16- زوبع

هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 

16- زوبع

 أ.د.  سامي سلمان

      أحد الأشخاص ال(كريهين) في هذا الفوج الرائع (ف2ل5), كان    إسمه (حازم) برتبة (ملازم).. كان ضابط (التوجيه المعنوي), والذي يعني إنه ال(حزبي) الذي عليه كتابة التقارير عن تحركات كل ضابط وجندي في الفوج, حيث تصله الأخبار من خلال شبكة من ال(حزبيين) من المراتب الذين يجتمع بهم دورياً. لم تكن له إي ثقافة حقيقية أو قدرة على التحاور, كما كان الضباط يخشون ضرره.. فيجاملونه بدون تملق.
        ولحسن حظ الجميع, يبدو إن (م حازم) قد بدأ يشعر بالضجر في مكاننا الجديد, فتعرف على بعض الضباط من وحدة عسكرية قد خيمّت قريباً منا.. وبدأ بممارسة مثيرة بالنسبة له.. تلك هي (لعب القمار) (البوكر) بمقامرة حقيقية بمقابل مبالغ نقدية.. فكان يتسلل بعد العشاء الى إحدى الخيام في الفوج القريب, حيث تنصب طاولة البوكر ويبدأ اللعب حتى الفجر أحياناً.
        كان إختفاء (الملازم حازم) بعد العشاء, للذهاب للعب (القمار), أمراً مفرحاً!. وكان الإرتياح يبدو جلياً على وجه الآمر وبقية الضباط عندما التقي معهم في فترات الغداء والعشاء, والذي بقي (خمسة نجوم) كالسابق!.. فبغيابه يزول التوتر.. وبإمكاننا ان نتحدث في مواضيع مختلفه, دون تداخلات غبية من قبله, على ألأقل بقية الضباط كانوا اقل منه غباءً.. بقليل!.
        في إحدى المرات إختفى (م حازم) عن الغداء والعشاء معنا!.. ثم فعل ذلك في اليوم التالي واليوم الذي تلاه!. وبما إنه كان (مكروهاً) من قبل الجميع, فلم يكن أحد يأبه بمكانه أو سبب غيابه!..
       كان ذلك في اليوم الرابع عندما أخبرنا (المراسل) الذي يعمل في خدمته إن )م حازم) وفي زيارته للفوج المجاور فقد مرض وبقي هناك الأيام الثلاثة الماضية, ثم عاد اليوم لكنه لايزال مريضاً, ويفضل إن لا يزوره أحد خلال اليومين القادمين!..
       ثم عرفنا الحقيقة فيما بعد.. فقد دخل مع مجموعة رفاق (البوكر) في لعبة حامية جداً نزلت فيها مبالغ مالية كبيرة على الطاولة.. إستمرت تلك اللعبة ثلاثة أيام بلياليها.. كانوا يأكلون إثناء اللعب, ويذهبون ل(قضاء الحاجة) واللعبة مستمرة.. ولم تنته تلك اللعبة الا بعد الأيام الثلاثة... عاد صاحبنا بعدها إلي خيمته في فوجنا... في الصباح كان (المراسل) يوقظه لتناول الفطور فبادره ذاك بالسؤال " في أي يوم نحن؟", ثم وبعد فطور سريع ينام حتى المساء, ليوقظه المراسل لتناول عشائه ويذهب للحمام (لقضاء حاجته) ثم يعود للنوم مرة اخرى.. وإستمر على تلك الحال ثلاثة أيام اخرى, وكانت تلك أول مرة أعرف فيها إن بإمكان الإنسان البقاء صاحياُ ثلاثة أيام, ليعوضها بالنوم ثلاثة أيام أخرى!!..

      خلال بضع أيام تجحفل معنا فصيل (إزالة الالغام).. فمضيق (جنديان) وهو المنطقة التي نحن فيها كانت وطوال أكثر من عام هي الحدود الفاصلة بين قطعاتنا وبين (العصاة) ومن معهم من قطعات المدفعية الإيرانية.. وهناك منطقة (أرض حرام) بيننا وبينهم تم زرعها بأعداد كبيرة من الألغام..
       فصيل إزالة الالغام كان يرأسه (ملازم) شاب وسيم إسمه (زوبع), أظنه كان من أهالي (الفلوجة) أو (ألرمادي).. لم يكن يزيد عمره عن الخمسة وعشرين عاماُ.. كان شجاعاُ الى درجة التهور.. وكان يتجول بين الالغام ويلتقطها الواحدة تلو الأخرى.. يعرف جيداٌ كيف يتفادى أسلاك التفجير الممتدة بينها..كما لو كان في حقل اقتطاف الخضروات.. بعدها يقوم بجمع أكوام من تلك الألغام ويلقيها في حفرة عميقة, أعدّها لهذا الغرض ثم ينبهنا الى أنه سوف يقوم بتفجيرها.. وفي دقائق يدوي إنفجار يصّم الآذان, ليبدأ بعدها بجولة أخرى من تنظيف جانب آخر من حقل الألغام...
      في وقت الغداء جلست مع بقية الضباط لتناول غدائنا الغزير باللحم! وشعرت بصداقة تشدني مع (زوبع).. وكان يحكي لي حكايات لاتمل عن واجبات (الهندسة العسكرية) وعن فصائل زرع وإزالة الألغام.. إلا إن كتابُ إنهاء تجحفلي مع ذلك الفوج قد وصلني وعلي الالتحاق فوراً بمقر وحدتي الجديد (وحدة الميدان الطبية الخامسة) (وم ط 5) في أربيل, ودعت (آمر الفوج) و ضباط الفوج الذين لم أر منهم الا الخير والطيبة, ويبدو أنهم في النهاية اقتنعوا أنني لا أقل علماً عن طبيبهم السابق, الدكتور (نوبار), وودعت صديقي الجديد الملازم (زوبع), ثم إنطلقت بسيارة قيادة الفوج الى حيث مكان عودتي.. لمقر (وحدة الميدان الطبية الخامسة)..
      في خضم حياة جديدة في مقر وحدة الميدان ونوعية واجبات جديدة, نسيت كل أصدقائي في الأفواج التي عملت بها, ولكني بعد تسريحي من الجيش سمعت خبراٌ مؤلماٌ -غير مؤكد- عن الملازم (زوبع), ذلك أنه قد إستشهد بإنفجار أحد تلك ألالغام.. لقد قتلته شجاعته الفائقة.. وكم اتمنى أن يكون الخبر كاذباً وأن أعرف شيئاً عنه وعن أخباره إن كان مازال على قيد الحياة.. وبما إن أسمه غريب نوعاُ ما.. فربما سيجيبني عنه بعض قراء هذه السطور.. رغم أننا نتحدث عن عام (1975)... أي مدة خمسة وأربعين عاماً مرّت على لقائي به...

تعقيب من زميلي وإبن دورتي الدكتور (قحطان حيدر)..
     في نفس الفترة بعد أن مُنحنا الرتبة قبل الرتبة كنّا ب(أربيل) وعند العوده من بغداد وجدت الفوج في (ديانا) و(زوزك). في ديانا كان عندي واسطة ابن عمي (شگ المنشار مثل ميگولون) النقيب (علي حسين) كلّم الأمر وأخبره بأنهُ يريد الطبيب في مقر الفوج معه (ف3 ل3).
      اكلت برتقال مع النقيب علي ... وقال لي هناك اوامر عسكرية ولن يمكنني البقاء معه! و(مو بكيفك تبقى يمي!). تسلقت مع الجنود (بدون بغال) وعندما أخذ التعب مني مأخذاً.... حملني الجنود (إيد ورجل) وصعدنا لملجئ الآمر (أبو زكريا) من عائلة (الإمارة) بالبصرة, طيب وبسيط, لكنه عندما يريد تنفيذ أوامر عسكرية (ينگلب) ضابط شديد!. إبن عمه كان قائد فرقتنا الضابط الشهير( شاكر وچر الإمارة) الله يرحمه, أكيد توفى الآن.
      بعدها عرفت سبب استدعائي مع الآمر.. كان معه ٢ ضباط ولكي يكمل فريق لعبة الورق, ال(كونكان), أمر بأن يكون الطبيب معه, ليكون شريكه باللعبة!.
      وبقيت كذا شهر مع الآمر.. الجنود (خطّية) يشوون لنا (تكه ومعلاگ). ونلعب (كونكان) للصبح.. وبعدها نذهب للنوم.
       ملجأ الآمر عالي.. هناك ضوء (باتري سيارة) معلق بالسقف.. و(الگعده) عز.. (فوگ) الجبل.
      امّا ملجأ الطبيب على( گد اليطغ) وواطئ وبه (فانوس نفطي).. وتلفون (ابو الفّره).!
من يجي ثلج باب الملجأ مينفتح واتصل بضابط الهندسة ( زميلي بالكونكان).. يبعث جنود ل(كرف) الثلج.
     حياة قاسية ولكن صارت ذكريات جميلة.
      أتذكر في أحد الليالي كان الآمر قد قام بتوقيع (نموذج الإجازة) والمفروض بالليل بعد كم ساعة أنزل وأروح من أربيل الى بغداد ونلتقي في نقابة الأطباء مع من يكون قد نزل إجازة بالصدفة.
       في تلك الليلة جاء الحظ معي حيث أن ورقة (جوكر) شكلّت (كونكان), وخسر (أبو زكريا)! فما كان منهُ الاّ ان مزّق (نموذج الإجازة) وهو يقول:
"تنزل إجازة بعد يومين"!
 آمر... وعسكرية.. وبكيفه!
وكان جوابي: "حاضر.. سيدي"!
هذا ما اسعفتني بهِ الذاكرة. ومستحيل يكون بمستوى سرد سامي سلمان. لأنه يحتفظ بمجموعة كبيرة من الذكريات مدونة!


الرسالة التالية وصلتني من الزميل ا د عبدالرضا العباسي وإستأذنته في نشرها..

      الحروب بائسة وقاسية، وهي دوماً خسارة للإنسان وللأوطان، وربما تكون احياناً (شر لابد منه) ومنها (حرب الشمال) بين ابناء الوطن الواحد في مرحلة سبعينات القرن الماضي, ابّان خدمتنا العسكرية؛ مهما يدعي أحدنا من شجاعة وقيام بالواجب أثناء الحرب (ونحن ولا فخر، والحمد لله كنا قدر المسؤلية)، ولكن أستطيع ان أؤكد بأن هناك رجالاً شجعاناً متميزين من مختلف صنوف الجيش العراقي يحق لنا ان نفخر بهم ونقف لهم اجلالا واحتراماً. 
      في عام ١٩٧٤ وفي قاطع (قره داغ) و(دربندخان) حيث منطقة تجحفل لوائنا (المدرع السادس)، كنت ضابط طبيب في (وحدة الميدان التاسعة)، ومفارزنا كل شهر تتغير في أماكن مختلفة أتذكر منها قاطع (سرقلعة)، (باوه نور)، (جبل زمناكو) حيث خدمت بها جميعاً؛ عند عودتي من احد المفارز فرحاً الى مقر الوحدة في (جلولاء) حيث سوف الاقي اصدقائي وسنسهر في (نادي جلولاء) ونأكل (تكة وتشريب)، ونسبح يومياً، وقد ننزل نهاية الاسبوع لزيارة اهلنا في بغداد. 
     وانا جالس الغروب مع صحبتي, ومتحضرين للسهرة الممتعة, جاءني المراسل ليقول: "سيدي مقدم اللواء يريدك ألآن"!، 
      كان مقدم اللواء النقيب الركن (عبدالامير السعيدي) رائعاً ويحبني حيث خرجت معه واجبات قتالية عدة مرات؛ ذهبت متوجساً الى مقر اللواء، وكان الآمر وقتها العقيد الركن (صلاح القاضي) رحمه الله، وقد اعدم في الحرب العراقية الايرانية (يقولون لتخاذله!)؛ وأنا أعرفه قائداً ميدانياً شجاعاً ومهنياً ومقداماً؛ قال لي الآمر: 
" دكتور حضّر نفسك تجيلي للمقر ساعة عشرة بالليل، وتكون بالقرب من مقدم اللواء، عندنا الليلة حركة، ولا يجب ان يعلم احد بما قلته لك". 
      أديت التحية وخرجت الى مقدم اللواء مستفسراً اين سنذهب؟ قال "روح اتعشى واستعد ترجع بعد ساعة"!؛ خرجت لاألوي على شئ، واعتذرت من رفاقي الاعزاء!. 
      لبست جعبتي وسلاحي الذي خلعته قبل ساعات فقط, واتجهت الى المقر وجلست انتظر الحركة والتي لم تبدأ الا في الثانية بعد منتصف الليل وفي شهر كانون الثاني؛ إتجه الرتل نحو (دربندخان) وكالعادة مطفئين الانوار لكنني اعرف الطريق جيداً حيث عبرنا (كلار) ثم (باوة نور) الى جسر قريب من (دربندخان) تعلو قمة الجبل المشرف عليه ربية فيها سرية مغاوير بقيادة الرائد (كنعان)، والذين وجدناهم بانتظارنا على الجسر؛ خرجنا من المدرعات الى ضفة (نهرديالى)، وكان البرد قارصاً والهواء يلفح الوجوه؛ ونحن نرتجف من شدة البرد، وقد تجمع الثلج على معاطفنا لعدة سنتمترات خلال بضع دقائق.

أحضروا عبّارة بدائية (كلك) لعبور (نهرديالى) نحو جبل (زمناكو) المطل على (إيران), حيث المعلومات إن هناك عدداً من (العصاة) في اعالي الجبل، وكانت المدرعات البرمائية قد عبرت اول الليل قبلنا, والآن يجب ان يعبر المغاوير في العبّارة (الكلك), لإكمال المهمة.
        صعد المغاوير الكلك، وسرعان ما إنقطع الحبل, وتهاوى الكلك في منتصف ديالى وهو سريع الانحدار والجريان، ولا يمكن ايقاف انحدار الكلك!. 
        وهنا نزع احد المغاوير ملابسه وسط ذهولنا وانعقاد السنتنا، ورمى بنفسه في النهر ماسكاً الحبل وساحباً العبارة الى الشاطئ الاخر؛ وقد والله رجع لنا سباحة في ذلك الجو القارص البرودة، ولبس ملابسه ومعطفه, ثم حمل سلاحه وخرج دورية مع حضيرته حول الجبل, وسط اعجابنا الشديد وتقدير آمر اللواء؛ وجدنا انفسنا لاشئ أمام شجاعة هذا الجندي الباسل، رغم نجاح مهمتنا. 
      انحني اجلالاً واحتراماً لكل فرد في قواتنا المسلحة الباسلة.

كما وصلتني الرسالة التالية من الزميل الجراح الاستشاري المقيم في كندا عبدالمجيب عبدالكريم القاضلي وإستأذنته في نشرها.. 

       عند ادائي الخدمه العسكريه بعد ان امضينا حوالي ٨ اشهر تدريب في (مدرسة الطبابة العسكريه) في (معسكر الرشيد) حيث كان التدريب العسكري على مبادئ الانضابط العسكري مثل المشاة, بدات القرعه لتوزيعنا على وحدات الجيش في مختلف ارجاء العراق وكنت قد تزوجت لتوي من رفيقه عمري (سوسن محمد عباس) سمعت ان كثيرا من زملائي لديهم واسطات قد تمكنوا من الحصول على التعيين في (بغداد)..
       ذهبت لابن عمي العميد الطبيب (عبدالمحسن القاضلي) حيث كان اخصائي باطنيه MRCP وله علاقات طيبة وواسعة في المؤسسة العسكرية, وطلبت منه إن كان بالإمكان تعييني في بغداد او قربها؟ فاجابني بانه لن يفعل ذلك! واخبرني بانه رفض قبول اخيه (فيصل) للتطوع على نفقة الجيش لكون وزنه كان ٤٩ كيلوغراماً والظوابط تقول الوزن الادنى للقبول هو ٥٠ كيلوغراماً!
        حسب القرعه صدر تعيني على ملاك (الفرقه الثانيه) في (مستشفى كركوك العسكري) وتم منحنا رتبه (ملازم مجند طبيب), ذهبت الى (كراج النهضه) وركبنا سياره اجره نفرات (مرسيدس ١٨ نفر) لإلتحاق ب (م ك ع)!.
        عملت في قسم (الجراحه) وكان مستشفى ممتازاُ بمقاييس تلك الإيام. في احد الايام في شهر (تموز عام ١٩٧٦) كنت ضابط خفر, أُخبرت ظهراً بانه ستجلب (جثه شهيد) بواسطه طائره سمتيه. أخبًرت المنتسبين بوضع الجثه في (ثلاجه الموتى) التي هي عباره عن غرفه كبيره مبرده بعيده في أطراف المستشفى وقريبه من مهبط الطائره وكان وقت الغداء في بهو الضباط, لكني قررت ان أذهب لثلاجه الموتى لإكمال (شهاده الوفاة), قبل الغداء, كي أستمتع بنوم الظهر بعدها, حيث كان صيفاً حاراً.
     دخلت الثلاجه انا وعريف الخفر ووجدنا الجثه مسجية على الطاولة المعدنية (سديه) ومغطاة ببطانيه, وما ان رفعت الغطاء القماش, حتى جلس الشخص الذي حسبناه ميتاً!. اغمي على (عريف الخفر) الذي رافقني!. 
      كان الشخص الذي على ال(سديه) من أفراد (شرطة الحدود) الذين كانوا على الربايا. سالته عن ماحدث؟ أخبرني بان لديه (ألم ظهر شديد) وطلب عده مرات أن يرسلوه للمستشفى لعلاجه, لكن لم يلتفت اليه أحد, فاضطر للتظاهر بكونه ميتاً كي يرسلوه الى (م كركوك) للعلاج!.
      اخبرته بانه الان في (ثلاجه الموتى) والتي كانت مليئه بالجثث, وإنه لحسن حظه قد جئت للقاءه مبكراً, بدلا من تركه للمغرب كما كانت نيتي قبلأً, حيث كان سيتجمد داخل الثلاجه المقفلة والتي لايمكن سماع صوته لبعدها عن مبنى المستشفى!.
       بعد حوالي الشهرين الحقت بال(مركز الجراحي المتقدم) في (رانيه). كانت فتره هدوء نسبي آنذاك, ذهبت بسياره (واز) وبعد اجتياز (كويسنجق) عبرنا سلسلة جبال (هيبت سلطان) الشاهقه وانا عندي حالة ال(رهاب) من المرتفعات!. كان التنقل بقوافل وفقط اثناء النهار في مقدمه ومؤخره الرتل كانت عربات مدرعة, بعد جبل (هيبت سلطان) إجتزنا (جوارقرنه) ثم وصلنا (رانيه).
       المركز الجراحي المتقدم كان يشغل مبنى (مكتبه رانيه العامه), قاعات المطالعة حولت الى ردهات الجرحى, غرفه المدير حولت الى صاله العمليات, كانت الخدمات بدائيه, حيث طاولة العمليات ثابتة و جهاز الإمتصاص (Suction) يداربالضغط بالقدم, انارة العمليات كانت على البطارية!. 
      آمر المركز كان الرائد د (خميس الربيعي), جراح عسكري ممارس, المخدر كان (نقيب فلاح) لااذكر اسمه الكامل, الممرضين كانو عرفاء. 
       كانت الاحوال هادئة وأغلب العمليات بسيطه مثل إستئصال الزائدة الدودية وفتح الخراجّات, فرح كثيرا (رائد خميس) لوصولي, حيث اني كنت الجراح البديل, مع إن كل خبرتي كانت سنة (إقامه دوريه) في (مدينه الطب) بعد التخرج, والشهرين الذين قضيتهما في (م ك ع)!. 
       نزل الرائد (خميس الربيعي) في إجازته الى بغداد وفجأة صرت أنا الجرّاح الوحيد في (م ج م) في (رانيه)!. وفي أول ليله الساعة الثانيه ليلاً جلب لنا أحد الجنود. كان مصاباً بإنفجار لغم عند نزوله ليلاً على ظهر البغل, توفي البغل حالاً واصيب الجندي بشظايا في بطنه وكسورمركّبه بساقه. كان شاحباً لشده النزيف, ضغطه متحفظ, لايوجد عندنا (أشعّه) والفحص المختبري الوحيد المتوفرهو عمل (فصيله الدم) والمطابقة المبدأيه للدم. 
      كان يتلوى من الألم, ألفحص السريري أثبت وجود مدخل لشضايا في الجهه اليسرى لأعلى البطن, أدخلنا انبوب قسطرة في المثانه (Foley catheter) وكان البول عباره عن دم صافي!. تبرع له جنود (م ج م) بأربعة قناني دم اعطيت له بعد المطابقة, حيث ليلا لايوجود إخلاء جوّي أو بري, وكان الخيارالوحيد أمامي لإنقاذه هو إجراء عملية وفوراً!.
       أجريت له عمليه إستكشاف (فتح بطن) ورفعت (الطحال) و(الكلية اليسرى) الممزقتين, كذلك كان يوجد عده تمزقات بالامعاء الدقيقه قمت برتقها, وأصلحت كسر الساق بوضعه في ال(جبسونا), لحسن الحظ في الساعة السادسه فجراً إستيقظ الجندي من التخدير بحاله مستقره وتم إخلاءه في اليوم التالي الى (م ك ع).
        وجه لي قائد الفرقه الثانيه دعوه لزيارته في بهو الضباط في مقر الفرقه المتقدم في (رانيه) ووجه لي الشكر امام الضباط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب