إن الآمر قد بدأ بالتصفيق (بوقار)!.. ثم بدأت الغجرية بقصيدة (عتابة) ريفية وذكرت فيها لوعتها على حبيبها الغافل عنها, ومن جملة مافعلته أن أشارت إلى (ضابط المطعم) الشاب الوسيم (ملازم محمد) وذكرت إسمه وهي تتغزل به!..  وفجأة قفز آمر اللواء واقفاً من مقعده كما لو لدغته أفعى,  وأمرني بمرافقته..  وغادر الحفل وهو يهرول دون أي مقدمات! لم أفهم سبب تصرفه وسر هذه المغادرة المفاجئة للحفل وقد كنت مستمتعاً أيما أستمتاع بتلك الحفلة.

     في  الصباح التالي كان الآمر ينتظرني لتناول الفطور سوية في ال(سيباط) الخاص بالمقر كعادتنا كل صباح.. هذه المرة كان صامتاً ولم ينطق بكلمة طوال الوقت.. والتزمت أنا الآخر بالصمت.. وبعد انتهائنا من الفطور أرسل الآمر من يستدعي (ضابط المطعم ملازم محمد).. وقف الملازم بالإستعداد بينما كنت مذهولاً أستمع لتقريع الآمر لذلك الملازم.. "كيف تتجرأ غجرية..(كاولية).. أن تعرف آسم أحد ضباطي؟ من الذي أبلغها بإسمك؟ هل كنت تعرف إنها  ستذكر إسمك اثناء غنائها؟ أين الضبط العسكري؟ أين كرامة الضابط؟.. عندما تلوك آسمه أفواه (الكاولية)" وما إلى ذلك من أمور لم أكن ادركها أو أعرف إنها من المحرمات في السياقات العسكرية!, وربما حتى الضابط المسكين لم يكن يعرف بها! وكانت في النهاية عقوبته البقاء في المقر وألمنع من النزول في إجازته الدورية القادمة وإنه يجب أن يشكر ربه إنه لم يتم تقديمه للجنة إنضباط تحقيقية!.. كانت تلك مفاجأة لي ولم أدر -ولحد الآن- إن كان الآمر على حق أم كان على خطأ!.

      من المفارقات المضحكة التي حصلت أثناء مفرزتي في (كومسبان), كانت في مقر أحد أفواجنا عند  قاعدة جبل(هيبت سلطان), حيث نشأت صداقة حميمة بين آمر اللواء وآمر ذلك الفوج وكانت زيارتي لذلك الفوج تتكرر بتكرار زيارات  آمر اللواء,  مادام آمرالفوج يصر على جلوسي جنبه في  سيارة القيادة التي يستقلها في زياراته.. كنت قد اقنعت نفسي إن ذلك بسببب إعجابه ومحبته لي,  لا بسبب كوني (صمّام الامان) لكوني طبيب وخوفه على حياته!

     في مقر ذلك الفوج إنتبه أحد العرفاء إلى حركة مشبوهة لأحد الجنود إذ كان يتسلل بإنتظام ويختفي عن الأنظار في إحدى الزوايا من مقر الفوج لبعض الوقت ثم يعود بعدها. أمسك العريف بتلابيب ذلك الجندي وأجبره على الإعتراف بما كان يفعل. إضطر الجندي لإخباره إنه وأثناء بحثه عشوائياً في المنطقة فإنه قد عثر على (كنز ثمين), وإنه يذهب لتفقد (كنزه) بين الحين والآخر, وإنه مستعد لتقاسم محتويات ذلك الكنز مع العريف. وبدون علم الباقين من أفراد الفوج سار العريف مع الجندي إلى (المكان السري) الذي كان الجندي قد وضع علامات يعرفها على مكانه.. وبهدوء أزاح الحجارة والتراب عن (الكنز).. ليجد العريف إن ما كان مدفوناً كان (لغم مضاد للدبابات) من الحجم الكبير,  الذي كان بإمكانه نسف جزء كبير من مقر الفوج!. وعاد العريف مع الجندي المغفًل ليقوموا في ما بعد بإستدعاء فصيل الهندسة لإبطال اللغم ورفعه من مكانه تحت انظار الجندي الذي خسر أحلامه بالثروة التي كان يحلم بأنها ستأتيه من ذلك الكنز!

    وفي ليلة أخرى كنت اتمشى مع الآمر وكنا في عالم آخر .. كانت احدى الليالي الحالكة السواد والسماء تسطع بمصابيح النجوم المتلألئة وهو يشرح لي أسماء البعض منها وأهميته في الملاحة العسكرية.. ونحن نسير في ذلك الليل وفجأة أرعبنا صوت مزمجر لجندي وقد شهر بندقيته في  وجوهنا وهويصيح بأعلى صوته "قففففففف … سرّ الليل؟"..  كانت مفاجأة كادت توقف قلوبنا عن الخفقان وغاصت انفاسنا في صدورنا.. وهنا صاح الآمر به "قز..القرط.. وزقنبوت... سجن ثلاثة أيام".! أصابتني الدهشه من (دكتاتورية الجيش).. فقد كان نفس الجندي المسكين الذي تم سجنه سابقاً لعدم إيقافنا.. وعدم طلب "سرّ الليل"!!


تعليقات

  1. ما يطلب سر الليل يتعاقب
    يطلبه يتعاقب
    والله حيره

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب