18- مروى الخيل

هذه المدونة تحكي عن فترة خدمتي الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 


18- مروى الخيل! 

 أ.د.  سامي سلمان

        كما كنت اتوقع بالضبط… فبسبب الفتور الذي حصل بيني وبين صديقي القديم آمر وحدة الميدان الطبية, بسبب كوني قد انزويت عن (جلسات الانس) ولم ارتضي لنفسي أن اكون نديمه في جلسات الخمر اليومية, وخصوصاً عندما لم يكن هناك غيري في (وحدة الميدان الطبية) ليؤانسه في تلك الليالي الطويلة, فقد حدث ما كنت أتوقع, إذ أرسلني في أول فرصة لمفرزة طبية تم تكليف وحدتنا بها! 

    حزمت متاعي القليل وانطلقت فجراً.. الى (كومي سبان) حيث مقر اللواء إحتياط (١٠٢), هذا اللواء له سيطرة عسكرية على الشارع العام الواصل بين (أربيل) و(السليمانية) عبر جبل (هيبت سلطان), وبذا فهو البوابة الجنوب-شرقية لمواقعنا في (أربيل).. 
       عرفت فيما بعد ان (كومي سبان) تعني (مكان ارتواء الخيل- مروى الخيل), مفرزتي هذه كان لها طعم جديد, فنظراً لكوني ضابطاً, فقد جهزتني (وحدة الميدان) بسيارة إسعاف مع سائقها لتكون (سيارتي الشخصية)!, كما تم تعيين جندي خادم لي.. او ما يسمى بالجيش (مراسل), لكنه فعلاً لايزيد واجبه عن الوقوف عند باب غرفتي وتهيئة كل حاجاتي الشخصية من جلب وجبات الطعام من مطبخ الضباط, وغسل ملابسي,وتنظيف غرفتي وصبغ حذائي.. الخ. (مراسلي) هذا كان إسمه (دخيل), يتحدث العربية بصعوبة إذ هو من الطائفة ال(إيزيدية), إنسان غريب الأطوار, يكون إحياناً في منتهى الغباء!.. 
      فور التحاقي بمقر اللواء والذي كان يحتل مباني نظامية عند سيطرة (كومي سبان), نشأت صداقة قوية بيني وبين آمر اللواء العميد الركن (هلال).. رجل ناهز الخامسة والستين من عمره, ومثل بقية ألوية ألإحتياط, فقد اعيد إستدعاؤه للخدمة بعد سنين من تمتعه بالتقاعد بسبب ضراوة الحرب التي دمرت جزءاً كبيراً من قواتنا وتطلبت الإسراع بإستدعاء الضباط والأفراد المتقاعدين لتشكيل الوية وافواج (إحتياط), يتم ضخها في محرقة الحرب. 
       كان العميد (هلال) من أثقف الضباط الذين التقييت بهم في حياتي. كان خريج كلية الأركان البريطانية (سانت هيرز), يتحدث الإنكليزية بطلاقة, له معلومات عامة واسعة في مختلف المواضيع..( علوم- أدب- جغرافية- فلك- لغات..الخ).. ولما كان (مساعد اللواء) (الرائد حسن) في منتهى الجهل والضحالة, فقد وجد (آمر اللواء) ضالته فيّ, كنت على تنافس مستمر معه, أحياناً ينفذ الى ثغرات في معلوماتي العامة, وأحياناً أتغلب عليه بفخر وإعتزاز بمعلوماتي العامة , وربما خلق هذا التنافس علاقة غريبة تلتقي فيها (الإعجاب والكره والحسد) في آن واحد! 
       بعد وصولي اللواء 102, بدأت في مرافقة (عميد ركن هلال) في جولاته التفقدية للأفواج التابعة له والمنتشرة الى مابعد جبل (هيبت سلطان)، صار عندي شعور فيما بعد إنه يريدني دوماً جنبه كي يشعر بالأمان لوجود طبيب جنبه قد يحتاجه عند الطوارئ، ومن يدري ربما كان ذلك نتيجة إلحاح زوجته أو أفراد عائلته ان لا يغادر ويركب السيارة الا والطبيب معه!.. كنت اجلس جنبه في عربة (واز قيادة) والتي يرفرف علم العراق على سارية قصيرة في مقدمة السيارة, منذراً إن راكب السيارة هو (آمر لواء).. وطبعاً تفتيشنا لمقر أي من ألأفواج التابعة لنا كان ب(إشعار مسبق) كي يستعد آمر الفوج ونختم (الزيارة التفقدية) بوليمة غداء باذخة من لحوم وأسماك.. وبعد كل تفتيش كنا نعود حاملين في سيارتنا صناديق الفاكهة من أعناب وتين وخوخ ورمان.. كل فوج كان مستقر عند إحدى أجمل ماخلق الله من أنهار مائها بارد.. ومن جنات وعيون.. و(فاكهة مما تشتهون).. 
      أحياناً كنت ارافق (آمر اللواء) أو بالأحرى يرافقني هو, في (جولات علاجية) للقرى القريبة والبعيدة حيث كان مرض (الملاريا) متفشِ في تلك القرى, حاملاً معي صندوقاً كبيراً يحتوي على علاج (الملاريا) من حبوب (سلفات الكوروكوين), وأدوية ل(الرمد الصديدي Trachoma) المتفشي هناك والذي يسببب العمى, وفطريات الجلد وغيرها من الأمراض.. كان الآمر يعتبر تلك الزيارات مهمة جداً في تقوية (العلاقات العامة) الودية مع القرى المحيطة بنا, بعد وصولنا القرية كان يجلس على بساط في (سيباط) من بيت مختار القرية, (السيباط هو مظّلة من أعواد الاشجار واوراقها ينشر ظل بارد في أجواء لطيفة منعشة).. عادة يتناول (الأمر) فطوره في ضيافة مختار القرية (من شاي و لبن خاثر وعسل وخبز رقيق حار), بينما كنت أقضي الساعات اجوب القرية بيتا بيتاً أفحص مرضاهم واعطيهم العلاج مع إرشادات كاملة عن كيفية تناول العلاج, واحياناً ارشدهم عن كيفية مراجعتي عند الحاجة في (عيادة مجانية) في (مقر اللواء) إن تطلب الأمر. كان هناك أحد اليافعين من القرية يرافقني ويعمل كمترجم… يعرف كل بيت مصاب بال (لرز و تا) أي (حمى ورجفة) وهي ما تعني (الملاريا) في ذلك الوقت. (الملاريا مرض يسببه طفيلي يغزو الكريات الحمراء من الدم, كانت متفشية في شمال العراق في تلك الفترة الى درجة إن الناس كانوا يعتبرونها أمراً طبيعياً تماماً.. حيث كان صاحب الدكان يغلق دكانه ويهرع الى بيته ليستلقي على فراشه في أول ما يشعر بالحمى.. وتبدأ الحمى بالتزايد يصحبها رجفة شديدة يتعرق بعدها.. ليعود الى حاله الطبيعي بعدها ويخرج ليفتح دكانه من جديد! كانت النوبات تصيبه بإنتظام تقريباً تستمر كل منها لمدة نصف ساعة الى ساعة مرة او مرتين يومياً… لكن المرض يسبب فقر الدم الشديد وتكسر في كريات الدم الحمراء وفي حالة عدم علاجه قد يسببب تلف أجهزة الجسم ثم الموت), (أما المرض الأخر الذي كان مستشرياً في قرى كردستان فهو الرمد الصديدي (التراخوما) كان يسببه فايروس يصيب الغلاف الداخلي للأجفان مما يسببب دمامل متقيحة بإستمرار في داخل الأجفان ثم تلف في أجفان العينين وبعدها تلف في قرنية العين مما يسببب العمى الدائم).. كنت اشعر بالزهو والسعادة في مساعدة هؤلاء القرويون البسطاء وإحساس بأنني اؤدي بعض النفع وعمل الخير في هذه الأرض, أما ال(آمر) فقد كانت تلك الزيارات للقرى المحيطة فرصة تدفع عنه الملل وتخرجه من ضجر مجالسة (المساعد) الثقيل ذو الثقافة الضحلة, وكانت توفر له الفرصة للإستمتاع بجمال الطبيعة في زيارة جنائن وعيون مخفية بين الجبال وتناول وجبات فطور لذيذة والعودة أحياناً بهدية من عسل أو جوز أو صندوق فاكهة! 
         من الأمور الساذجة التي واجهتني إن (امراء الأفواج) التابعة للوائنا كانوا قد تعرفوا بي أثناء زياراتي برفقة ال(آمر), وكنت أحياناً أعود الى غرفتي في مقر اللواء لأجد ما يبدو لأول وهله وكأنه (إطار سيارة) ملقى على أرضية غرفتي… وعند الإقتراب منه أجد أنها (أفعى جبلية) عملاقة قد يبلغ طولها الثلاثة امتار! وهنا انادي مراسلي (دخيل) متسائلاً، فيخبرني إنها قد تم قتلها من قبل أفراد أحد الافواج.. عادة بدهس رأسها بسيارة!, ثم قرر (آمر الفوج) أن يرسلها ك(هدية) الى الطبيب للإستفادة من (سمّها)!. وكنت اضحك من تلك السذاجة, فمعظم تلك الافاعي من نوع ال(بوا) تقتل بالخنق وكسر الأضلاع وليس لها انياب سم!. وبجميع الأحوال أنا لا أعرف كيف يستخرج السًم وكيف يستعمل! وتبدأ معاناتي في التخلص من جثث تلك الإفاعى الضخمة! و رغم مناشداتي للأفواج بتركي بسلام والكف عن ارسال (أفاعيهم) الى غرفتي في (مقر اللواء), الّا إنني بقيت أستلم أفاعي بمختلف ألألوان والإحجام بين حين وآخر!.. 
        في الليالي الربيعية الطيبة كنت أتمشى مع (عميد ركن هلال).. ذارعين مقر اللواء جيئة وذهاباً ونحن نتحدث بشتى المواضيع.. كان الموضوع الذي يتفوق عليّ فيه (عميد هلال) هو عندما ينظر الى السماء الصافية والى ملايين الننجوم الساطعة فوق رؤوسنا وكان يتباهى بمعرفة جميع تشكيلات وأبراج النجوم.. وقد إستفدت من معلوماته حقاً وأخذ يمتحنني بها فيما بعد إذ صرت أعرف على الإقل إتجاهات الشمال والجنوب والشرق والغرب بدراسة مواضع النجوم. 
        في إحدى الليالي المليئة بالنجوم كنت مع (آمر اللواء) نذرع المقر جيئة وإياباً عندما مررنا بأحد الحراس والذي كان واقفاً عند نقطة حساسة من مقر الفوج. ترأئى لنا إن الجندي المسكين كان قد أصيب بالإعياء فإستند الى سلاحه وألقى بظهره الى الحائط واستغرق في نوم عميق.. أيقظه الآمر مزمجراً وناهراً على فعلته الشنيعة بالنوم اثناء واجب الحراسة.. إعتذر الجندي بأنه لم يكن نائماً.. قال له الآمر "اذاً لماذا لم توقفنا وتطلب منا "سرّ الليل"؟" أحاب الجندي "سيدي.. والله من مشيكم أني أعرفكم.. إنت الآمر وهذا الدكتور الطبيب اللي وياك.. سيدي عليمن أصيح وازعجكم ؟" لم يقتنع الآمر.. وأمر فوراً بأن يسجن الجندي المسكين ثلاثة أيام. (ثلاثة أيام سجن تعني أيضاً حرمانه من النزول في إجازته الدورية التي ينتظرها بفارغ الصبر للقاء زوجته وأهله واحبائه الذين لم يرهم طيلة ستة أسابيع)!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب